ولد العلامة الشيخ يوسف عيسى منون ١٨٨٩ – ١٩٥٧ في فلسطين ، وعاش في القدس ثم في القاهرة التي أصبح من نجومها الزاهرة ، و كان يعرف في اسمه بالشامي إذ ولد في العصر الذي كان فيه الشام موحدا ، وكان مولده في 1889 أي في العام الذي تم التعارف على أن الدكتور طه حسين ولد فيه، ومن الطريف أنه عرف بتلمذته المباشرة واللصيقة لأستاذين جليلين من علماء الأزهر الشريف، وان كلا من هذين الاستاذين كان سيرأس لجنة امتحان طه حسين في العالمية، فاعتذر أولهما وهو الشيخ عبد الحكيم عطا، وقام ثانيهما وهو الشيخ دسوقي العربي بالمهمة التي انتهت بعدم حصول طه حسين على العالمية ،أما الشيخ عيسى منون فكان قد حصل على العالمية في العام السابق على العام الذي تقدم فيه طه حسين للامتحان ولم يوفق فيه، و كان الشيخ عيسى منون قد درس الأصول على الشيخ عبد الحكيم عطا ولازمه ملازمة تامة، وتخرج عليه في هذا العلم الذي أصبح هو نفسه أي عيسى منون رمزاً له في جيله، أما الشيخ دسوقي العربي فكان أستاذاً للشيخ منون في العقائد النسفية.
عيسى منون وطه حسين
هذان إذاً مثلان بارزان للعلماء المبصرين الذين يعود الفضل في تكوينهما العلمي للأزهر ، الذي مهد لهما الطريق ليكونا في كهولتهما بمثابة أبرز عميدين لكليتي الشريعة و الآداب على الرغم من اختلاف الظروف ، وعلى الرغم من العناية المكثفة التي لقيها الدكتور طه حسين .
تكوينه العلمي
أدرك الشيخ عيسى منون التلمذة على جيل الشيخ سليم البشري والشيخ عبد الرحمن الشربيني و الشيخ عبد الرحمن البحراوي والشيخ أحمد الرفاعي الفيومي كما حضر على الأستاذ الإمام محمد عبده وجيله ، فحضر دروسا للمفتي الشيخ محمد بخيت المطيعي، كما حضر دروسا للشيخ محمد حسنين مخلوف ومحمد أبو عليان.
الفضل في تأريخ حياته لكتاب ابنه والشيخ يوسف عبد الرازق
كان من حسن حظ تاريخنا العلمي و حسن حظ الشيخ عيسى منون أن رزق بابن صالح هو الشيخ محمد عيسى منون (المتوفي ١٩٦١) الذي ألف بالاشتراك مع الشيخ يوسف عبد الرازق كتاباً عن والده بعنوان: “حياة علم من أعلام الإسلام : الشيخ عيسى منون عضو هيئة كبار العلماء ولجنة الفتوى، وشيخ كلية الشريعة بالأزهر”، وقد نشر هذا الكتاب عام 1957 وشارك في تحريره عدد من الأعلام وعدد من تلاميذ ذلك الأستاذ العظيم كان منهم الدكتور زكريا البري الذي أصبح فيما بعد استاذاً للشريعة في كلية الحقوق ووزيراً للأوقاف ، وأضاف الدكتور محمد رجب بيومي في كتابه أعلام النهضة الإسلامية كثيرا مما عرفه بحكم معاصرته لأستاذية الشيخ ، وقد حرصنا على النقل من هذين المرجعين لما فيهما من صفاء الرؤية مع كثرة ما عالجناه من التصرف والانتقاء و الاختيار و الاختزال.
