الرئيسية / المكتبة الصحفية / الدكتور القرضاوي موجها للحركات الإسلامية من داخلها

الدكتور القرضاوي موجها للحركات الإسلامية من داخلها

 

(1)

آثرت أن ادير هذه الدراسة حول الافكار التي تضمنها كتاب «أين الخلل» للدكتور يوسف الدكتور القرضاوي ، إذ تتمثل أهمية هذا الكتاب في كونه أول كتاب يتعرض وبصراحة لظاهرة المعاناة من أجل الصواب والحق وهي ظاهرة صحية واجهتها الجماعات الإسلامية في مختلف المجتمعات الإسلامية المعاصرة.

أما الشيخ الدكتور القرضاوي نفسه  فبالإضافة إلي أنه عالم دين إسلامي مشهور تخرج في الأزهر ونال درجة الدكتوراة بعد دراسة خضعت بنسبة أو أخري لمنهج الدراسات العلمية الحديثة قانه  يحظى بقبول واسع النطاق من معظـم الحركات الإسلامية المعاصرة، الأمر الذي يعطي لأفكاره في هذا الموضوع وزنا خاصا كما يعطي للأطر التي اختارها لأفكاره مصداقية علمية وبحثية .

(2)

يأتي في مقدمة أسباب اختيارنا للدكتور الدكتور القرضاوي ولهذا الكتاب، أنه حدد منذ البداية الهدف منه، ووضع يده علي العناصر الرئيسية في كتابته، بحيث جعله ثلاثة أجزاء:

الأول : وقفة مع الأمة الإسلامية.

والثاني : وقفة مع الحركة الإسلامية.

والثالث : وقفة بين العمل والأمل.

وفي كل جزء من هذه الأجزاء استطاع الدكتور القرضاوي أن يمتد بأفكاره ليتعمق العوامل الخفية في كل مسألة من المسائل المعروضة علي بساط البحث.. وعلي الرغم من أنه  لم يحدد موقفا واضحا من كل قضية من تلك التي يطلق عليها تعبير  «القضايا الشائكة في التحرك الإسلامي»، إلا أنه بلا شك استطاع أن يوجه الفكر وينير الطريق في هذه المسائل التي قد تشغل بال الكثيرين من المهتمين بالحركة الإسلامية.

ومن المؤكد أن قراءة هذا الكتاب سوف تعطي للمراقبين كما تعطي لأبناء الحركة أنفسهم كثيرا من الضوء حول الفكر الإسلامي بصورة عامة، وقضايا المجتمع الإسلامي المعاصر أيضا.

وسوف يكون بإمكان الذين يكتبون في المستقبل عن هذه الحركات من منطلق التطورات الاجتماعية والسياسية أن يحددوا أفكارا جديرة بالتأمل والنقد والتعقيب في هذا الكتاب.

ومع أن الدكتور الدكتور القرضاوي لم يكتب هذا الكتاب جملة واحدة، كما يتضح من المقدمة والفصل الأخير، إلا أن المؤكد أن الروح التي كانت وراء هذا الكتاب كانت متسقة مع نفسها في كل الأوقات.

(3)

يصدق في وصف هذ الكتاب القول بأنه لم يضع إجابة محددة علي السؤال كما ذكرنا من قبل وكما هو الحال أيضا في كتاب الدكتور القرضاوي «الحلال والحرام في الإسلام»، إلا أن الإنصاف يقتضينا أن نقرر أن الإجابات الواضحة والمحددة ليست هي الهدف من هذه الكتب بقدر ما يتمثل الهدف منها في إلقاء الضوء علي المفاهيم المتعارضة والتي قد تكون وراء احتجاب الإجابة الواضحة خلف الستر الكثيفة المتراكمة نتيجة ممارسات متصلة قائمة علي غير أساس واضح من الفكر، ونتيجة الاجتهاد المطلق في زمن يتبرر فيه القيام بأية حركة لكسر الجمود الذي يحيط بدائرة الأمل في تجديد المجتمع الإسلامي.

لكل هذه الأسباب تتضح أهمية أخذ هذا الكتاب مأخذ الجد حتي ولو كان أهل هذه الحركات أنفسهم لم يظهروا مثل هذا الاهتمام بالكتاب الذي مر صدوره بدون جلبة ترحيب كالعادة.. ولكن الذي لاشك فيه أن قلة الضجيج حوله كانت بسبب انتهاجه في العرض الأسلوب العلمي إلي حد كبير، والمنهج الواضح في هذا الكتاب فقد كانا كفيلين بالحد من انتشار الكتاب علي نحو مثير كان متاحا لو كان المؤلف قد عرض أفكاره فيه بطريقة صحفية مثيرة، أو حتي أعاد ترتيب الفصول وجعل عنوانه موحيا بشيء مخيف أو سر دفين « لا يعلمه الناس وسوف يكشف عنه الكتاب»

(4)

وليس هذا الكتاب تشخيصا لأحوال الحركة الإسلامية أو مصاعبها.. مع أنه يصدر عن قلم عالم مسلم متمكن يعد واحدا من نجوم الحركة أو دعاتها بحكم التعاون حتي وإن لم يكن كذلك بحكم الانتماء.. ومع هذا فإنه من أبرز الكتابات التي سوف تساعد علي هذا التشخيص عند الحاجة إليه، سواء تمثلت هذه الحاجة في المجتمع العلمي أو المجتمع السياسي أو عند الذين يريدون أن يوجهوا طاقات هذه الأمة نحو هدف منشود.. أيما كان هدفهم وإخلاصهم للعمل الإسلامي العام.

(5)

يبدأ الدكتور يوسف الدكتور القرضاوي وقفته بطرح سؤال يراد به تحديد موضع الخلل، ويصوغ الدكتور القرضاوي سؤاله علي أكثر من وجه حتي ينتهي بأقربها إلي الاتهام :

  • هل تتجسد مشكلتنا في عدم وجود الطبيب القادر علي التشخيص،
  • أم في عدم وجود الدواء الناجح في اقتلاع الداء؟
  • أم أن المريض نفسه غير قابل للدواء ولا يتجاوب مع العلاج؟

وبعد قليل جدا من المناقشة ينتهي الدكتور القرضاوي متأثرا بطريقة الخطباء إلي إبراز الحقيقة التي يريد توصيلها  فيقول في شيء من الحماسة «وجدنا الأمر أكبر وأعمق من مجرد (خلل) إنه غيبة عن الوعي، إنه فقدان الهواية، إنه التيه من الغاية ومن بعده ـ بالضرورة ـ ضياع الطريق!!».

ولا يقلل هذا التقرير الخطابي من قدر ما يأتي بعد ذلك من تحليل ممتاز، ذلك أنه يظل في امكان الدكتور القرضاوي في طبعة قادمة أن ينقل مثل هذه الفقرة التقريرية إلي آخر التحليل فيبدو وكأنه يصيب كبد الحقيقة من غير مشقة كثيرة.

