الرئيسية / المكتبة الصحفية / العلامة  محمد شاكر الإشراق المبهر للإصلاح الأزهري 

العلامة  محمد شاكر الإشراق المبهر للإصلاح الأزهري 

مكانته المرموقة في النهر الأزهري

الشيخ محمد شاكر 1866 ـ 1939  واحد من أبرز علماء الأزهر، وهو أبرز  علماء  جيله الذي نُسميه جيل الوسط، وهو الجيل الذي بين جيل الشيخ محمد عبده وجيل الشيخ المراغي، وهو من حيث تاريخ مولده يؤكد هذه القاعدة فهو يصغر الشيخ محمد عبده بسبعة عشر عاما ويكبر الشيخ المراغي بخمسة عشر عاما. وينطبق هذا أيضا على مكانته بين الجيلين اللذين توليا المشيخة فهو يصغر الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي [أصغر جيل الشيوخ الثمانية المولودين في عهد محمد علي و الذين تولوا المشيخة ما بين 1870 و 1927 ] بتسعة عشر عاما ويكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق [أصغر جيل الشيوخ السبعة و الذين تولوا المشيخة ما بين 1928 و 1954 ]  بتسعة عشر عاما.

جمع الشيخ محمد شاكر العلم والرياسة والتفوق في القضاء والإدارة والسياسة و البرلمان ، واستحوذ علي محبة الجماهير التي منحته ثقتها، وهو عميد عائلة من العلماء وأهل الفضل  وصهر لعائلة أخرى من العلماء وأهل الفضل   . كان الشيخ محمد شاكر مفكرا مستنيرا من  الذين أثبتت لهم الحياة العامة والعلمية والوظيفية  مكانتهم يوما بعد يوم ، وشهد لهم التاريخ انهم كانوا أكبر قيمة من بعض من تولوا مشيخة الأزهر في حياته ، وهو أبرز هؤلاء على الإطلاق، ذلك أنه كان قد ولى المشيخة بالنيابة في وجود الشيخ عبد الرحمن الشربيني حين  كانت ظروفه الصحية لا تمكنه من القيام بأعمال المشيخة، كما أنه من المتواتر أنه اعتذر عن المشيخة في أثناء النزاع الذي تكفلت به جماعات قوية من  مؤيدي الشيخ المراغي ضد الشيخ الظواهري، مع أن قبوله كان حلا نموذجيا لكنه لم يكن من هواة السلطة لذاتها .

مصاهرته و معاصرته للشيخ هارون الاب و ابنيه و للشيخ مخلوف الاب

كان الشيخ محمد شاكر زوجا لابنة  للشيخ هارون عبد الرازق   1833- 1918 شقيقة العالمين الجليلين  محمد هارون  1866-1922 الذي خلفه في منصب قاضي قضاة السودان و الشيخ أحمد هارون  1872- 1930 الذي أصبح وكيلا للأزهر بعده  بسنوات.   ومن الطريف أن ابنين للشيخين محمد شاكر و الشيخ محمد هارون  تعاصرا أيضا  و ولدا في عام واحد كوالديهما ، ووصلا إلي عضوية مجمع اللغة العربية و نال كلاهما جائزة الدولة التقديرية في الآداب و جائزة الملك فيصل في الأدب العربي  وهما الأستاذ محمود  محمد شاكر  1909 – 1997  والأستاذ عبد السلام محمد هارون 1909- 1988 .

معاصرته للشيخ مخلوف الاب

و كان  الشيخ محمد شاكر معاصرا للشيخ محمد حسنين مخلوف (1861 ـ 1936)، وقد تولي كلاهما منصب وكيل الأزهر، لكن الشيخ محمد شاكر كان الأسبق في هذا ، وقد خلفه الشيخ محمد حسنين مخلوف ، وكذلك عين الشيخ حسنين مخلوف شيخا للجامع الأحمدي في طنطا 1908 بعد تعيين الشيخ شاكر ونجاحه في معهد الإسكندرية ، ومن الطريف أن ابنين لهما تعاصرا أيضا وتوليا أعلى المناصب في سلك القضاء الشرعي وهما الشيخ حسنين (1890 ـ 1990) الذي تولي منصب المفتي ، والعلامة المحقق الشيخ أحمد شاكر (1892 ـ 1958)