اختيار الشيخ أبو غدة له ضمن ستة فقهاء معاصرين
كان الشيخ عيسى منون واحدا من فقهاء المسلمين الستة الذين درس الشيخ عبد الفتاح أبو غدة (1917 ـ 1997) حياتهم و انتاجهم الفقهي في كتابه [غير المشهور في مصر] تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر وآثارهم الفقهية في كتاب صدر عن مكتبة المطبوعات الإسلامية في حلب 1977 وشمل ستة علماء ، كان الشيخ عيسى منون خامسهم ، وهم بحسب وفاتهم بالتواريخ الهجرية :
- محمد أنور شاه الكشميري (1292 ـ 1352)
- أحمد الزرقة (1285 ـ 1357)
- أحمد إبراهيم (1291 ـ 1364)
- محمد الحسن الحجوي (1291 ـ 1376)
- عيسى منون (1306 ـ 1376)
- محمد إبراهيم الشيخ 1311 ـ 1389)
تلخيص ما سجله ابنه عن نشأته
ننقل عن ابنه بعضا مما سجله عن أبيه الشيخ الوالد: “….. ولد في عين كارم بفلسطين، وهي ضاحية من ضواحي القدس، ذات أشجار وزروع ومياه، وقد درس في مدرسة المدينة، فأبدى همّة ونشاطاً، ورأى أن يتهيَّأ للدراسة بالأزهر بعد أن حفظ القرآن، فأحضر له والده من يقرأ عليه مبادئ الفقه والنحو، ويحفظ بعض المتون التي اشتهر تدريسها بالأزهر، ثم اختاره بعضُ النُّظار للتدريس للصغار بإحدى المدارس القريبة، فكان شغله الشاغل أن يترك المدرسة ليلتحق بالأزهر، وقد استجاب له والده فالتحق بالجامع الكبير (١٩٠٤ ) ، وواصل الجد الدائب ليُظهر لمن عارضوه في السفر أنّه ذو أمل كبير، وقادرُ على تحقيقه، وكان النظام التعليمي يسمح إذ ذاك لمن قضى ست سنوات أن يتقدم لامتحان (الأهلية) ففاز بها عن كفاءة، وقد أهّله ذلك إلى أن يتقدم في العام التّالي لامتحان العالمية (١٩١١) ، وهو مطمح لا يصل إليه الطالب إلاّ بعد خمسة عشر عاماً في الأكثر الأعم، ولكنّه اعتمد على جدّه، وتقدّم للامتحان، وكانت مواده ستة عشر علماً، فاجتازها بنجاح.
تشجيع الشيخ شاكر وكيل الأزهر له
حضر وكيل الأزهر الشيخ محمد شاكر بعض الوقت أثناء امتحانه للعالمية فسُرّ بإجابته وعمل على أن يلقاه بعد خروجه.
اختياره المبكر للتدريس
” …. لم يَمْض وقتٌ حتى اختير مدرسا بالأزهر بالقسم الأوّلي، وتعلّق به الطلاب لأنّه كان يُدرّس للفصل جميع المواد ما عدا الفقه، لأنّه شافعي والطُلاب أحناف، فارتقى بعد سنوات إلى القسم الثانوي، ثم إلى القسم العالي، وهو أعلى أقسام الأزهر في منزلته العلمية، وعلى يده تخرَّج في هذا القسم طائفة من خيار العُلماء، وقد أشادوا به منَوِّهين، وكان يدرس لهم علم الأصول”
شهادة ابنه عن تدريسه لعلم أصول الفقه
” …….. ألّف كتاباً هاماً في هذا الفن سمَّاه (نبراس العقول في تحقيق القياس عند علماء الأصول)، وكان هذا الكتاب الثمين سبيله إلى عضوية هيئة كبار العلماء، وقبل أن ينال هذه العضوية كان مدرّسا للتوحيد وأصول الدين لطلاب (تخصص المادة) وهو الذي يعادل (الدكتوراه) اليوم فأبدى في علوم العقيدة ما أبداه من التضلع في علوم الشريعة”
أستاذيته الفذة لعلم الأصول
أثبت الشيخ عيسى منون نجاحه الفذ حين تولى أستاذية الدراسات العليا في الأزهر وتخصص في تدريس علم أصول الفقه وعقد حلقات الدراسة في مسائله، ومن ثم لعب دورا كبيرا في تأهيل من واصلوا الدراسات العليا وتدريبهم على ملكات النقد والتثبت والاستنتاج والقراءة والمقارنة.