6

يبدو الدكتور القرضاوي في تحليله المادي طوال هذا الكتاب ، فواضح الفكر، محدد الرواية، غير محدد الخبرة أو الفهم.

فهو يبدأ بتحليل ذاتية الأمة منتهيا إلي أنها نسيت نفسها لأنها تركت الوسطية، وتركت الوحدة.

ثم ينتقل إلي النظر إلي الأمة الإسلامية في ضوء معايير التقدم المادي المعاصر، فيجد المسلمين في الأعصر الأخيرة وقد «رضوا بالزرع وتبعوا أذناب البقر»، ثم ينتبه إلي تعطل الطاقات في الأمة المسلمة «فأرخص شيء عندها هو الوقت، وأثقل شيء عليها هو العمل، وأقل الثروات عندها قيمة هو الإنسان».

“طاقاتها العقلية معطلة «وكفانا عارا أن عشرين دولة تعلم العلوم بلغات أجنبية، معترفة بعجزها عن تعليمها بالعربية، وأن إسرائيل دولة المليونين أو الثلاثة تعلم العلوم بالعبرية».

… « والعجب من أمة أول آية نزلت في كتابها «اقرأ» لا تحسن أن تقرأ، وإذا قرأت لا تحسن أن تفهم، وإذا فهمت لا تحسن أن تعمل، وإذا عملت لا تحسن أن تستمر».

وينتهي الدكتور الدكتور القرضاوي في حديثه عن الطاقات العقلية المعطلة إلي ذات الفكرة التي تدور كثيرا جدا في كتابات المفكر الإسلامي الأستاذ وحيد الدين خان وهو يقول في صراحة ووضوح : «لقد ابتدعنا في دين الله والابتداع في الدين ضلالة، وجمدنا في شئون الدنيا والجمود في الدنيا جهالة، وكان الأجدر بنا أن نعكس الوضع فنتبع في أمر الدين ، ونبتدع في أمر الدنيا، فروح الدين الاقتداء والاتباع ، وروح الدنيا الابتكار  والابتداع».

(7)

 يدعو الدكتور القرضاوي بعد ذلك في وضوح شديد إلي ألا يطغي الكلام علي العمل، وهو يتعمق هذا المعني بشيء من النظر في تاريخ الإسلام نفسه وينتهي إلي أن يقول:

«ولعل هذا بعض السر في نزول القرآن الكريم منجما في ثلاث وعشرين سنة ليتيح الفرصة للمؤمنين أن يحولوا كلمات الله المنزلة إلي عمل صالح وإلي حياة نابضة ناطقة »

وبروح المفكر ذي النظرة الثاقبة يرشدنا الدكتور القرضاوي إلي آية كريمة في القرآن الكريم تصور حالنا اليوم حين نهتم بتشييد القصور قبل اهتمامنا بالآبار ومصادر المياه ويري الدكتور القرضاوي هذا شبيه تماما بأصحاب القري الظالمة الذين تحدثت عنهم آية سورة الحج ـ 45، التي دمرها الله علي أهلها «فهي خاوية علي عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد».

وبنفس الرؤية ينظر الدكتور القرضاوي إلي موقف الأمه الإسلامية من أمر الطاقات العددية «فقد انقسمنا قوميا بين عرب وعجم، وفكريا بين تقدميين ورجعيين، وسياسيا بين موالين للغرب وموالين للشرق، إلي غير ذلك من أنواع التمزق والانقسام».

 والأدهى من ذلك في نظر الدكتور القرضاوي أن «أصبح أكبر هم الكثيرين منا من زاعمي الإصلاح ـ لا زعمائه ـ أن نقلل عددنا ونحدد نسلنا، وفي الأرض أمم مختلفة لم تشك من كثرة سكانها كما نشكو، بل اجتهدت أن توظف الكثرة في خدمة الإنتاج».

8

يري الدكتور القرضاوي أن تعطيل الطاقات الروحية هو أكبر المشكلات التي تواجة المجتمع الإسلامي اليوم فالروحانيات هي أهم هذه الطاقات: «ولم تساعد مناهجنا التعليمية وأجهزتها التوجيهية علي تكوين المعاني الربانية في نفوسنا، وصدق ما قاله المفكر المسلم محمد إقبال حين قال عن المدرسة الحديثة إنها قد تفتح أعين الجيل الجديد علي حقائق ومعارف، ولكنها لا تعلم عينه الدموع ولا قلبه الخشوع».

ويلتفت الدكتور القرضاوي إلي كثير من الأفكار المهمة في هذا المجال، ويلفت نظرنا إليها في حسم ووضوح « فنحن نقرأ القرآن علي الأموات، ولا نحكمه في الأحياء، وعلي حين أن اليهود «تشبسوا بتعاليم التلمود، سخرنا نحن من البخاري ومسلم»، وقال زعماؤهم في اعتزاز هكذا علمنا أنبياؤنا واعتز زعماؤنا بماركس ولينين.

(9)

ثم يطرح الدكتور القرضاوي تساؤله المهم : هل تقع المسئولية علي الحكام وأصحاب السلطان؟ إن الأكثرية تميل إلي تحميل الحكام وزر ما نحن فيه.. ويعدد الدكتور القرضاوي أسبابا ثلاثة لهذا:

(1) فالشعوب تحب أن تحمل عبء تبعتها علي عاتق حكامها

(2) وهي تنفس عن نفسها بذلك

(3) والمسئولية بقدر المكنة والسلطة، والحكام قد مكنوا وسلطوا.

ومن ناحية أخري يلفت الدكتور القرضاوي النظر إلي المسئولية التي يمكن القاؤها علي عاتق العلماء ويتساءل الدكتور القرضاوي أيضا: هل تقع المسئولية علي العلماء باعتبارهم ورثة الأنبياء؟ ولكن الدكتور القرضاوي يميل في هذا الجانب إلي أن يكون أكثر واقعية في هذا الشأن ، «فالحقيقة أن علماء اليوم لم يعودوا وحدهم في الميدان كما كانوا في العصور الماضية، فقد غدا الذين يملكون الكلمة المقروءة والمسموعة والمرئية في أجهزة الإعلام أشد تأثيرا في الجماهير من أصحاب المنابر».

أما إلقاء المسئولية علي عاتق الجماهير فهو البعد الثالث الذي يعالجه الدكتور القرضاوي بمنطق برجماني ، وفي هذا المجال يكتفي الدكتور القرضاوي بسرد قصة طريفة ملخصها أن أحد المستمعين قال لأحد الدعاة بعد محاضرة ألقاها: «قد مضي لكم ثلاثون سنة وأنتم تتكلمون فماذا صنعتم؟ وكان جواب الداعية مفحما حين قال: «وأنتم مضي لكم ثلاثون سنة وأنتم تسمعون فماذا صنعتم؟!»، ويعقب الدكتور القرضاوي علي القصة بقوله : « وهذا حق، فإن علي المستمع كما علي المتكلم، مسئولية تحويل الكلام إلي عمل، والأفكار إلي واقع، وإن اختلفت درجة المسئولية».

