مكانته التاريخية
الدكتور علي الجريتلي (1913 ـ 1982) هو ابرز المفكرين الاقتصاديين من بين أساتذة كليات التجارة ، ويتميز تفوقه عن تفوق أساتذة الحقوق المعاصرين له بالاستقصاء و الاستيعاب و العلاقة بالواقع المباشر، والأرقام ، والموازنات والحسابات ، وقد ظل طيلة حياته معدودا علي أنه أبرز أساتذة الاقتصاد قدرة علي الكتابة في المشكلات الاقتصادية، و حظي اسمه باحترام كبير منذ بداية حياته الأكاديمية ، و حافظ على هذا الاحترام والسمعة الحسنة حين مارس السياسة و العمل الوزاري باحترام لذاته و تجرد لمصلحة الوطن .
كان الدكتور علي الجريتلي مع زميله وصديقه (الأكبر منه بقليل) عبد الجليل العمري 1907- 1996 أفضل اثنين من رجال الاقتصاد وأساتذته في النصف الثاني من القرن العشرين، وفي عهد 1952، ومن الثابت أنهما يحظيان بالإجماع علي فضلهما وأفضليتهما وتقديرهما واحترامهما، كما انهما ارتبطا بالصداقة المتينة و الاحترام المتبادل طيلة حياتهما ، وقد نالتهما بركة الإخلاص و الحب حتى إن من العجيب أنهما حتى الآن لا يذكران إلا معا ، وان كان الجريتلي قد عاش 69 عاما على حين عاش العمري 89 عاما .
شهرته بصفاته الحميدة
عرف الدكتور علي الجريتلي طيلة حياته بأخلاقه العالية، ونزاهة اليد والغرض، ورجاحة العقل، وصدق النصيحة، ولم يتورط لا هو ولا زميله العمري في أي موقف من المواقف التي تورط فيها اقتصاديون لاحقون إرضاء للسلطة في عهد الثورة توظيفا للاقتصاد من أجل التوجهات السياسية قصيرة النظر، وظل شأنه شأن زميله مبعث فخر و تقدير واحترام ومنارة إشعاع وقدوة ، و لسنا نستطيع أن نلجم قلمنا عما يريده القلم من القول بأنه لو التزم الدكتور عبد المنعم القيسوني بما التزما به لخفت حدة مشكلاتنا الاقتصادية إلى الربع مما هي عليه .
نشأته و تكوينه
ولد الدكتور علي الجريتلي في السادس من أبريل (1913)، ونال دبلوم التجارة العليا من مدرسة التجارة العليا (كلية التجارة جامعة فؤاد الأول فيما بعد ذلك) في العشرين من عمره (1933)، ثم ابتعث إلي إنجلترا فحصل علي بكالوريوس التجارة من جامعة لندن، ثم نال درجة الدكتوراه في الاقتصاد.
عمله بجامعات القاهرة وبغداد والإسكندرية
عمل الدكتور علي الجريتلي بعد عودته مدرسا للاقتصاد وإدارة الأعمال في كلية التجارة (1940)، وفي العام التالي عمل مدرسا في كلية الحقوق بالعراق (1941)، وبعد عودته من العراق انضم إلي الجامعة الناشئة في الإسكندرية حيث عمل مدرسا في جامعة الإسكندرية (1943)، فأستاذا مساعدا (1948)، فأستاذا (1951) وبهذا وصل للأستاذية في الثامنة والثلاثين من عمره ، و من الجدير بالذكر أن الدكاترة حلمي بهجت بدوي و عبد الحكيم الرفاعي و محمد زكي شافعي حققوا مستويات مقاربة في النيل المبكر للأستاذية .
عمله المبكر في البنك الدولي
عمل الدكتور علي الجريتلي فيما بين 1947 و1949 بالبنك الدولي بواشنطن.
اختياره نائبا لوزير المالية
وبعد 23 يوليو 1952 كان الدكتور علي الجريتلي من أبرز الاقتصاديين الذين أبلوا بلاء حسنا في مجلس الإنتاج ، ثم اختير نائبا لوزير المالية والاقتصاد في وزارة الرئيس محمد نجيب الثانية يوليو 1953 كي يتعاون مع زميله عبد الجليل العمري الذي كان وزيرا للمالية والاقتصاد ، وفي فبراير 1954 عين وزيرا للمالية والاقتصاد في وزارة الرئيس جمال عبد الناصر الأولي بعد أن اصبح العمري نائبا لرئيس الوزراء ، وفي مارس 1954 عين وزيرا للدولة للمالية والاقتصاد في وزارة الرئيس محمد نجيب الثالثة .