جيل علماء الوسط الذي لم يصل أحد منهم لمشيخة الأزهر

 قدمنا أن الشيخ محمد شاكر ينتمي إلى جيل ضم مجموعة من أبرز العلماء الناصحين الناضجين الناجحين و العاملين المؤثرين، كان منهم اثنان يشتركان معه في الوصف الذي نقوله بأنهم كانوا أهم من معظم مشايخ الأزهر المتعاقبين في حياتهم ، وهما الشيخان يوسف الدجوي  1870- 1946 وعبد المجيد اللبان  1871- 1942  ، وإلي هذا الجيل أيضا ينتمي المشايخ أحمد رافع الطهطاوي 1859- 1936 ومحمد حسنين مخلوف 1861-1936 وعبد الرحمن قراعة 1863 ـ 1939 وأحمد هارون 1872 -1930 وطنطاوي جوهري 1870-1940، ومحمد رشيد رضا 1865 ـ 1935 وقد ذكرنا في أكثر من موضع أن النحاس باشا لما تولى رئاسة الوزارة، و كان عليه أن يختار شيخا للأزهر فإنه بذكائه حرص على أن يتجاوز هذا الجيل رغم معرفته و إيمانه بجدارتهم وأحقيتهم إذ أدرك أنه لا بد له من أن يصل  إلى جيله وهو الجيل الذي يمثل قيادات شباب الثورة ١٩١٩ وذلك لأنه كان حريصا على قوة وعنفوان مفاصل الدولة والحضارة المرتبطة بها، ولم تكن خبرته في أحداث ثورة 1919 لتسمح له بأن يقبل بمبدأ محدودية النهضة أو وقوفها عند بعض محطات التاريخ  بلا اهتمام، وإنما كان يعرف  ويفهم بكل وضوح أنه لا بد أن يمكّن لجيله في كل ميدان من ميادين الحياة العقلية والاجتماعية عن طريق الاقتحام وخوض التجربة ، و أن يلتزم بالحرص على هذا في كل المجالات بالتوازي، ولهذا فإنه اختار ألمع وأكفأ أبناء جيل الثورة ، وهو الشيخ محمد مصطفى المراغي (1881 ـ 1945) الذي يصغره بعامين وفي المواكبة لهذا فإن الملك فؤاد نفسه سرعان ما التقط  الخيط وأصبح متأثراً بهذه الفكرة ، ولم يكن اختياره بعيداً عن اختيار النحاس باشا فإن الشيخ الظواهري (1877 ـ 1944) كان يكبر النحاس باشا بعامين اثنين فقط .

نشأته وتكوينه

ولد الشيخ محمد شاكر بجرجا ، وتلقي تعليما دينيا تقليديا بدأه في الكتاب حيث حفظ القرآن الكريم، ثم التحق بالأزهر وتخرج فيه.

و علي عادة العلماء الذين اختيروا للعمل في سلك القضاء الشرعي في ذلك الجيل فقد بدأ الشيخ شاكر عمله أمينا للفتوي  في  4 مارس 1890  فأدرك بهذا عهد أستاذه العظيم الشيخ العباسي المهدي، مفتي الديار المصرية.

وسرعان ما نقل الشيخ محمد شاكر قاضيا بالمحاكم الشرعية ،  و ولي منصب نائب محكمة مديرية القليوبية، في 13 فبراير 1894 ، ومكث في هذا المنصب أكثر من ست سنين ، وفي أثناء ذلك عرف الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده  قدراته  وميله الجاد للإصلاح والتطوير فأعانه على البروز و النبوغ .

قاضي قضاة السودان

رأى الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده بثاقب نظره أن يمكن للشيخ محمد شاكر في بعض البلدان، حتى ينفذ آراءه في الإصلاح. ولذلك زكَّاه لمنصب قاضي قضاة السودان (1900)، وأخذ الخديو بتزكية الشيخ محمد عبده، فصدر الأمر العالي بإسناد منصب قاضي قضاة السودان للشيخ محمد شاكر في 11 مارس 1900 ، وكان سِنُّ الشيخ محمد شاكر آنذاك 34 سنة. ومما هو جدير بالذكر أن من خلف الشيخ شاكر في هذا الموقع كان هو صهره الشيخ محمد هارون المولود معه في نفس العام ، ثم الشيخ محمد مصطفى المراغي 1881- 1945 .