(10)

وفي بداية الفصل الذي خصصه للوقوف مع الحركة الإسلامية يعرف الدكتور الدكتور القرضاوي الحركة الإسلامية بأنها «مجموع العمل الإسلامي الجماعي الشعبي المحتسب المنبثق عن ضمير الأمة والمعبر بصدق عن شخصيتها وآلامها وآمالها، وعقائدها وأفكارها وقيمها الثابتة، وطموحاتها المتجددة وسعيها إلي الوحدة تحت راية العقيدة  منذ هدمت قلعة الخلافة».

ويميل الدكتور القرضاوي بتعريفه وفكره إلي أن يكون استيعابيا اكثر منه استبعاديا فهو مع تقديره لحركة الإخوان المسلمين التي هي في رأي الدكتور إسحاق موسي الحسيني (منذ أكثر  ثلث قرن) أم الحركات الإسلامية الحديثة وكبراها، يمتد بالتعريف ليشمل غيرها من الحركات.

ومع أن الدكتور القرضاوي لا يلقي بمسئولية التمزق أو سير الأحداث في الأمة الإسلامية علي عاتق الحركة الإسلامية لأنه يؤمن أن قوي الطغيان الخائفة من الإسلام تقاومها في الداخل، وقوي الاستعمار الكارهة للإسلام تقاومها في الخارج..

كما أنه يؤمن أيضا بأنه لا ينبغي أن نجعل النجاح أو الإخفاق مقياسا للصواب والخطأ ومعيارا للحق والباطل.. ومع هذا كله فهو يري «أن الحركة الإسلامية ليست مبرأة من كل مأخذ، أو أنها فوق النقد والنصح كما يتوهم بعض المخلصين من أتباع الحركة حيث يخلط بين الحركة الإسلامية والإسلام ذاته، فنقد الحركة يعني لديه نقد الإسلام، كما يصنع هذا بالفعل بعض العلمانيين الذين ينقدون الحركة فينقدون الإسلام وأحكامه وشرائعه»

 وهكذا يصل الدكتور القرضاوي إلي موقف فكري يتيح له أن ينقد الحركة الإسلامية في وضوح وصراحة .

(11)

يري الدكتور الدكتور القرضاوي أن أول ما يشكو منه ذوو البصائر داخل الحركة الإسلامية هو أن النقد الذاتي فيها ضعيف إن لم يكن غائبا في بعض الأحيان، ويوصل الدكتور القرضاوي مفهوم النقد الذاتي فيرجع به إلي تعبير القرآن «النفس اللوامة» والحديث الشريف: «الكيس من دان نفسه». وقول بعض السلف : « المؤمن أشد حسابا لنفسه من سلطان غاشم ومن شريك شحيح».

وبذكاء شديد يلفت الدكتور القرضاوي نظرنا إلي حقيقة ربانية مهمة، وذلك حيث يقول :

«والله قد عصم هذه الأمة أن تجتمع علي ضلالة، ولكنه لم يعصم أية جماعة  منها أن تخطئ أو تضل، وخصوصا في القضايا الاجتهادية التي تتعدد فيها وجهات النظر، وتتعدد المواقف فيها قابلة للصواب والخطأ».

وينصح الدكتور القرضاوي الحركات الإسلامية :

 «أن تشجع أبناءها علي تقديم النصح وإن كان مرا، والنقد وإن كان موجعا، كما كان عمر رضي الله عنه يقول: «رحم الله امرءا أهدي إلي عيوب نفسي».

12

مع هذا فإن الدكتور القرضاوي يعرض الجانب الآخر من الإشكالية وهو يستعرض بذكاء شديد « أيضا » المحاذير التي قد تكون وراء الخوف من فتح باب النقد الذاتي، فبعض المخلصين يخافون إن فتح هذه الدراسة «أن يلجه من يحسنه ومن لا يحسنه، فقد يفسد أكثر مما يصلح» ،

وهنا يذكر الدكتور القرضاوي أن هذا هو نفس العذر الذي جعل بعض العلماء قديما يتواصون بسد باب الاجتهاد حتي لا يدخل منه الأدعياء والمتطفلون، ولكن «الواجب هنا وهناك أن يفتح الباب لأهل القادرين عليه ولا يبقي في النهاية إلا النافع، ولا يصح إلا الصحيح».

 وهو يفرق بين نقد القادة ونقد الحركات

ويردف الدكتور القرضاوي بذكر السبب الثاني « والأهم في رأينا »  وراء الإحجام عن إتاحة الفرصة للنقد الذاتي، فأصحاب هذا الرأي يخافون «أن يصور النقد لأفكار بعض قادة الحركات الإسلامية بصورة الاتهام لهم»، ويرد الدكتور القرضاوي علي هذا الاحتمال بوجهة نظر تتميز بالبساطة الشديدة ولكنها مقنعة وهو يقول: «فحسن البنا في أصوله العشرين أكد أن كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا النبي صلي الله عليه وسلم» و «سيد قطب انتقل من مجرد أديب ناقد مبهور ببلاغة القرآن إلي كاتب إسلامي يدعو إلي عدالة الإسلام.. ثم إلي داعية حركي له أفكاره الخاصة».

 (13)

هنا ينبغي لنا أن نتوقف قليلاً لنلفت نظر القارئ إلي رأي مهم وممتاز للدكتور القرضاوي في سيد قطب وهو يستأنف كلامه أو نحن نستأنف نقل كلامه عن سيد قطب وهو يصرح برأيه فيقول إن سيد قطب كانت «له أفكاره الخاصة في منهج التغيير، والنظرة إلي المجتمع، والدعوة إلي العقيدة بدل الدعوة إلي النظام (مرحلة المعالم، والطبعة الثانية من الظلال)، وقد ذكر هو ذلك عن نفسه لبعض تلاميذه، فقال له أحدهم إذاً أنت لك مذهبان: قديم وجديد كالشافعي، فقال له: نعم ولكن الشافعي غير في الفروع وأنا غيرت في الأصول».

 ويردف الدكتور القرضاوي هذه العبارة بقوله :

 «ومن يدري لعل البحث الناقد يجد أن مذهبه القديم ـ في بعض القضايا علي الأقل ـ أدني إلي الصواب من مذهبه الجديد» وهكذا نجد ميل الدكتور القرضاوي الواضح إلي الابتعاد عن الانتماء إلي أفكار سيد قطب في مرحلته الأخيرة .