اختياره عضواً في لجنة الفتوى
اختير الشيخ عيسى منون عضواً في لجنة الفتوى بالأزهر الشريف، كما اختير عضواً في لجنة الأحوال الشخصية.
عضويته المبكرة في هيئة كبار العلماء
وصل الشيخ عيسى منون إلى عضوية هيئة كبار العلماء في مايو 1939 قبل أن يتم الخمسين من عمره ، وكان أصغر أعضاء هيئة كبار العلماء سنا في ذلك الوقت ، بيد أن للمسالة وجها آخر وهو أنه وصل إلى هذه العضوية قبل أن يصل صنوه الدكتور طه حسين إلى عضوية مجمع اللغة العربية بعام ، على نحو ما كان قد تقدم للعالمية قبله بعام ، وقد اختير الشيخ منون لهذه العضوية مع ثلاثة ممن يكبرونه من الجيل السابق عليه وهم المشايخ علي محفوظ 1876- 1942، وعبد الرحمن عيد المحلاوي 1863- 1940 ، ومحمد السيد شوشة .
اختياره عميدا لكلية أصول الدين
كان الشيخ عيسى منون قد تقلب و تدرج في وظائف التدريس بالأزهر الشريف، حتى كان هو من وقع عليه الاختيار ليكون ثالث عمداء كلية أصول الدين (1944) خلفا للشيخ محمد عبد الفتاح العناني الذي أحيل إلى التقاعد في ذلك العام بعدما كان خلف عميدها الأول الشيخ عبد المجيد اللبان، وفي ذلك المرسوم الذي صدر في الشهر الأول لوزارة ائتلاف السعديين و الدستوريين أكتوبر 1944 أصبح الشيخ إبراهيم الجبالي وكيل كلية أصول الدين عميداً لكلية العربية خلفا لعميدها الأول الشيخ إبراهيم حمروش الذي أصبح عميداً لكلية الشريعة ، وبهذا أصبح الشيخ منون سادس من وصل الى العمادة في الكليات الازهرية بعد العمداء الثلاثة الأوائل ، و بعد الشيخ محمد عبد الفتاح العناني ، وبعد الشيخ الجبالي الذي عين قبله في اليوم نفسه ، وبهذا القرار أيضا أصبح عمداء الكليات الأزهرية الثلاثة هم: الشيخ إبراهيم حمروش للشريعة (وكان عميدا لكلية اللغة العربية قبل الشريعة) و إبراهيم الجبالي لكلية اللغة العربية (وهو ثاني عُمدائها) وعيسى منون لكلية أصول الدين (وهو ثالث عُمدائها).
اختياره عميداً لكلية الشريعة
عمل الشيخ عيسى منون عميداً لكلية أصول الدين لأقل من عامين، فلما استقال الشيخ حمروش من عمادة كلية الشريعة احتجاجاً على تعيين الشيخ مصطفى عبد الرازق شيخا للأزهر ، اختير الشيخ عيسى منون عميداً لكلية الشريعة ليكون عميدها الثالث وليكون الثاني في قاعدة تقول أن من يتولى عمادة الشريعة يكون قد تولى عمادة كلية أخرى من قبل، وهي القاعدة التي تكررت بعد هذا ، وفي ذلك الوقت درس والدنا رحمه الله في كلية الشريعة، ولا تزال صورة والدنا التذكارية مع زملائه تتزين بصورة الشيخ عيسى منون عميد الكلية.
قيمة جهده في عمادة كلية الشريعة
كان للشيخ عيسى منون أثره الباقي في حرص كلية الشريعة على التراث الفقهي، وعلى تسجيل الرجوع إليه فيما تقدمه من إنتاج علمي أو فتاوى ، وإذا عرفنا أنه أول عميد أصولي للكلية بعد عميديها الكبيرين اللذين كانا من أصحاب الاهتمامات العامة والحضور الطاغي بحكم جيلهما ، وأنه تولى وضع أسس تنظيم الدراسة التعليمية والدراسات العليا أدركنا مدى تأثيره في أجيال هذه الكلية التي تخرجت على يديه.