شيخا لعلماء الإسكندرية

في أبريل سنة 1904 اختير الشيخ محمد شاكر ليكون شيخا لمعهد الإسكندرية وشيخا لعلماء الإسكندرية ، فخاض تجربة تطعيم المناهج الأزهرية بدراسة العلوم التي يحتاج إليها طالب العلم في ثقافته العامة (العلوم الحديثة)، وأكثرها مما كان معروفاً بالأزهر  لكنها كانت اختيارية فجعلها إجبارية ، وبث في المعهد كل ما هو ممكن من الجدة والجدية والجودة و النهوض و الريادة.

  وقد تمكن هذا العالم الجليل الممتلئ نشاطا وحيوية  بجهده وكفايته من أن يجعل من منصب شيخ علماء الإسكندرية وشيخ معهد الإسكندرية المنصب التالي في البروتوكول العلمي والحضور الوظيفي لشيخ الأزهر مباشرة. 

تأسيسه أول مؤسسة للتعليم العالي مرتبطة بما قبلها 

وفي لمح البصر و بلا مبالغة بعث  الشيخ في ذلك المعهد و تلك المدينة العظيمة نهضة علمية و بدأ بتطبيق أسس النظم الجديدة في التعليم العام والعالي وما بعد العالي، وأجاد اختيار الكتب والمقررات،  كما اهتم بزيادة الوقت المخصص للارتقاء بجوهر العلم  و متطلبات الحياة .

تأسيسه  أول جامعة إقليمية مصرية في الإسكندرية

على أن الأهم من هذا  انه كان من أسس أول جامعة إقليمية في مصر لا من خلال تحويل [بالحاء] معهد الإسكندرية إلى جامعة ولكن من باب تخويل [بالخاء] معهد الإسكندرية كل سلطات الجامعة وما بعد الجامعة أيضا، فقد جعل من حق الإسكندرية أن تمنح عالمية الأزهر وأن تمارس تدريسها وما بعد تدريسها بل إن عددا من أبرز أبناء ذلك الجيل من الخريجين كانوا من أزهر الإسكندرية لا من الجامع الأزهر في القاهرة وفي مقدمة هؤلاء شيخا الأزهر ما بين 1954 و1963 وهما الشيخان  محمود شلتوت 1893- 1963 وسلفه الشيخ عبد الرحمن تاج  1894-1975

وقد كان هؤلاء العلماء الأجلاء هم الامتداد الطبيعي والطليعي للشيخ محمد شاكر وجهوده التربوية والإصلاحية، وهي جهود جعلته بمثابة أستاذ الجيل بين الأزهريين، فمن معطفه هو ، قبل غيره ، خرجت كلّ زعامات الأزهر العلمية والفكرية في الجيل التالي لجيله .

الفرسان الأربعة الذين اختارهم لمعاونته

اختار الشيخ محمد شاكر لمعاونته  في تطويره لمعهد الإسكندرية أربعة علماء أفذاذ يفصل بين مولد كل منهم و زميله عامان :

  • الشيخ عبد الهادي مخلوف 1872- 1936
  • الشيخ عبد الله دراز 1874 – 1932
  • الشيخ عبد المجيد الشاذلي 1876- 1929
  • الشيخ إبراهيم الجبالي 1878 – 1950 .

توليه مشيخة الأزهر بالنيابة

 انتدب الشيخ محمد شاكر للقيام بعمل شيخ الأزهر طيلة فصل دراسي  كامل من مشيخة الشيخ عبد الرحمن الشربيني ( من رمضان وحتى ذي الحجة ) فلما أبلّ الشيخ الشربيني من مرضه قام بأعباء المنصب.

تعيينه وكيلا للأزهر

وبعد خمس سنوات في مشيخة علماء الإسكندرية  عين الشيخ محمد شاكر وكيلا للأزهر (29 ابريل 1909 ) ليخلف بهذا الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي الذي خلفه في مشيخة علماء الإسكندرية ، و قد واكب هذا تعيين الشيخ سليم البشري شيخا للأزهر للمرة الثانية ، وبهذا فإن من خلف الشيخ شاكر في ثاني أهم مناصبه أصبح أيضا شيخا للأزهر .

دوره في الإصلاح الازهري: قانون شاكر

في أثناء عمله وكيلا للأزهر عاصر فترة مشيخة الشيخ سليم البشري الثانية (1909 ـ 1917). وفي عهدهما صدر قانون تنظيم الأزهر (المعروف باسمه هو : قانون شاكر ، و المسمى رسميا بالقانون رقم 10 لسنة 1911)،

عضويته التأسيسية في هيئة كبار العلماء

اختير الشيخ محمد شاكر عضوا ضمن اول فوج من العلماء في هيئة كبار العلماء التي نص قانون ١٩١١ على نشأتها ، وكان هو نفسه من أحدث أعضائها سنا إن لم يكن أحدثهم ، وكان من هؤلاء العلماء والد زوجته الشيخ هارون عبد الرازق 1833-1918 .