14

ومع أن الدكتور القرضاوي يقدر خطورة اللعب بالنقد الذاتي خصوصا علي أيدي ذوي النزعة اليسارية كما فعلوا في كتابه «الحل الإسلامي» علي طريقة الشاعر السكير:

ما قال ربك : ويل للألي سكروا           بل قال ربك: ويل للمصلينا

إلا أنه باطمئنان المفكر يختم حديثه في هذه القضية بقول يعبر عن عقلية متفتحة وناضجة: «وقد حرف الناس كلمات الله عن مواضعها، ولكنها بقيت مضيئة هادية، وكلامنا نحن البشر ليس أولي بالحفظ من كلام الله».

15

ونأتي إلي رأي الدكتور القرضاوي في « الانقسام والاختلاف » وجوهر رأي الدكتور القرضاوي في هذه المسألة هو الدعوة إلي التقارب لا الوحدة وهو يقول في صراحة ووضوح إنه تبني هذا الرأي ويعلل ذلك بقوله «لأني لا أنكر تعدد الجماعات العاملة للإسلام، ولا أطمع أن ينضوي الجميع في جماعة واحدة، يضمها تنظيم واحد، تحت قيادة واحدة، فهذا حلم جميل، ولكن دون تحققه صعوبات لا يسهل تذليلها إلا أن ينقلب البشر إلي ملائكة ذوي أجنحة».

ومع هذا فللدكتور القرضاوي أفكار ممتازة في تعدد الجماعات «إذا كان تعدد تنوع وتخصص لا تعدد تضاد وتناقض»: وهو يضرب الأمثلة علي هذا التقدير المطلوب :

  • فجماعة تتخصص في تحرير العقيدة من الخرافة والشرك وتصليح عقائد المسلمين وفق الكتاب والسنة.
  • وأخري تتخصص في تصحيح العبادات وتطهيرها من البدع والشوائب وتفقيه الناس في دينهم.
  • وثالثة تعني بمشكلات الأسرة والمرأة، والدعوة إلي الحجاب الشرعي ومقاومة التبرج والانحلال.
  • ورابعة تعني بالعمل السياسي وخوض معارك الانتخابات، (والوقوف في وجه الأحزاب العلمانية) …. هكذا في النص وهو تعبير يدل علي روح المواجهة عند الدكتور القرضاوي !! حتي ولو في الضمير غير الواعي!!
  • خامسة تهتم بالعمل التربوي أو العمل الاجتماعي وتبذل فيه جهدها ووقتها.. وهكذا.

ثم يقول الدكتور القرضاوي : «يخاطب الأولون العواطف، ويستثيرون مشاعر الإيمان، علي حين يخاطب الآخرون العقول والأفكار، وبخاصة عقول أولئك المغزوين للثقافة الغربية بشقيها: الليبرالي والاشتراكي».

 

16

يعاود الدكتور القرضاوي التأكيد علي انتقاده الشديد للمبالغة في الحرص علي الوحدة التي لا تكون إلا سببا إلي الفرقة، ويقول:

«وأولي من ذلك الاعتراف بتعدد الاجتهادات وتنوع الأساليب بناء علي تعدد زوايا الرؤية، والاختلاف في ترتيب الأهداف، وفاعلية الوسائل وتقدير الأولويات، ومدي المعينات والعوائق إلي غير ذلك مما يتغير فيه الاجتهاد أو الفتوي بتغير الزمان والمكان والحال والملابسات ولكل مجتهد نصيب، ولك امرئ ما نوي».

وفي صراحة شديدة ووضوح فكري ملموس يحصر الدكتور القرضاوي أهم الجماعات الإسلامية العاملة: الإخوان والسلفيين والجهاد والتحرير الإسلامي، والتبليغ.. إلخ، ثم يدعو إلي أساس مشترك للتعاون بين هذه الجماعات جميعا ويعبر عن هذا في وضوح أشد بقوله :

«وأعتقد أن الأصول العشرين التي وضعها الإمام الشهيد حسن البنا وجعلها أساسا لوحدة الفهم عند العاملين للإسلام.. والتي صاغها صياغة فيها كثير من الحكمة والاعتدال.. هذه الأصول يمكن أن تكون مرتكزا للقاء فكري مشترك بين الجماعات المذكورة إذا صدقت النيات».

17

وينتقل الدكتور الدكتور القرضاوي بعد هذا إلي أن يذكر أن غلبة الاتجاه العاطفي علي الاتجاه العقلي والصحي تمثل ثالثة الآفات التي تعاني منها الحركة الإسلامية، وقبل أن يتعرض الدكتور القرضاوي لهذه الآفة في حد ذاتها فإنه يخصص فقرات مهمة وطويلة للحديث عن «أهمية العاطفة في الحركة الإسلامية» وفي هذا الصدد نقتطف من حديثه قوله :

 «فالإسلام مع احترامه للعقل ودعوته للنظر والفكر ليس مجرد فلسفة عقلية منطقية جامدة، إنه يشتمل علي جانب عاطفي في تعاليمه لا ينكره أحد، مثل الحب في الله والبغض في الله، والفرح بتوفيق الله، والحزن علي معصية الله، والخوف والرجاء وغيرها من (الأحوال) النفسية التي عني بها وفصلها أهل التصوف في كتبهم»..

«وهذا الجانب لابد منه للحركة لتوفير قدر من الحماسة يدفع إلي العمل وإلي البذل، وكذلك لربط القلوب برباط المحبة والأخوة التي قد ترتقي فتصل إلي درجة الإيثار».

ويروي الدكتور القرضاوي كيف كان الإمام حسن البنا منتبها إلي أهمية وحدة المشاعر بين أفراد جماعته، ولهذا جعل الأخوة من أركان البيعة، وكان من كلماته المأثورة إن دعوتنا تقوم علي دعائم ثلاث: الفهم الدقيق، والإيمان العميق، والحب الوثيق».

18

وينتقل الدكتور القرضاوي بعد هذا إلي الجانب المرضي من العاطفة فيبدأ بتناول الظواهر الدالة علي غلبة العاطفة و يري الدكتور الدكتور القرضاوي أن هناك مظاهر ثلاثة ـ علي الأقل ـ لهذا التجاه الجانح إلي تغليب العاطفة علي العقل والعلم وأن هذه الدلائل هي :

  • قصور الدراسة والتخطيط.
  • العجلة.
  • المبالغة.

وسوف نعرض لكل مظهر من هذه المظاهر علي النحو الذي تناوله به مفكرنا الكبير، وبإيجاز  شديد.