حرصه على جدية الأداء في كلية الشريعة
وصل الشيخ عيسى في حرصه على جدية الأداء في كلية الشريعة الى الحد الذي وصفه الدكتور محمد رجب البيومي بأنه كان لا يكف عن زياراته المتكررة لقاعات المحاضرات مستمعاً إلى ما يقوله الأستاذ ومناقشاً الطلاب والأستاذ حين تحينُ مناسبةٌ للنقاش، وقد أخذ عليه بعض الأساتذة هذا و قالوا إنّ ذلك ينقص من قيمة الأستاذ في عيون طُلاَّبه، حين يرون الشيخ يعارضه الرأي، ولكنّ الشيخ أصرَّ على الزيارات المتكرّرة، قائلا: “إن العلم أمانة، وإنه لا يخجل حين يُعارضه تلميذه فيأتي بصواب يُصحّح قوله، وأنّ الأساتذة في أكثرهم فُضلاء، ولكنّ منهم من يتساهلُ في الإعداد، فإذا علم أن شيخ الكلية قد يزوره أمده الله بالعون فترك الكسل إلى العمل”.
شهرته المبكرة بحسن إدارة رواق الشام والنهوض به
كان الشيخ عيسى منون من الذين يعنيهم أمر الإدارة والمسئولية الجادة فيها وعنها، فكان ،وهو شيخ رواق الشام ثم وهو عميد للكليتين العظيمتين ، من الذين يُعنون عناية بالغة بالتفاصيل حتى إنه ترك أثر اهتمامه بهذه التفاصيل في الشكل الذي طبع شخصية الكليتين على مدى عمادته لهما.
و ننقل أيضا عن أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي ما رواه من أن الشيخ عيسى منون رأى أن يهتم بدراسة أوضاع الأوقاف المحبوسة على الرواق، وأن يعرف قيمتها الحقيقية، وطرق استثمارها بعيداً عن أيدي الوسطاء ممن ينظرون إلى مصلحة أنفسهم أكثر من المصلحة العامة للموقوف عليهم من طلبة العلم، واستعان بأولي الدّربة في هذه الناحية حتى أنتج الوقف ما يكفي الحاجة، بل إنه استطاع أن يوفّر مبلغا زائداً كل عام كان يُوزعه بالتساوي بعد استيفاء ما يتعلّق بأعيان الوقف، ومرتبات الموظفين، وقد أشاع ذلك نهضةً في الأرْوقة الأخرى إذ أصرّ الطلاب بها أن ينالوا ما ناله طلاب الشيخ عيسى منون ، واضطر المسؤولون أن يضبطوا الأمر”.
دوره الفذ في التوجيه العلمي لطلاب الشام
“…. كان يُزورهم في مساكنهم ليسألهم عما حصّلوا من الدروس فإذا وجد القياس في فهم مُعْضلة علمية عقد درساً لتمحيصها، وقد ساعدته زياراته المتوالية على معرفة النّوابغ من الكسالى ، وهدّدهم بالفصل ثم أخذ عناوين أولياء أمورهم في بلادهم النائية ليُخبرهم بما وقعوا فيه من إهمال، فأدى ذلك إلى نتائج مبهرة” .
حل مشكلة التحاق الشوام بالكليات الازهرية بمسابقة الانتساب
عندما أُنشئ نظام الكليات الأزهرية، واشترط القانون للالتحاق بها الحصُول على الثانوية الأزهرية، وَاجَهَ المبعوثون إلى الأزهر مشكلةً في الالتحاق بهذه الكليات، فأخذ الشيخ عيسى منون يجاهد النمطية الفكرية في القواعد حتى استطاع أن يُقنع المسؤولين بضرورة انتساب هؤلاء الغرباء إلى الكلية عن طريق امتحان خاص بمسابقة الانتساب، ويُعلن عن مواد الامتحان قبل موعده بعدة شهور، ولحسن الحظ فقد استطاع النابهون أن يجتازوا الامتحان، وقد عمل الشيخ على إعداد دُروسٍ خاصّة لطلبة الرّواق تُهيِّئهم للامتحان المنتظر.