لماذا أصبح وزير دولة بعد أن كان وزيرا
وتفسير ذلك أنه في فبراير 1954 أصبح الرئيس عبد الناصر رئيسا للوزراء وأصبح عبد الجليل العمري نائبا لرئيس الوزراء للشئون الاقتصادية فأصبح هو وزيرا، وفي مارس عاد الدكتور العمري ليعمل وزيرا للمالية بعد أن كان نائبا لرئيس الوزراء وذلك بناء علي رغبته لأنه رأى من حق جمال عبد الناصر أن يكون بمفرده نائبا لرئيس الوزراء بعد أن كان قد أصبح رئيس وزراء، فطلب الجريتلي أن يعود هو الآخر ليكون نائبا للوزير فحسب، لكن الأمور انتهت إلي أن يصبح وزير دولة بعد أن كان وزيرا.
خروجه من الوزارة عقب أزمة مارس 1954
و بعد أربعين يوما من هذا الحل خرج العمري والجريتلي من الوزارة عند تشكيل وزارة الرئيس عبد الناصر الثانية (في 17 أبريل) ، وحل محلهما عبد الحميد الشريف (وزيرا)، وعبد المنعم القيسوني (نائبا للوزير).
انتقاله للعمل في المنظمات الدولية
أصبح الدكتور علي الجريتلي وزيرا سابقا وهو في الحادية و الأربعين !! وانفتح أمامه باب العمل في المنظمات الدولية، فعمل مستشارا للأمم المتحدة في الأردن (مايو 1955)، وعاد للعمل في الأمم المتحدة مستشارا لبرامج التنمية في إندونيسيا (ديسمبر 1966)، وباكستان (1969)، ثم ليبيا. وقد اختير الجريتلي (مارس 1961) عضوا في مجلس إدارة البنك الدولي.
عمله في القاهرة لفترات قصيرة
في الخمسينيات قطع الدكتور علي الجريتلي عمله في الخارج وعاد للعمل في مصر حيث اختير رئيسا لمجلس إدارة بنك الإسكندرية، وفي السبعينيات عاد أيضا ليعمل مستشارا للبنك العربي الإفريقي في القاهرة.
الاستثناء الوحيد في تعايشه الهادئ مع عصر عبد الناصر
لم يكن الدكتور علي الجريتلي الاقتصادي المرموق والوزير السابق مصدر قلق من أي نوع لرجال الحكم في عهد 1952 فقد عاش حياته العامة في هدوء وصمت مقصود، لكنه حين ألف كتابه «التاريخ الاقتصادي للثورة منذ 1952» بدأت التقارير تصوره وكأنه بدأ يعارض، واستلزم الأمر كثيرا من التحري والتدقيق في الدلالات والشهادات، وقد طبعت دار المعارف الكتاب بعد لأي في 1966 و اعيد طبعه في 1974.
اعتذاره المتكرر عن الوزارة في عهد السادات
في عهد الرئيس السادات رددت الصحف اسم الدكتور علي الجريتلي أكثر من مرة لتولي المواقع الوزارية المتقدمة، وكان ممدوح سالم ( وهو اسكندراني مثله ) تواقا إلي أن يشرك معه علي الجريتلي في وزارته وألح عليه أكثر من مرة، وقضي معه الساعات الطوال، لكن الجريتلي لم يكن يريد من التجربة أكثر مما عاني من قبل. ومع هذا فقد ظل الدكتور علي الجريتلي بصفة مستمرة في مكانة متقدمة بين العلماء و الخبراء طيلة عهدي الرئيسين عبد الناصر والسادات، وحتى توفي في بداية عهد الرئيس مبارك.
مهامه القومية
رأس الدكتور علي الجريتلي مجلس بحوث العلوم الإدارية والاقتصادية (1963)، كما كان من أبرز الأعضاء المختارين لعضوية المجلس القومي للإنتاج والشئون الاقتصادية عند إنشائه (فبراير 1974)، وكان من الخمسة الكبار الذين عهد إليهم الرئيس حسني مبارك 1982 بتنظيم و رئاسة المؤتمر الاقتصادي في أول عهده.
تصوير د. سيد أبو النجا لشخصيته
وصف الدكتور السيد أبو النجا الدكتور علي الجريتلي في أكثر من موضع من كتبه، وهذه مقتطفات مما وصفه به: ” اسكندراني النشأة والنزعة، شديد الاعتداد بنفسه وعلمه ، قليل الاكتراث بالمناصب والأموال ، ولذلك مات فقيرا لا يملك إلا بيته الذي كان يسكن فيه في المعادي ، عرفه صاحبنا (هكذا كان السيد أبو النجا يتحدث عن نفسه) في جامعة الإسكندرية وكان مدرسا للاقتصاد مع الأستاذ محيي الدين عابدين ، وكان صاحبنا مدرسا لإدارة الأعمال، وكان العميد زكي حسين أستاذ المحاسبة ولكننا اذا اختلفنا في أمر يدخل في اختصاص أي من هذه الأقسام علي السواء انتظرنا حتي يحضر علي الجريتلي لنحتكم إليه”.