19

أما فيما يتعلق بالمظهر الأول وهو قصور الدراسة والتخطيط فان الدكتور الدكتور القرضاوي يبدأ عرضه لهذه القضية بذكر أن النبي صلي الله عليه وسلم بعد هجرته إلي المدينة، طلب إحصاء بعدد من يلفظ بالإسلام فأحصوا فكانوا ألفا وخمسمائة، كما روي ذلك البخاري ومسلم.

ويتعرض الدكتور القرضاوي بالهجوم للمذهب الذي يؤمن أصحابه بقول القائل: الدراسة تأتي بعد العمل ، المهم أن نبدأ العمل ونمضي ولا نقف ساكنين، أنا أؤمن بالأعمال الناقصة!! لنبدأ العمل ناقصا أو خاطئا، ثم يأتي غيرنا فيكمل النقص ويصحح الخطأ.

ويصرح الدكتور القرضاوي بأنه يقدر دوافع ومبررات مثل هذه الفلسفة، ولكنه يعتقد أن الذي أكدته التجارب أن ترقيع العمل المطلوب أو تقويم المشروع الأعوج، أصعب بكثير من بدئه من الألف بداية صحيحة.

ويركز الدكتور القرضاوي بعد ذلك علي أهمية التخصص في العلوم الحديثة جدا والمهمة جدا، «فلابد من التخصص الذي يعتبر في نظر الشريعة من فروض الكفايات الواجبة علي الأمة مجتمعة، ولا يجوز أن تتكدس القدرات والكفايات في كل مجال، علي حين يغفل مكان آخر، يحتاج إلي من يقوم به فلا يجد» .

وبوعي شديد بقضايا التنمية المعاصرة فان الدكتور القرضاوي يستشهد بموقف القرآن الكريم حين عاب علي المسلمين في عصر النبوة أن يتجهوا كلهم إلي الجهاد ونزلت الآية القرآنية الكريمة : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون }.

20

أما فيما يخص العجلة وهي ثاني مظاهر العواطف علي الحركة الإسلامية فإن الدكتور القرضاوي يلفت النظر إلي أن هذا العيب ليس إلا أثراً من  آثار غلبة العاطفة والانفعال علي منطق العلم والعقل والتخطيط، ويستشهد مفكرنا ما أمكنه بآيات الصبر في القرآن الكريم، ثم يردف هذا بقوله :

«إن الاستعجال جعل الحركة الإسلامية تخوض معارك قبل أوانها وتخوض أخري أكبر من طاقتها ، وتحارب الشرق والغرب مرة واحدة ، وتدخل نفسها مداخل لا تستطيع الخروج منها، مع أن الله سبحانه وتعالي لم يكلفنا إلا وسعنا، ولا يحل لنا أن نكلف أنفسنا من البلاء ما لا نطيق فنعرضها للفتنة».

وبعد أن يستعرض الدكتور القرضاوي تجارب النبي موسي وأخيه هارون و بعض التجارب الأخرى التي تحدثت عنها الأحاديث النبوية الشريفة ، يعترف في أسي مشوب بالأمل فيقول :

«وكم تمنيت وأعلنت في مناسبات مختلفة للحركات الإسلامية في الفترة التي كان لها فيها حرية التحرك والنشاط أن تدخر قوتها، ولا تورط نفسها في مواجهات ومعارك يدفعها إليها المغامرون المتعجلون أو يستدرجها إليها المخططون الماكرون.. وأن تشغل نفسها بنشر الدعوة إلي الإسلام الصحيح بالحكمة والموعظة الحسنة.. وأن تدع التفكير في استخدام القوة والعنف والاصطدام بالسلطات الحاكمة لمدة عشرين سنة، وستجد بعدها أنها أحدثت (ثورة سلمية) في المجتمع كله وحققت انقلابا فكريا ونفسيا وأخلاقيا من غير أن تشهر سلاحا أو تعلن جهادا».

…………………………………..

هكذا يمكن لنا القول مستندين إلي نصوص الدكتور القرضاوي نفسه أنه ليس كما يبدو للوهلة الأولي من سياق كلامه، ذلك الرجل الذي يؤجل العنف حتي الاستعداد ولكنه يؤجله إلي لحظة لا يكون للعنف فيها داع أبدا.

 

21

يعد الدكتور القرضاوي «المبالغة» آفة من آفات الأمة التي تأتي بصورة تابعة للعاطفة ويعبر عن هذا المعني بوضوح شديد فيقول «ولهذا شاع أفعل التفضيل علي ألسنة دعاتها وأقلام كتابها: الأعظم والأقوى، والأفضل، والأمثل والأحقر، والأضعف.. إلخ».

ويتطرق الدكتور القرضاوي من هذا المدخل مباشرة إلي التأمل في طبيعة نقدنا للحضارة الغربية وقيامها علي المادة والنفعية والعنصرية.. إلخ.. ويتدارك الأمر بقوله: «ولكن لا ينبغي أن ننسي أن في الحضارة الغربية نقاط قوة يجب أن تذكر لها من باب الإنصاف أولا، ومن باب معرفة الخصم علي حقيقته ثانيا»، ويضرب الدكتور القرضاوي بعض الأمثلة التي توضح فكرته فيقول : من ذلك: قيامها علي العلم التجريبي، وحسن الإدارة والتنظيم، والتعاون أو عمل الفريق، والاهتمام بالأخلاق الاجتماعية واحترام الإنسان وحرياته وحقوقه…».

ويروي الدكتور القرضاوي في هذا المقام  تفصيلات صورة علي جانب كبير من الأهمية فيقول :

 «قال القرشي عند عمرو بن العاص: سمعت رسول الله (صلي الله عليه وسلم) بقول: تقوم الساعة والروم أكثر الناس، فقال له عمرو: أبصر ما تقول ! قال: أقول ما سمعت من رسول الله (صلي الله عليه وسلم)، قال: لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك».

ويعقب الدكتور الدكتور القرضاوي علي شهادة عمرو بن العاص بأنها نتاج الإسلام الذي علم رجاله أن يكونوا «قوامين بالقسط شهداء لله ولو علي أنفسهم…».

22

ونمضي مع مفكرنا الجليل إلي  رابع نقطة من نقاط الضعف في الحركة الإسلامية بعد غياب أو ضعف النقد الذاتي، والانقسام والاختلاف، وغلبة الاتجاه العاطفي علي الاتجاه العقلي والعلمي، (وهي النقطة التي انضوت تحتها ثلاث جزيئات فرعية انتهينا من تلخيصها منذ قليل : قصور الدراسة والتخطيط، المبالغة، العجلة ) .