رئاسته للجنة دعم طلاب البعوث الإسلامية
روي أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي كذلك أن الشيخ عيسى منون عني عناية خاصة بطلاب البعوث من الدول الإسلامية التي لا تتّخذ اللغة العربية أداةً لها، حيث يأتي الطلاب دُون استطاعةٍ ما للإلمام بعلوم الأزهر المدوّنة باللغة العربية.
وقد قام الشيخ بعرض المسألة على الإمام محمد مصطفى المراغي حيثُ أصدر قراراً بتأليف لجنةٍ أسند رئاستها للشيخ عيسى منون ، وضمت مشايخ الأروقة المختلفة لدراسة أحوال هؤلاء الطلاب. و قد قررّت هذه اللجنة نظاما يعالج صعوبة التسوية في الامتحان بين كثير من الغرباء والمصريين، ووضعت الاقتراحات التي تقضي بتعديل القانون بإضافة مادة واحدة يُستثنى فيها الغُرباء إذ يخضعون لمادّة جديدة ترعى حالتهم العلمية من ناحية، وتُهيّئ لهم سبيل العلم في منهج ميسّر.
رأيه في شروط المجتهد
في خضم معركة صحفية كتب الشيخ عيسى منون مقالا قيما تحت عنوان ” من لَهُ حق الاجتهاد”:
” إنّ من عرف دقّة الدليل (لدى الأصوليين) ظهر له أن الذي يستطيع الاجتهاد ليس كل من يمسك القلم وإنما يستطيعه المجتهد، وله شروط مبينة في أصول الفقه، منها أن يكون فقيه النفس، عالماً بعلوم العربية، وأصول الفقه، ومتعلق الأحكام من الكتاب والسنة، محيطا بمعظم قواعد الشرع ومُمارسا لها، حتى يكتسب قوة يفهمُ بها مقصود الشارع، خبيراً بموقع الإجماع، واقفاً على الناسخ والمنسوخ….”.
العلاقة بين حرية الرأي والخطأ
” وأما حرية الرأي والحجر على الأفكار فليس مما نحن فيه، لأنّي لا أظن أن أحداً يعقل أن تعدّى الحدود المقرّرة يدخل في نطاق حرية الرأي، أو أن زجر المخطئ عن خطئه يدخل في نطاق الحجر على الأفكار”.
فهمه لانتفاء الكهنوتية في الإسلام
- فإن أرادوا بالكهنوتية وجودَ رُؤساء دين يُحلّلون ويُحرّمون، ويُؤثمون ويُعاقبون أو يعفون بآرائهم الخاصة من غير استناد للشريعة، فهؤلاء لا يوجدون في الإسلام.
- وإن أرادوا وجود علماء يعرفون الأحكام التي شرعها الله، وهم مكلّفون ببيانها على الوجه الصحيح، ورؤسائهم أولياء أمور المسلمين، يحرسون الإسلام من عبث العابثين، ويُقيمون الحدود على المخالفين، فهذا موجود ومشروع.
تعقيب د. البيومي على رأيه في ميدان ممارسة الاجتهاد
أشار الدكتور البيومي بذكائه إلى الميدان الذي ارتضاه الأستاذ عيسى منون ليكون مجالا للاجتهاد ، وأنه حصر الاجتهاد الفقهي في استنباط الأحكام المستحدثة التي لم ينظرها السابقون لأنّها لم تكنْ في زمانهم، واستدرك الدكتور البيومي فعبر عن رأيه هو في أنّ الاجتهاد يجوز في الاحكام التي اجتهد فيها السابقون اجتهاداً لا يستند إلى نصّ من كتاب أو سنة، وإنما كان محض تفكير إنساني قد يُصيبُ مرماه، وقد يجد الاعتراض، وهنا يكون الاجتهاد في هذه الأحكام شيئا طبيعياً لا خطر فيه.