مشاركته المبكرة في المجالس التشريعية

تفرغ الشيخ محمد شاكر للإصلاح السياسي والاجتماعي، وسار مسيرة أستاذه الإمام محمد عبده في الإصلاح، وأصبحت  مكانته الاجتماعية والسياسية والتاريخية المتقدمة أكبر من أن ترتبط بشغله موقعا وظيفيا مهما علا قدره.

أضاف الشيخ محمد شاكر لنفسه  بُعداً آخر كان هو الأسبق فيه، وهو عضوية المجالس التشريعية ، وإن كان الشيخ حسونة النواوي قد سبقه إلى شيء شبيه حين كان عضوا في مجلس شورى القوانين ، كما كان الشيخ عبد الله الشرقاوي قد ترأس الديوان في عهد نابليون ، وقد لحق بالشيخ شاكر فيما بعد الشيخ محمد الأحمدي الظواهري والشيخ حسين والي والشيخ عبد المجيد اللبان  والشيخ محمد عز العرب المبتديان  والشيخ محمد عبد اللطيف دراز وعدد آخر من المشايخ الأعلام ، لكنهم لم يمارسوا أمر نيل العضوية بالجسارة التي مارسه هو بها ، وذلك أنه قرر فيما بينه وبين نفسه أن يخرج عن إطار المناصب الأزهرية  والحكومية إلى الأفق العام ليتحرر من أعباء الوظيفة مؤثرا الابتعاد عن صراعات الوظائف الرسمية وارتباطاتها وتبعاتها، وما يترتب عليها من التحزبات  والصراعات. وقد نفذ الشيخ شاكر هذا التوجه بطريقة ذكية حين اتجهت النية إلى إنشاء البرلمان الجديد المسمى بالجمعية التشريعية في 1913، وكان قانون هذا البرلمان ينص على أن يترك العضو المنتخب أو المعين في الجمعية وظيفته ولا يجمع بينهما وبين عضوية الجمعية التشريعية، مع احتفاظه بالحق في أن يعود إلى هذه الوظيفة بعد انتهاء العضوية.

في الجمعية التشريعية

وجد الشيخ محمد شاكر في عضوية الجمعية التشريعية منفذا إلى الحرية فطلب إلى رئيس الوزراء محمد سعيد باشا أن يكون واحدا من الأعضاء المعينين فأجابه إلى طلبه، وهكذا أصبح الشيخ محمد شاكر وهو في السابعة والأربعين من عمره متحرراً تماماً من قيود الوظيفة وارتباطاتها محتفظا في الوقت ذاته بمكانته العلمية والمجتمعية. وقد زامل الشيخ محمد شاكر في الجمعية التشريعية كلا من سعد زغلول وعدلي يكن وكيلي الجمعية وأعضاء منتخبين كعبد العزيز فهمي باشا وحمد الباسل باشا وعلى الشمسي باشا وعلي شعراوي باشا و محمد فتح الله بركات باشا ووجوه السياسة في مصر.

دوره في ثورة ١٩١٩

لما اندلعت ثورة ١٩١٩ كان الشيخ محمد شاكر من أبرز علماء الأزهر الذين مارسوا النشاط السياسي في مواقع متقدمة ، وكان واحدا من قادة ثورة 1919، وكان من أعلي الأزهريين قدرا فيها، وقد نُشر كثير من مقالاته السياسية الاستقلالية و الوطنية في الصحف، وكان لمقالاته أثرها في إذكاء الروح الدينية والوطنية.

ومن المعروف أن من أقطاب الأزهريين في هذه الثورة : الشيخ أحمد نصر العدوي والشيخ عبد المجيد اللبان والشيخ يوسف الدجوي والشيخ علي سرور الزنكلوني والشيخ عبد ربه مفتاح والشيخ عبد الباقي سرور نعيم والشاعر عبد الله عفيفي والشيخ محمود أبو العيون  والشيخ محمد عبد اللطيف دراز فضلا عن الشيخ مصطفى القاياتي والشيخ محمد عز العرب المبتديان اللذين كانا من طبقات الوفد القيادية  التي تولت المسئولية في أثناء غياب زعامات الوفد في المنفى والسجن .