هذه الآفة الرابعة هي الخوف من التجديد ويعبر الدكتور القرضاوي عن هذا المعني في حق الحركة الإسلامية بقوله : «إنها تخاف من الاجتهاد، ولا ترحب كثيرا بالتجديد، ولا تميل إلي الانفتاح ومواكبة التطور».. وبعد فقرات مطولة في وصف هذا الخلق يصل الدكتور القرضاوي إلي جزئية مهمة يعبر عنها بعبارات واضحة ساطعة حيث يقول :

 «وتضيق بالمفكرين من هذا النوع الذي يصعب صبه في قالب مجري لا يفارقه أو حبسه في قمقم فكري لا يخرج منه، وربما تصدر في شأنهم قرارات أشبه بـ (قرارات الحرمان) بحيث لا تقرأ كتبهم، ولا تشهد حلقاتهم»… والحركة نفسها تستريح بانسحاب هؤلاء المفكرين منها «لأنهم يحركون السواكن ويثيرون البلبلة».

23

ويستعرض الدكتور القرضاوي بعد هذا ما يستنكره من تجارب – للأحزاب الإسلامية ويلخص موقف هذه الأحزاب بقوله: «يفرض بعضها علي أتباعه نوعا من الثقافة المحفوظة التي تردد وتكرر مفاهيمها كأنها قرآن يتلي».

ويري الدكتور القرضاوي أنه «في ظل هذا المناخ الفكري نجد الآراء المتشددة والمواقف المتشنجة رواجا واقبالا، ويعتبر أصحابها أبطالا».

ثم يجأر الدكتور القرضاوي برأي مهم ومخلص لعله أكثر الآراء  في هذا الكتاب كله جرأة وشجاعة حيث يقول:

أن الانحراف يتمثل في توظيف العلم في اتباع هوي السلاطين، ونسوا أن يضيفوا إليه توظيف العلم في اتباع أهواء الجمهور، وفي رأيي أن اتباع أهواء العامة أشد خطرا من اتباع هوي السلطان، لأن الذين يتبعون السلاطين يكشفون ويرفضون، أما الذين يتبعون أهواء الجماهير فهم في نظرهم الأبطال الصادقون».

وفي نهاية حديثه يؤكد الدكتور القرضاوي وعيه بأن بعض أبناء الحركة قد «يضيقون بهذا النقد ويفزعون منه»، ولكنه مع ذلك يذكره ويصف فعله هذا بأنه يقوم به «احتساباً لله ونشدانا للكمال».

24

لا يستطيع منصف أن يتجاهل العقلية الممتازة، والتحليل الواعي الذي يتمثل في فكر الدكتور القرضاوي الذي ظهر في تحليله الدقيق لهذه العيوب ، ومع أنه لاشك في أن هناك عيوبا أخري كثيرة تعتري مسيرة الحركة الإسلامية، فإن من المؤكد أن الدكتور القرضاوي استطاع أن يضع يديه علي عيوب بارزة قد تكون بمثابة المحدد الأول لقدرة الحركة في المستقبل علي تجديد دمائها، وتنقية أجوائها، والمضي إلي المستقبل بعقلية أكثر تفتحا ونظاما وانتظاما.

ولكن المتأمل للأوضاع الراهنة لا يستطيع أن يغفل مثلا أن الدكتور القرضاوي لم يتعرض علي الإطلاق للعيوب التنظيمية البارزة التي لا تتضح معها صورة الحركة الإسلامية في أذهان الجماهير و من ثم تتحول عندهم إلي صورة متضخمة من صور الحركات السرية.

25

 كان في وسع الدكتور الدكتور القرضاوي لو أعطي هذه النقطة بعض الاهتمام أن يخلص بنا إلي كثير من النتائج الإيجابية والمهمة التي قد تتضح معها الصورة بصورة أفضل في أذهان العاملين في هذه الحركات.

كذلك فإني أعتقد أنه كان من واجب مفكرنا الكبير أن يتعرض إلي مدي الاهتمام الموجه الي الناحية الإعلامية في برامج الحركات الإسلامية، وإلي المحاذير التي تستدعيها ممارسة هذه السياسات الإعلامية مع العمل العام الذي يحتاج الي كثير من الخبرة، وكثيرا من القدرة علي مخاطبة الجمهور سواء داخل الحركة أو خارجها، وبخاصة أن أبرز مصاعب الحركة الإسلامية ( فيما يبدو لي ) لم ينشأ إلا من هذا المجال، حين يصبح من السهل أن ينسب إلي الحركة ما ليس فيها، وتصبح الحركة بالتالي معرضة لكثير وكثير جداً من النقد والانتقاد الذي لا أول له ولا آخر والذي لا يمكن التصدي له إلا بوسيلة واحدة هي أن يعرف الآخرون الحقيقة قبل أن يندفعوا في مثل هذه المواقف التي يصعب الرجوع عنها.

ومع كل هذا، ومع غيره فقد نجح الدكتور القرضاوي في أن ينتقل إلي الباب الثالث الذي خصصه للحديث عن الأمل والعمل في المستقبل، وهكذا استطاع الدكتور القرضاوي أن يخرج من إطار الفيلسوف المسئول عن شرح أوضاع الحاضر والماضي بلغة التبرير إلي مجال المفكر المبدع الفنان الذي تحدوه النظرة إلي المستقبل  بروح الرضا عن الأمس مع تقدير لما في الأمس من أشياء لا تستأهل الرضا، وبروح الإفادة من الحاضر مع كل ما في الحاضر من واقع يفرض نفسه علينا اليوم وفي المستقبل القريب.

26

يفاجأ الدكتور القرضاوي مريديه منذ مرحلة مبكرة بفهم جديد ومرن يعلي من قدر الحرية ويتشوق إليها ويتبلور هذا الفهم منذ السطور الأولي للباب الأخر الذي يختم به الدكتور القرضاوي الأبواب الثالثة التي يتألف منها هذا الكتاب، فالدكتور القرضاوي مع الحرية: «وقد أثبتت التجارب في أقطار إسلامية شتي وفي أزمنة مختلفة أن الحركة الإسلامية إنما تنتعش وتزدهر في ظل الحرية، هناك تتجاوب مع الفطر السليمة  والعقول الراشدة، فيهتدي علي يدها الضالون ويزداد الذين اهتدوا هدي».

ويعرب الدكتور القرضاوي بوضوح عن أمنياته العميقة للعاملين في الحركة الإسلامية أن يتمكنوا من النجاة من الفشل، وهو لهذا يمتد بنشاط الحركة الإسلامية وتأثيرها إلي أبعد مما يظن الناس «إن الحركة الإسلامية إن أخفقت في إقامة الدولة الإسلامية المنشودة، فهذا لا يعني أن دورها قد انتهي».