رده على إنكار أستاذ في الحقوق لوجود مذهب جديد للشافعي
روى أستاذنا الدكتور البيومي أن أحد أساتذة الحقوق نشر بحثا في جريدة السياسة ذهب فيه إلى بطلان ما ذاع من أنّ للإمام الشافعي مذهباً جديداً أقرّه في مصر يُخالف بعضَ الأحكام التي سبق أن قرّرها في بغداد، وكانت حجّةُ صاحب هذا البحث أن الشافعي رضي الله عنه قد عاشَ في مصر أربع سنوات وأشهر وعاشَ في غيرها أكثر من خمسة وثلاثين عاماً يُدلي برأيه الفقهي أثناءها، فكيف يتمّ له أن يأتي بمذهب مخالف في هذا المدى القصير، كما ضعّف الكاتب ما أشيع من أن للشافعي رأيين قالهما في وقتٍ واحد، وبصدد حكم واحد، جازماً بأن ذلك لا يُعقل من إمام كبير:
” ولم يكن الشيخ قد اطلع على ما جاء بجريدة السياسة حتى نبّهه بعضُ تلاميذه إلى ما نُشر دون أن يُقابل بالرد، وقد قرأ الشيخ المقال، ورأى أن ينقده ببحث فقهي مستوعب يجعله مستقلاً في موضوعه، دون أن يُشير إلى باعثه، لأنّ ذكر الأسماء مما يُحدث اللجاجة والتعصب دُون أن يرجع على البحث بشيء ذي بال”
بحثه عن حقيقة القديم والجديد من مذهب الإمام الشافعي
هكذا وجد الأستاذ الشيخ عيسى منون نفسه مدفوعا إلى كتابة بحثه المركز تحت عنوان (بيان القديم والجديد من مذهب الإمام الشافعي) فبيّن أن الحيطة كانت دائماً من دَيْدَن الإمام، وأن رجوعه عن بعض آرائه السابقة أثر من آثار هذه الحيطة. بل إن الإمام الشافعي طلب من تلاميذه أن يرجعوا عن رأيه إذا وجدوا حديثا نبوياً يُخالف مذهبه ولم يقرأه الشافعي من قبل، ومن هنا طارت عنه هذه الجملة الذائعة “إذا صحّ الحديث فهو مذهبي”.
فهمه الذكي لثنائية القديم والجديد في أقوال الامام الشافعي
قرر الشيخ عيسى منون أن يحصر الجدل مع كاتب السياسة في سطور موجزة لا تقبل الخلاف ، فذكر قول الإمام النوويّ في المجموع: “واعلم أن قولهم القديم ليس مذهبا للشافعي أو مرجوعا عنه، أو لا فتوى عليه، المُراد به قديمٌ نُصَّ في الجديد على خلافه، أمّا القديم لم يُخالف في الجديد أو لم يتعرضْ لمسألته في الجديد فهو مذهبُ الشافعي واعتقادُه ويُعمل به، ويُفتى عليه، فإنّه قاله ولم يرجع عنه”.
“وهذا النّص يدحض قول من يرى أن معنى الجديد ضياعُ خمسة وثلاثين عاماً من اجتهاد الشافعي في أحكامه، لأنّ هذه الأحكام صحيحةٌ .. صحيحة ما لم يتعرّض لها الشافعي بتصحيح، وهي بالنسبة لما تعرّض له ذاتُ حيّزٍ قليل”.
” نَعَمْ، إن الشافعي قد دوّن أكثر كتبه في مصر، وقد تلقى عنه مؤلفاته الكبيرة أمثالُ أبي يعقوب البويطي، وأبي إبراهيم المزني، والربيع بن سليمان المرادي، وحرملة، والربيع الجيزي، ويونس بن عبد الأعلى، وعبد الله بن الزبير المكّي، وكلهم نُبهاءُ فقهاء، ولكن هل كلّ ما أملاهُ عليهم من أحكام مذهبه يغاير ما سبق أن قال به!.
” نعمْ، إن هذه المؤلفات يطلق عليها المذهب الجديد باعتبار زمنها المتأخر، لا لأنها نسخت الأحكام القديمة، فدعوى كاتب السياسة لا تستند إلى دليل “.