صراحته و جديته و إخلاصه
“ألف صاحبنا (هكذا كان السيد أبو النجا يتحدث عن نفسه) في أوائل الأربعينيات كتابا في دراسة السوق فقدم أصوله إلي الدكتور علي الجريتلي ورجاه أن ينقده ، فعاد إليه بعد يومين أثنين ليقول انه فرغ من قراءته ووجده بالغ السوء ! سأله عن السبب فوجده قد أعد تقريراً كاملا عن الكتاب اعطاه له ، فاهتدي به في كتابه الكتاب من جديد بعد أن وجده علي حق”.
ثلاث من مداعباته الساخرة لسيد أبو النجا
- ” وكان صاحبنا في هذه الأيام يعمل خبيرا لجريدة المصري ويتقاضى منها خمسة وسبعين جنيها في كل شهر ، فتمكن بذلك من أن يلبس بدلك “شركسكن” وكان الدكتور علي الجريتلي يسخر منه فيقول ” كل ده من بيع الدشت”؟”
- “ولما كلف الرئيس أنور السادات مركز آراك ببحث رسوم المرور في قناة السويس اتصل صاحبنا به وطلب منه أن يشترك في الدراسة فقال : الاجابة لا. فأنا أعرف انك كرجل اعلان تبحث عن الجهلاء ذوي الكروش لتفاخر بهم عند تقديم التقرير ، وعلق صاحبنا علي ذلك قائلا :”يا خسارتك يا علي ” وماذا تقول إذا كان عبد الجليل العمري هو أحد أعضاء اللجنة ؟ فقال : “مادام الأسطى الكبير قد قبل فلا مانع عندي من أن أعمل معه من الباطن”.
- “أصبح الدكتور علي الجريتلي عضوا في أحد المجالس العلمية مع صاحبنا ولكنه حضر جلسة واحدة ثم تغيب.. فلما سأله صاحبنا عن ذلك قال : ” أصلي ما بحبش السيرك”.
اعتداده بالحق في مواجهة الضباط ورجال المال
“ولما أصبح رئيسا لبنك الإسكندرية بعد الثورة طلب منه أحد رجالها سلفة لمجلة يصدرها ومع الطلب تزكية من كمال الدين حسين الذي كان رئيسا للاتحاد الاشتراكي [ يقصد: الاتحاد القومي] ، وحدد له الدكتور علي الجريتلي موعدا للمقابلة ولكن رجل الثورة لم يحضر بل أرسل مدير مكتبه ومعه بطاقة منه ، فلما رأي البطاقة “أشر بردها لصاحبها مع تأنيث اسمه!”
“…. وكان مستشارا لمجلس إدارة البنك الأفريقي العربي فاختلف مع رئيس المجلس إبراهيم الإبراهيمي واشتد الخلاف بينهما فقال الدكتور علي الجريتلي : أنا مختلف معك ولكنك تمتاز بثرائك العريض فلا فائدة من المناقشة” وكانت هذه هي استقالته من المجلس” .
حديثه الذكي عن الدور الممكن للفساد في الاقتصاد
كانت للدكتور على الجريتلي آفاق فكرية متفتحة ومتطورة وواعية بالتطور الحضاري والإنساني، ويكفي في هذا الصدد أن نشير إلي ما رواه الأستاذ أحمد بهاء الدين في عموده اليومي بالأهرام ثم أعاد نشره في كتابه «يوميات هذا الزمان» من أن الدكتور الجريتلي قال له: أريد أن أؤلف كتابا اسمه «في فضائل الفساد» ، فهل تنشره لي؟»، فسأله أحمد بهاء الدين: وماذا ستقول فيه؟ قال: أريد أن أقول إن الفساد له دور في كل دولة في مرحلة النمو، حدث هذا في إنجلترا مثلا، وحدث بشكل رهيب في أمريكا، لأن الفساد له دور في الإسراع بالتنمية في الاقتصاد الحر، فالرجل الذي يريد أن يفتح مصنعا ويعرف أن إجراءات الموافقة عليه ستستغرق سنة، كان يدفع رشوة ليحصل علي الرخصة في أسبوع، فيكسب إيراد سنة من المصنع أو الفندق الذي يريد إقامته، وهو طبعا يكسب أضعاف الرشوة، فالفساد كان له مهمة «تزييت» عجلات الإنتاج!».