27

ل ايجد الدكتور القرضاوي حرجاً في أن ينقل لنا عن الدكتور نبيه أمين فارس قوله عن الإخوان المسلمين:

«إن فكرتهم ومثاليتهم لا تزال تمثل أعمق مطامح المسلمين من المغرب إلي أندونيسيا»،

و لا يجد الدكتور القرضاوي حرجاً في أن ينقل لنا عن المستشرق برنارد لويس في كتابه «الغرب والشرق الأوسط» قوله:

 «والشيء الواضح الوحيد هو (أنه) من بين جميع الحركات التي هزت الشرق الأوسط (في آخر 150 عاما) كانت الحركات الإسلامية  وحدها أصيلة في تمثيلها لمطامح أهل هذه المنطقة، فالليبرالية والفاشية والوطنية والقومية والشيوعية والاشتراكية كلها أوروبية الأصل، مهما أقلمت وعدلت في الشرق الأوسط، والمنظمات الإسلامية هي الوحيدة التي تنبع من تراب المنطقة وتعبر عن مشاعر الكتل الجماهيرية المسحوقة.. وبالرغم من أن كل الحركات الإسلامية قد هزمت حتي الآن (إلا) أنها لم تقل بعد كلمتها الأخيرة» ا.هـ لويس

 (يبدو أن الدكتور الدكتور القرضاوي قد نقل هذه الفقرات عن كتاب مترجم، ولهذا أعدنا الصياغة ووضعنا بعض الألفاظ من عندنا وهي تلك التي بين قوسين ).

28

ويتعمد الدكتور القرضاوي أن يفرد حديثا خاصا لإنجازات وثمار الحركة الإسلامية وهو يعدد خمسة مكاسب مهمة حققتها الحركة الإسلامية،

  • فهي أولا: قد صححت المفاهيم التي شوهتها عصور الجمود، وطاردت الغزو الثقافي الذي خلا له الميدان في بعض المراحل، وأغنت المكتبة الإسلامية بعدد غير قليل من الكتب والرسائل، وبذلك أحدثت بناءً فكريا ضخما.
  • وهي ثانيا: أعادت الشعور بالذاتية الإسلامية، وبالانتماء إلي خير أمة أخرجت للناس، وحطمت الحركة الهالة التي قدمت بها الحضارة الغربية وجعلت منها صنما يعبد، وحررت نفس المسلم من الشعور بالدونية والهزيمة الروحية.
  • وهي ثالثا: أنشأت جيلا من المسلمين والمسلمات، والملتزمين بالإسلام اعتقادا وتعبدا، وفكرا وسلوكا، ودعوة وجهادا.
  • ثم إنها رابعا: كونت وراء هذا الجيل الملتزم رأيا عاما إسلاميا يناصر الإسلام ويحب دعوته، ويظهر الولاء لشريعته، وينكر الإلحاد والإباحية والعلمانية.
  • وخامسا: أسهمت بأكبر نصيب في إيجاد ما اصطلح علي تسميته بالصحوة الإسلامية، وكان لها أثرها في الجهاد الإسلامي في أفغانستان والفلبين وغيرها.. وفي إقامة البنوك والمؤسسات الاقتصادية الإسلامية.. وفي انتشار الكتاب الإسلامي حتي ضرب الرقم القياسي في التوزيع.

 

 

29

 يعقب الدكتور القرضاوي علي  ما حصره من مكاسب الحركة الاسلامية بقوله :

 «ومن العدل أن نسجل للحركة الإسلامية تطورها الجديد في أفكارها وعلاقتها » ويضرب علي هذا التطور بعض الأمثلة .

فالإخوان في مصر يتعاونون مع حزب الوفد في مصر، وأخوة آخرين (لا يذكر الدكتور القرضاوي أين هم؟ أو في أي البلاد الإسلامية) يتحالفون مع القوي الوطنية المعارضة للعمل على إسقاط نظام طاغوتي يقاوم الإسلام جهرة، رغم تشنج فئة من المخلصين الذين يرفضون أي تحالف أو تفاهم مع أي فرد أو هيئة أو فئة غير ملتزمة بالإسلام».

وهكذا يعدد الدكتور القرضاوي أوجه النشاط السياسي المتطور للجماعات الإسلامية في سوريا، وباكستان أيضا.

وهو يريد أن يتفاءل بأن الحركة تنتقل من مرحلة الكلام إلي مرحلة العمل، وتتحرر من تلك الآفة التي غدت ظاهرة عامة بيننا نحن المسلمين، والتي غدت تعوق خطانا عن السير، وهي كثرة النواح علي الماضي، وقلة العمل الحاضر.

30

ثم ينقل الدكتور القرضاوي إلي نصيحة الحركة الإسلامية بالتركيز في الوقت ذاته علي النخبة والجماهير وهو يتناول هذا المعني بعبارات واضحة فيقول :

 «أن تعمل بجد وعزم للوصول إلي قلب النخبة والجماهير، وإزالة ذلك السور الذي ضرب بين الحركة وبين عدد كبير من (النخبة) أي المثقفين من جهة، وبينها وبين عدد كبير من الجماهير من جهة أخري»

وهو يقول أيضا:

 «ولابد للحركة أن تعمل جاهدة علي إذابة حاجز العزلة وكسر هذا السور المفتعل».

31

 لا يغفل الدكتور القرضاوي عن إدراك حقيقة أن هناك قوي معادية لانتصار الإسلام وعودته إلي قيادة المجتمع، قد استغلت بعض الإفراط من جانب الجماعات الإسلامية فيما أطلق عليه «التطرف الديني»، «واستغلت هذه الظاهرة بخبث ودهاء وحرصت علي تغذيتها لتكبر وتنمو، ورمت لها بالوقود لتظل متأججة ملتهبة».

ويعدد الدكتور الدكتور القرضاوي بعقليته الفاحصة الفوائد التي جنتها القوي المعادية للإسلام في الأمور التالية:

  • تنفير جماهير الناس من ظهور الإسلام نظاما حاكما للحياة، مادام الذين يدعون إليه ويجسدون صحوته «يتبنون التشديد والتضييق وتحجير ما وسع الله، وتعسير مايسر علي عباده».
  • شغل جيل الشباب الذي يمثل العمود الفقري للصحوة الإسلامية بالمسائل الجزئية والقضايا الجانبية.
  • شغل القوي الإسلامية المتحركة بعضها ببعض.
  • إعطاء السلطات المتربصة بالدعوة الإسلامية مبررا لتضرب التحرك الإسلامي، والعمل الإسلامي كله السوي منه والشاذ تحت مظلة محاربة «التطرف» ومقاومة المتطرفين.
  • تيئيس الناس في النهاية من الإسلام ودعاته.

32

وفي ثنايا هذا السياق الممنهج الذي يقدمه الدكتور القرضاوي عن الحركة الإسلامية العمل والأمل تأتي فقرة من أهم فقرات الكتاب هي تلك التي يتحدث فيها عن أهمية العفوية والتلقائية:

«وهذه العفوية أو التلقائية أو الهلامية لها فائدتها في الامتداد الأفقي في مختلف شرائح المجتمع، دون عوائق نفسية أو اجتماعية أو سياسية مما يعوق انتشار الدعوات ذات الاسم المعين والإطار الخاص والتاريخ المعروف والتي لها أعداء تقليديون وخصوم منافسون، كما (أن) لها فائدتها في بقاء هذه الصحوة بمعزل عن إرهاب السلطات المستبدة التي تعجز عن محاصرة هذه الصحوة أو ضربها».