استبعاد الرأيَيْن المختلفين في وقت واحد
” أما ما احتج به من استبعاد الرأيَيْن المختلفين في وقت واحد، فهو أمرٌ لم يغب عن الفقهاء من حَفَظَة مذهبه، فقد ذكروا احتمال تكافؤ الأدلة بين الحكمين فلا ترجيح، كما ذكروا ان هذا قد وقع منه في مسائل أحصيت فلم تزد عن عشر مسائل، والتوقّف هنا دليل حذرٍ متيقظ لأنّ الإمام قد رأى صحة الرأييْن معاً، ومثّلوا لذلك بحكم وقوع ما لا نَفْسَ له سائلةٌ من الماء ثم مات به : أينجس الماء أم لا؟ وهي أولُ مسألة في كتاب (الأم) ذات قوليْن.
تعقيبه على رأي احمد أمين في الفرق بين المتكلم والفيلسوف
كان الشيخ عيسى منون معنيا بتحديد الفرق بين الفيلسوف وعالم الكلام، وذلك في مواجهة تصوير الأستاذ أحمد امين في كتابه (ضحى الإسلام): “إن موقف المتكلم موقف محام مخلص، اعتقد صحّة قضيته، وتولّى الدفاع عنها، يصوغ لها من الحجج والأدلة ما يؤيّدها، أما موقف الفيلسوف فموقف قاض عادل تُعرض عليه قضيةٌ لا يكوّن فيها رأياً حتى يسمع هؤلاء وهؤلاء، ويزن ما سمع بميزان دقيق غير متحيّز”.
وقد عقّب الشيخ منون على هذا الرأي فقال:
“وقولُه يقتضي أن موقف الفيلسوف أجلّ من موقف المتكلم، ولا يخفى أن ذلك لا يقصده حضرة المؤلف ولا يرضاه ” ثم استطرد الشيخ إلى قوله: “إن المتكلم يُثبت العقائد الدينيّة لنفسه بالحجج القطعية التي وصل إليها بعقله المطمئن لحكمه، بعد الاسترشاد بكلام ربّه، ثم يُعلّمها لغيره بحججها التي وصل إليها فهو إذن ليس كموقف المحامي المخلص من قضية اعتقد صدقها فصاغ لها من الحجج ما يكفي لإثباتها ضد الخصوم، لأن ما يدافع عنه هو قضيته ورأسُ ماله، .. قضيتُه لا قضيةُ سواه”.
تعقيبنا على رأيي الأستاذين الكبيرين
وإذا كان لنا ان نعقب على هذا الاختلاف ، فإن التشبيه الأمثل و الأصدق هو أن نقول إن الفيلسوف كالمهندس المعني بالهدم على حين أن عالم الكلام كالمهندس المعني بالبناء ، ومع أن بعض البناء يتطلب هدم القديم في كثير من الأحيان ، فإن بعض البناء لا يستلزم هدما ، و من ناحية ثالثة فإن الهدم وحده لا يبني ، على حين أن البناء كفيل بنفسه من دون هدم ، و الله أعلم .
تأريخه لعلم التوحيد
يقول أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي :
” أرخ الأستاذ عيسى منون لعلم التوحيد، في تاريخٌ لم يَتْبَع به أحداً من الكاتبين، حيثُ استقلّ باتجاه خاص بدأه بتعريف العلم المشتهر في كتب الأزهر، وهو أنّه العلم بالعقائد الدينيّة المكتسب من الأدلة اليقينية، ونصّ على أن المراد بالعقائد هي عقائد الدين الإسلامي ليكون علم التوحيد خاصّاً بالأمة الإسلامية، وهذا لا خلاف عليه.