المقارنة بينه وبين الشيخ محمد عبده

بقي سؤال مهم وهو ماذا كان ينقص محمد شاكر ليكون محمد عبده؟ والإجابة بسيطة وهي انه لم يكن ينقصه إلا تجربة المنفى والغربة والاطلاع على الغرب والمناقشة مع الغرب ، كان ينقصه هذا الجانب المهم لسبب جوهري لا لأن الغرب أفضل ولكن لأنه شيء مختلف، ولا بد للريادة من نقاش أو حوار مع المختلف وتحمل لعرض هذا الآخر المختلف لوجهات نظره التي يظن أنها هي الصواب ، وهو ما كان الشيخ محمد عبده قد تفوق فيه بفضل احتكاكه بالأجانب في اكثر من ميدان منها عضوية محكمة الاستئناف.

المقارنة بينه وبين الشيخ المراغي

من ناحية أخرى فمن المدهش في الأمر والباعث على الثقة بحظوظ المصريين في ذلك الوقت أن الشيخ محمد شاكر كان بمثابة مشروع الشيخ المراغي الأول ، وأن الشيخ المراغي كان بمثابة مشروع الشيخ محمد شاكر الثاني، فقد تبلورت أهم خطواتهما في الصعود العلمي والمجتمعي والوظيفي بتجربة عمل كليهما قاضيا لقضاة السودان . بل إن خطوات الشيخ محمد شاكر الأولى كانت أكثر قوة من خطوات الشيخ المراغي فيما قبل توليه المشيخة، ذلك أن الشيخ محمد شاكر اختير وهو في الثالثة والأربعين من عمره لتولي منصب وكيل الأزهر، وهو منصب لا يبعد كثيراً عن منصب شيخ الأزهر، بل إنه كان قبل هذا قد تولى أعمال المشيخة بالفعل. ومن الجدير بالذكر أن الشيخ محمد شاكر كان قد تجاوز الستين حين خلا موقع المشيخة بوفاة الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي .

اهتمامه بإصلاح نظم القضاء الشرعي و محاكمه

روى الشيخ  أحمد محمد شاكر فيما كتبه عن ابيه ما رواه له الأب أنه حين كان أميناً للفتوى جاءت امرأة شابة حُكم على زوجها بالسجن مدة طويلة، و ذكرت له أنها تخشى الفتنة، وتريد عرض أمرها على المفتي، ليرى لها رأياً من زوجها، حتى تتزوج رجلاً آخر وتعصم نفسها. فصرفها الشيخ محمد شاكر رحمه الله معتذراً آسفاً متألماً، إذ كانت الأحكام مقيدة بمذهب أبي حنيفة ، وليس في مذهب أبي حنيفة ما يُجيز للقاضي الحكم بالتطليق على الزوج، المعسر أو المحبوس، أو نحو ذلك.

ثم عرض الشيخ محمد شاكر أمرها على شيخه المفتي، واقترح عليه اقتباس بعض الأحكام من مذهب الإمام مالك في مثل هذه المشاكل المعضلة، فأبى الشيخ كل الإباء، واستنكر هذا الرأي أشد الاستنكار، وكان بين الأستاذ وتلميذه جدال جاد في هذا الشأن، ولكنه لم يؤثر فيما كان بينهما من مودة وعطف، وما زال الشيخ محمد شاكر مقتنعاً برأيه، واثقاً بصحته وفائدته للناس، حتى  تمكن من إقناع الشيخ محمد عبده بفكرته في 1899 .

محاولته المبكرة لتوسيع  مرجعية المحاكم الشرعية

مكث الشيخ محمد شاكر في المحاكم الشرعية نحو خمس سنوات، و بلور بنفسه  ما في هذه المحاكم من قصور يستدعي الإصلاح ومع أنه قدم مذكرة شاملة مترابطة على عادة الأزهريين في ذلك الجيل فإننا نستطيع باختصار ، وبلغة عصرنا الحالي التي لم تكن في زمنه مفصلة هكذا ، نقول إنها شملت نواحي الإصلاح الأربع :

أولا : الإصلاح التشريعي

  • ما أحس أنه يرهق الناس من أحكامها، بسبب التقيد بمذهب أبي حنيفة، بل التقيد بما قاله العلماء من متأخري أتباعه، والتمسك بألفاظهم الحرفية.
  • إجراءات المحاكم المعقدة المطولة.