طبقة المفسدين المصريين ليست طبقة منتجة
«ثم أريد أن أقول إن مشكلة مصر ليست الفساد، فحتي لو سرق المفسدون 5% من مجموع الإنتاج ليسرعوا به فهو ليس بالكثير، ولكن المشكلة أن طبقة المفسدين عندنا ليست طبقة منتجة، إنها تنهب للسمسرة، ولرفع الأسعار علي الدولة والناس، ولفرض الإتاوات، وللاستيلاء علي الأراضي دون مشروعات، وهنا ضررها الأكبر، وليس كم مليونا تسرقه، وأنا أريد أن أوجه لها هذه النصيحة في الكتاب: إنها إذا أرادت أن يكتب لها البقاء فعليها أن تعمل في مجالات «الفساد الإنتاجي»، الذي سيعلمهم بعد قليل أن الإنتاج بدون فساد، سيجلب لهم أرباحا أكثر».
جائزة الدولة التقديرية
نال الدكتور علي الجريتلي كثيرا من التقدير ومنح جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية (1982) وكان واحدا من أربعة نالوها معا أما الثلاثة الآخرون فكانوا الشيخ حسنين مخلوف 1890-1990 ، و الدكتور حامد سلطان 1912- 1992 ، والدكتور عبد العزيز حجازي 1923- 2014 ومن باب الطرافة فقد كان هو ثالثهم من حيث السن .
من رثاء الأستاذ مصطفي أمين
رثاه الأستاذ مصطفي أمين بمقال بليغ جعل عنوانه «كان أفقر الوزراء ويتصرف كأنه أغني الوزراء»، و كان مما أشار اليه في هذا المقال قصته مع الرئيس عبد الناصر : « ……. كان الدكتور علي الجريتلي وزيرا للمالية في وزارة الرئيس جمال عبد الناصر، وكان وزيرا شابا معروفا بشجاعته وصراحته، وذات يوم اختلف علي الجريتلي مع الرئيس جمال عبد الناصر فكتب استقالته من الوزارة وأرسلها إلي رئيس الوزراء، وذهب الوزراء يرجون وزير المالية أن يعدل عن استقالته فرفض أن يتزحزح عن موقفه وأصر علي الاستقالة، واتصل بي الرئيس جمال عبد الناصر تليفونيا وقال لي: إن إصرار الدكتور علي الجريتلي علي الاستقالة يؤكد أنه غني جدا، وليس في حاجة إلي مرتب الوزير، قلت للرئيس: الذي أعرفه أن علي الجريتلي لا يملك شيئا علي الإطلاق، قال الرئيس: مستحيل أن يترك هذا المنصب إلا إذا كان غنيا جدا، وعلي كل فلقد كلفت المخابرات أن تبحث عن ثروته ورصيده في البنك! وبعد أيام قال لي الرئيس جمال عبد الناصر: إنه تلقي تقارير المخابرات، وإنه فوجئ أن كل رصيد علي الجريتلي في البنك هو أربعة وثلاثون جنيها فقط لا غير!لكن الجريتلي عندما استقال من منصب وزير المالية لم يفكر كيف سيعيش، ولم يفكر أن معني ذلك أن يجوع هو وأولاده، لكنه استجاب لصوت ضميره فقرر الاستقالة، أو كما قال يومها: «لا يهمني لو أدت بي هذه الاستقالة إلي السجن! وعاش الجريتلي بضعة شهور في فقر مدقع، إلي أن اختارته الأمم المتحدة خبيرا في الأردن، ثم في باكستان، ثم في إندونيسيا، ثم رأس بنك الإسكندرية ، وعرض الرئيس جمال عبد الناصر علي الدكتور علي الجريتلي منصب نائب رئيس الوزراء لكنه رفض! ولم يخسر على الجريتلي لأنه قال «لا»، بل كسب كثيرا، وكسب احترام جمال عبد الناصر، حتي إنه كان في كل تغيير وزاري كان يفكر دائما أن يسند منصب وزير المالية لعلي الجريتلي، الوزير الذي فضل الجوع ليقول «لا»، ورفض منصب أكبر وزير في الوزارة ة وهو لا يملك إلا 34 جنيها!».
آثاره
نشر الدكتور علي الجريتلي عددا لا بأس به من الكتب والبحوث التي تناولت اقتصادنا المعاصر لعل أبرزها:
- ـ «التاريخ الاقتصادي للثورة».
- ـ «البنك المركزي الجديد» (1951).
- ـ «تطور رأس مال الشركات المساهمة في مصر»، وهو بحث منشور في مجلة البنك الأهلي (1952).
- ـ «التداول النقدي في مصر» (1951).
- ـ «تاريخ الصناعة في عهد محمد علي».
- ـ «تطور النظام المصرفي في مصر»، مجلة مصر المعاصرة.
- ـ «السكان والموارد الاقتصادية في مصر».