وكان للشيخ عيسى منون موقف واضح من القول بأن المراد بالعقائد المستندة إلى الأدلة الشرعية عقائدُ أهل السنة فحسب، ذلك أن الشيخ رجّح أن تكون العقائد عقائد جميع الفرق الإسلامية وهو الاتجاه المنطقي، إذ لو اختص علم التوحيد بعقائد أهل السنة، ما كان له هذا الاتساع الفكري في الجدال، وأهل السنة أنفسهم مُختلفون بين سلفيين واشعريين وماتُرديين، فأيّهم المعني إذن؟ إذا قصرنا العلم على اتجاه واحد؟
حديث د. البيومي عن موسوعته الضخمة التي لم تنشر
” ويخيّل إليّ ان هذه المحاضرة القيمة عن علم الكلام كانت فاتحة لكتاب اعتزم الشيخ تأليفه، لأنه رسم خطة التأليف في آخر البحث فقسّمه إلى خمسة أبواب يتحدّث الباب الأول عن عقائد الأُمم قبل الإسلام، ويتحدث الباب الثاني عن العقائد الدينية في عهد النبوة وما تلاه من عهد الصحابة والتابعين، ويتجه البابُ الثالث إلى الفِرَق الدينيّة حتى عصر أبي الحسن الأشعري، اما الباب الرابع فيختصّ بما بعد الأشعري حتى الغزالي، ويمتدّ الباب الأخير من الغزالي إلى عصرنا هذا.
تشبيهه لعمله في الأصول بعمله في الفقه
“ولعلَّ الرجل الهادئ كَتَبَ كتابَه ولم يُخرجه للناس، كما فعل في شرح (المهذب) في الفقه، إذ واصل ما كتبه الإمام النووي في كتاب المجموع ومن بعده السبكي، فكتب شرحَه مُبتدئاً بما انتهيا إليه، وتَرَك ما قام به مخطوطاً ، وهو يقعُ في مئة كراسة، أيْ أنّ ما كتبه الشيخ قد انتهى إلى أربعة آلاف من الصفحات”
من رثاء الشيخ حسنين مخلوف له
كان الشيخ حسنين مخلوف قد زامل الشيخ عيسى منون في مقاعد الدراسة في الازهر قبل أن يلتحق بمدرسة القضاء الشرعي ، و قد وصف الشيخ مخلوف حال زميله الشيخ عيسى منون وحال أقرانهما من طلاب الأزهر في ذلك الجيل فقال: “كان دأب النابهين من الطُلاب إذ ذاك ألا يحضروا الدرس إلا بعد مطالعة الشروح والحواشي، وقد يضيفون إليها التقاريرَ مطالعةً دقيقة، رغبةً في العلم وتثبتاً منه، ويُناقش بعضُهم بعضاً في عباراتها ومفاهيمها، فتختلف الآراء والمذاهب، فإذا ألقى الشيخ المحقق درسه، وشرح ما كتب فيه، وفنّد الاعتراضات، وحقق الأجوبة واستخلص الحقّ من بين الآراء المتعارضة ــ عَرَف هؤلاء الطلاب الخطأ والصواب فيما تناقشوا فيه، وكانوا يُناقشون الشيخ مناقشةً قوية، وكانتْ هذه الدراسة شحذاً للأذهان، وتربيةً للملكات، وتقوية للمعارضة، وتدريباً على الجدل والمناظرةر”
رثاء الشيخ عبد الله المراغي
” …. كان مرجع الحائرين في عويصات مسائله (الحديث عن علم الأصول )، ولقد حظيت بالتلمذة له في قسم التخصص القديم، فكان يُدرِّس علم الأصول في كتاب (مسلَّم الثبوت) وما كان أشدّ حِرصنا على الإصغاء له، وتدبُّر كل ما يقول، لأنّه كان يجمع لنا معلومات كاملة شاملة، وقد تفهّمها في نفسه وهضمها بثاقب ذهنه، وكمْ كانت له منا مواقفُ جدل عنيف يستجلي فيها غوامض المسائل ومشكلاتها، فما يترك سائلاً في بيداء الحيرة إلا أخذ بيده رويداً رويداً … وكلّ ذلك منه في تواضع جمّ، وصدر منشرح، وشكرٍ لله على نعمة الهداية والتوفيق”.
آثاره
- نبراس العقول في تحقيق القياس عند علماء الأصول
- تكملة المجموع شرح المهذب
- رسالة في مناسك الحج
- محاضرات في التوحيد وأصول الفقه
- رسالة في الرد على من يدعون بجواز ترجمة القرآن
- رسالة في حكم قتل المرتد
وفاته
توفي الشيخ عيسى منون في 6 يناير 1957 ودفن في مدافن الإمام الشافعي بالقاهرة.