ثانيا : الموارد البشرية

  • سوء اختيار العاملين فيها ، بمن فيهم بعض القضاة وغيرهم.

ثالثا : الإمكانات اللوجستية

  • تدهور مقارها وتأثيثها من حيث المباني و التجهيزات والحفظ …الخ

رابعا : مكانة منظومة القضاء الشرعي في بنية الدولة وهيكلها  

  • إهمال الحكومات المصرية للعناية بكيانها، اتباعاً لسياسة مرسومة في القضاء عليها، تقليداً للغربيين ولمن أُشربوا آراءهم وعقائدهم.

تقريره للإمام محمد عبده

في أوائل سنة 1899 قدم الشيخ محمد شاكر تقريره عن المحاكم الشرعية للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، و قد نقد في تقريره  حال هذه المحاكم وقضاتها وعمالها ، وأبان أوجه النقص والخطأ في اللائحة التي كان معمولاً بها في ذلك الوقت، واقترح طرق الإصلاح تفصيلاً، ومنها اقتباس بعض الأحكام من مذهب الإمام مالك، في التطليق للإعسار، وللضرر، وللغيبة الطويلة، وغير ذلك. وكان هذا التقرير في رأي ابنه الشيخ أحمد شاكر هو فاتحة العمل الصحيح في إصلاح المحاكم الشرعية، والرقي بها في مقامها السامي في الإسلام.

تقرير الإمام محمد عبده الشهير

وفي تلك السنة  1899 قام الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده بزيارته التفقدية لكثير من محاكم الوجه البحري، واطلع على سير الأعمال فيها، مستهدفا وضع برنامج لإصلاحها ، ثم وضع تقريره المشهور في إصلاح المحاكم في نوفمبر 1899 ، وهو التقرير الذي طبع بمطبعة المنار في شهر شوال 1317 هـ (1900) ، وهكذا اتفق رأي الأستاذ الإمام ورأي تلميذه الشيخ محمد شاكر الذي كان لا يزال يعمل بالقضاء الشرعي ، في كثير من صور النقد والإصلاح.

نجاحه التشريعي في السودان

كانت  الثورة المهدية في السودان قد هدمت النظم والقوانين والحكومة، فكان ذلك أيسر على الشيخ محمد شاكر حين بدأ وضع النظم للمحاكم الشرعية هناك، على النحو الذي يريد، وفي تنفيذ بعض آرائه في الإصلاح والتجديد، على نسق جديد، وهكذا اقتبس في التشريع من المذاهب الإسلامية ما كانت الحاجة إليه ماسَّة، مما تؤيده أدلة الشرع وفقهها الصحيح. وأشد ذلك ظهوراً للمتصلين بالقضاء الشرعي ما يتصل  بالحكم بالتطليق للغيبة، والإعسار، والحبس، والضرر، ونحوها، مما اقتبس في مصر بعد ذلك بالقانون رقم 25 لسنة 1920 .

 ووضع الشيخ شاكر كثيراً من القواعد الدقيقة للإجراءات، مما اقتُبس بعضه في مصر في اللائحة التي صدرت سنة 1910.

كان مجددا بأكثر مما رأى الأستاذ الأمام تطبيقه

من المفهوم و المتفق عليه أن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده لم يجد الفرصة المواتية لبدء إصلاح تشريعي  يتضمن الأخذ بأحكام فقهية تخالف مذهب أبي حنيفة، وخاصة في التطليق من القاضي، فترك الكلام في تلك الجزئية ، كما أشار إلى مقترحاته في المرافعات إشارة عامة، ودعا إلى الأخذ بشيء من أحكام المذاهب الأخرى، لكن الشيخ شاكر من خلال موقعه في السودان نجح في تنفيذ ما كان الشيخ محمد عبده يتمناه  ثم جاء الشيخ المراغي فأفاد من تجربة السودان في التشريعات المصرية .

تشريعات السودان سبقت مصر بعشر سنين و عشرين سنة

  يمكن لنا القول بأنه بفضل ما أتيح للقضاء في السودان على يد الشيخ محمد شاكر الذي جمع سلطة التشريع مع سلطة القضاء فان السودان سبق مصر في نواحي الإصلاح التشريعي بعشر سنين، وفي بعضها الآخر بعشرين سنة. وقد أوردنا في كتابنا عن الدكتور عبد الحميد بدوي باشا 1887- 1965 ما أثبته هذا القانوني العظيم من لمحة وافية عن الأطوار التي مرّ بها التشريع في السودان في ظل الاتفاق المصري البريطاني الذي كان ينوط السلطة التشريعية بحاكم السودان الذي هو موظف مصري بريطاني . 