33

وقبل نهاية هذا الفصل المهم من كتاب الدكتور القرضاوي نجده يعطي أهمية خاصة لتحديد ميادين العمل التي ينبغي أن توجه الحركة الإسلامية جهدها إليها «وألا يستهلك العمل السياسي كل جهدها أو وقتها» وهكذا يمكن لنا القول بان الدكتور القرضاوي قد انتبه إلي أهمية السياسات طويلة المدي في تدعيم دور الحركة الإسلامية ونشاطها ومستقبلها .

وفي الميدان الاجتماعي علي سبيل المثال: يذكر الدكتور القرضاوي أن المسلمين قد قصروا تقصيرا شائنا مما يدعوه إلي الدعوة إلي تكوين ما أطلق عليه «الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية» لتعمل بكل طاقاتها علي «توفير الغذاء للجائع والكساء للعاري والدواء للمريض والرعاية لليتيم والإيواء للمشرد والتعليم الجاهل والتشغيل للعاطل.. إلخ».

ويضرب الدكتور القرضاوي المثل في هذا الصدد بجهد حسن البنا الواضح في العمل الاجتماعي. ويبذل الدكتور القرضاوي جهداً واضحاً  في تفنيد حجج الذين يطالبون بتأجيل الإصلاح حتي تقوم الدولة الإسلامية، ولا يتوقف الدكتور القرضاوي عند التفنيد العقلاني ولكنه يمضي في هذا الاتجاه إلي الحد الذي يجعله يسخر منها سخرية واضحة.

34

يلخص الدكتور القرضاوي بصوت عال فكرته حول مشكلات الحركة الإسلامية بأن الخلل «في داخل كل منا، في أنفسنا التي بين جنوبنا، في حبنا لذواتنا، وطوافنا حولها كما يطوف الوثني بوثنه، في محاولتنا لتبرئة أنفسنا واتهام غيرنا» .

ويعدد الدكتور القرضاوي خمسة أمور تقوي أمله في المستقبل المرجو للحركات الإسلامية:

  • إن معنا الحق الذي قامت به السماوات والأرض.
  • إن معنا الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
  • إن معنا شعوب الأمة الإسلامية التي غدا الإسلام لحمتها وسداها وأصبح جزءا لا يتجزأ من كيانها العقلي والنفسي والاجتماعي.
  • إن معنا مصلحة الإنسانية التي شقيت بفلسفات البشر وتشريعات الأرض، فما عاد يسعدها إلا هداية السماء.
  • ومعنا قبل ذلك وبعده: تأييد الله تبارك وتعالي الذي وعد بنصر من ينصره، وتكفل بأن يظهر دينه علي الدين كله ولو كره المشركون.

وهكذا يبدو مفكرنا وقد نجح في أن يختم كتابه بالأمل القوي المشجع بعد أن امتلأ كتابه بكثير من التحليل العميق.

35

علي أن من الإنصاف للدكتور القرضاوي أن ننقل عنه جوهر فكره كما لخصه هو بنفسه في ملتقي الفكر الإسلامي الثامن عشر في الجزائر (1984) والذي كان موضوعه الصحوة الإسلامية، حيث تحدث الدكتور القرضاوي عن مستقبل الصحوة الإسلامية بين الأمل فيها والخوف عليها، يقول الدكتور القرضاوي :

« وقد حددت برنامج هذا الانتقال أو التطور في عشرين نقطة أساسية، من شأنها ـ إذا روعيت وتحققت ـ أن تجعل هذه الصحوة أهلا لقيادة الأمة كلها، وإزالة التناقض القائم بين عقيدتها المستقرة في ضميرها، وبين واقعها الذي عزل فيه الإسلام عن قيادة الركب وحكم المجتمع.

ويكفيني هنا أن أشير إلي عناوين من هذه النقاط العشرين، التي تمثل الخطوط العريضة لمستقبل الصحوة المنشودة في فهم الإسلام، والدعوة إليه، والعلاقة بالآخرين من العاملين له، والقاعدين عنه من أبناء أمته، ومن الجاهلين به، والخائفين منه، والطامعين فيه، والحاقدين عليه من غير أمته.

لابد أن تنتقل دائرة الاهتمام والتركيز:

1 ـ من الفروع والجزئيات إلي الأصول والكليات.

2 ـ من النوافل إلي الفرائض.

3 ـ من المختلف فيه إلي المتفق عليه.

4 ـ من أعمال الجوارح إلي أعمال القلوب.

5 ـ من طرفي الغلو والتفريط إلي الوسطية والاعتدال.

6 ـ من التعسير والتنفير إلي التيسير والتبشير.

7 ـ من الجمود والتقليد إلي الاجتهاد والتجديد.

8 ـ من الكلام والجدل إلي العطاء والعمل.

9 ـ من العاطفية والارتجال إلي العلمية والتخطيط.

10 ـ من التعصب علي المخالفين في الرأي إلي التسامح معهم.

11 ـ من الإثارة إلي التفقيه (أو من أسلوب الوعاظ إلي أسلوب الفقهاء، أو من حماس المنبر إلي هدوء الحلقة).

12 ـ من الكم إلي الكيف (أو من الاهتمام بتزايد الأعداد ولو علي حساب التربية إلي العناية بالتربية ولو علي حساب العدد).

13 ـ من سماء الأحلام إلي أرض الواقع (أو من المثالي المنشود إلي الممكن الموجود).

14 ـ من الاستعلاء علي المجتمع إلي المعايشة له (أو من موقف ممثل الاتهام إلي موقف الطبيب).

15 ـ من الانكفاء علي الماضي إلي معايشة الحاضر، والإعداد للمستقبل.

16 ـ من الاستغراق في العمل السياسي إلي الاهتمام بالعمل الاجتماعي.

17 ـ من اختلاف التضاد والتشاحن  إلي اختلاف التنوع والتعاون.

18 ـ من إهمال شئون الحياة إلي التعبد بإتقانها.

19 ـ من الإقليمية الضيقة إلي العالمية الواسعة.

20 ـ من الإعجاب بالنفس إلي محاسبة النفس (أو من الغلو في إثبات الذات إلي نقد الذات).

ويقول الدكتور القرضاوي بعد تعداد هذه الاتجاهات المرجوة :

« هذه هي المنطلقات العشرون والتي اعتبرت بمثابة (ورقة عمل) لتوجيه الصحوة الإسلامية ومن باب أولي: الحركة الإسلامية»

 

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com