تجربته مع البريطانيين في السودان

كشفت هذه التجربة عن صلابة الشيخ محمد شاكر في الحق،  واعتداده برأيه ، ففي سنة 1902 قام القاضي الشرعي لمحلة (الرباطاب) بالإجازة من غير أن يعلم الشيخ محمد شاكر بها أو يصرح له بمبارحة مركز وظيفته، فلما علم الشيخ محمد شاكر كتب إلى السكرتير القضائي (الإنجليزي) بخطأ ذلك التصرف، ثم ارسل برقية إلى قاضي (الدامر) يأذن له فيها بمباشرة الأحكام الشرعية في محكمة (الرباطاب) مدة غياب قاضيها، وظن السكرتير القضائي أنه وجد فرصة سانحة لخدمة الأغراض السياسية ، فكتب إلى الشيخ محمد شاكر أنه لاحظ أن محكمة العموم تزداد ميلاً إلى التدخل “إدارياً” في شئون المحاكم التابعة لها، ومحكمة العموم هذه هي التي يرأسها الشيخ محمد شاكر قاضي قضاة السودان.

ظن السكرتير القضائي أن تمسُّك الشيخ محمد شاكر بحقه تدخُّل منه في شؤون المحاكم الإدارية، فطلب إليه الانتباه، بقدر الإمكان، إلى هذا كما انتبه أنا ـ يعني السكرتير نفسه ـ إلى عدم المداخلة في استقلال محكمة العموم في الأمور القضائية.  لكن الشيخ محمد شاكر لم يتقبل ملاحظة السكرتير القضائي ، وإنما رد عليه مباشرة رداًّ طويلاً ختمه  بقوله :  ” وإلى هذا الحد أرجو أن تعيدوا النظر في هذه الملاحظات ، وتقدروا موضعها حق قدره، فإن بقاءها على ما هي عليه يذهب بالكثير من الثقة التي هي عماد الاشتراك في المصالح، والتي إن فقد الموظف شيئًا منها فخير له أن يفقد مركزه ليحتفظ بها، وأنا أول رجل يسخو بمركزه في سبيل الثقة في النفس”.

قصة معارضته في الإلزام برد مهر الزوج الثاني 

روي العلامة الشيخ أحمد شاكر 1892- 1958 مما حدثه به والده أن  السكرتير القضائي لم يلزم نفسه بالعهد الذي قطعه، فتدخل في الأمور القضائية مرة بعد مرة، وحاول ذلك السكرتير القضائي أن يجد أية ثغرة للتدخل في عمل القضاء في السودان ، و ظن ان الفرصة واتته لهذا التدخل في قضية ادعت فيها امرأة أمام قاضي “الكوة” غيبة زوجها، فطلقها وزُوِّجت بآخر، ثم حضر الزوج الأول واستأنف هذا الحكم، فألغي عقد الزواج الثاني فطلب الزوج الثاني إلزام القاضي بالمهر وما أنفقه، لأنه المتسبب.  وأبدى السكرتير القضائي ميله إلى الحكم بأن يرد للزوج الثاني المهر الذي دفعه للمرأة، ولكن الشيخ محمد شاكر رد عليه ردًّأ يقطع بألا وجه لذلك في الشريعة ، فرد السكرتير القضائي يقول ضمن ما قال : “…. لا يسعني إلا الاعتقاد بأن الحكم بإعادة هذا القسم من الصداق يكون أقرب معنًى وأكثر مطابقة لروح الشرع الإسلامي العادل”.  وهنا ثار الشيخ محمد شاكر كعادته عندما يحس أن شيئاً مسَّ دينه، او تعرض لعدالة روحه وحكمة نصوصه، فرد على السكرتير القضائي ردًّا طويلاً، مبينًا له الحكمة التي لأجلها قضت الشريعة الإسلامية بعدم رد المهر الذي يطالب به الزوج الثاني بعد الحكم بفسخ العقد.

معارضته للمراغي في ترجمة القرآن الكريم

لما عين الشيخ المراغي شيخا للأزهر وبدأ بعض خطواته في التغيير كان الشيخ محمد شاكر من أبرز معارضيه في بعض  أفكاره، ومنها معارضته له في ترجمة القرآن الكريم»، وهو ما جعل الشيخ المراغي وأنصاره ينتقلون إلى صياغة الفكرة القائلة بترجمة معاني القرآن الكريم لا ترجمة القرآن نفسه.

رواية ابنه عن معارضته للمراغي في الأخذ بالحساب الفلكي 

كان الشيخ محمد مصطفى المراغي وهو شيخ للجامع الأزهر يرى الأخذ بالحساب الفلكي في إثبات أوائل الشهور العربية بديلاً عن الرؤية الشخصية، وأصدر فتوى بجواز ذلك، فعارضه فريق من العلماء كان في طليعتهم الشيخ محمد شاكر، وكان ابنه  الشيخ أحمد  شاكر ينتصر لرأي والده ، ثم بدا له بعد التحقيق ما يخالف وجهة نظر والده، فأخرج رسالة صغيرة في حياة أبيه بعنوان “أوائل الشهور العربية هل يجوز شرعًا إثباتها بالحساب الفلكي”، رجع فيها إلى رأي الشيخ المراغي، وأعلن في صراحة أنه كان على صواب، فقال: “كان والدي وكنت أنا وبعض إخواني ممن خالف الأستاذ الأكبر في رأيه، ولكني أصرح الآن أنه كان على صواب، وأزيد عليه وجوب إثبات الأهلة بالحساب في كل الوقت إلا لمن استعصى عليه العلم”.

قصته مع الشيخ الذي تملق السلطان فأساء الأدب

 نأتي إلى ثالث ما ينقله ابنه المحدِّث الشيخ أحمد شاكر وهو أنَّ شيخاً خطَب بحضرة السلطان  حسين كامل – فأراد أن يتملَّق السلطان ، فقال في خطبته: ولما جاءه الأعمى ما عبَس في وجهه وما تولَّى، [ لا يذكر الشيخ احمد شاكر تحديد سبب هذه الواقعة بالاسم وهو استقبال  السلطان للدكتور طه حسين] فأحس الشيخ محمد شاكر بسوء الأدب في عبارة الخطيب ، فلما انتهت الصلاة قام الشيخ محمد شاكر وهو يومئذ وكيل الأزهر، فقال: “يا أيُّها الناس أعيدوا صلاتكم فإنَّ إمامكم قد كفَر”.   وبالطبع فقد حاول أهل الضلال أن ينتصروا لهذا الشيخ الذي أساء الأدب لكن الله نصر الحق .

يقول الشيخ أحمد شاكر فيما يرويه : “وأقسم بالله أنِّي رأيت هذا الرجُل بعد بضع سنين وكان ذا جاهٍ وحظوة، كان رجلاً متعاليًا مُنتفخًا، أُقسم بالله أنِّي رأيته على باب أحد المساجد يتلقَّى نِعَال المُصلِّين وعليه من الذلة والصغار ما الله به عليم”.

صحبته للخديو عباس حلمي في رحلة الحج

كان الشيخ محمد شاكر مصاحبا للخديو عباس حلمي في رحلة الحج الشهيرة التي قام بها الخديو والتي نظم فيها الشاعر أحمد شوقي قصيدته  الخالدة “إلى عرفات الله”

تكريمه

نال الشيخ محمد شاكر كثيرا من التكريم ومنح كسوة التشريف العلمية من الدرجة الأولي، وحصل علي النيشان المجيدي، ثم النيشان العثماني.

ذريته

أنجب الشيخ محمد شاكر ذرية من العلماء النابغين كان منهم عميد المحققين العلامة الشيخ أحمد شاكر ١٨٩٢- ١٩٥٨، الذي وصل إلي عضوية المحكمة الشرعية العليا، والشيخ علي شاكر 1894-  1961 والأستاذ محمد شاكر 1899- 1974 والعلامة الأستاذ محمود محمد شاكر  ١٩٠٩- ١٩٩٧ عضو مجمع اللغة العربية.

آثاره

  • الدروس الأولية في العقائد الدينية.
  • الإيضاح في المنطق.
  • القول الفصل في ترجمة القرآن الكريم.

مخطوطة التقرير

من مفاخر تاريخنا الحديث أن الشيخ أحمد محمد شاكر أهدى هذا التقرير بخط والده الشيخ محمد شاكر إلى دار الكتب المصرية و استنسخته الدار بالتصوير الذي كان متاحا في ذلك الوقت فأصبح أثراً علمياً تاريخيا من مقتنيات الدار .

وفاته

توفي الشيخ محمد شاكر في يونيو سنة ١٩٣٩ .

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com