على عادة المجتمع الثقافي المصري في تعويض بعض الجحود ببعض الإنصاف، جاء فوز الدكتور عبده الراجحي (1937 – 2011) (اليوم) بجائزة الدولة التقديرية في الآداب بعد أن أصرّ مجلس جامعة الإسكندرية الموقر على ترشيحه طيلة السنوات الماضية.
ولئن فاتني رثاء ذلك العالم الجليل الحبيب الى قلبي عقب وفاته بسبب مرضي، فها هو الشرف يتاح لي كي أتحدث عما عرفته فيه من الخصال الحميدة، والشمائل العظيمة، والسمو العقلي و الخلقي و الاجتماعي.
جمع الموسوعية و التجويد و التجديد
عرفت في الدكتور عبده الراجحي العالم الجليل الذي امتد بعلمه إلى آفاق متعددة غذاها بدرسه وبحثه، وأضاف إليها من آرائه الأصيلة ونظراته الثاقبة، وعرفت فيه العناية بما يبحث فيه، وعشق ما يضيف إليه، وعرفت فيه حبه للتجديد في غير تعسف، وللفهم في غير تزيد.
كانت أحكامه دقيقة وصائبة ومستوعبة، وعلى سبيل المثال، فإنه درس الحياة والأنشطة المعجمية في الحضارات الأنجلوسكسونية دراسة باحث متأمل حفي باكتناه دور الحضارة، وفهم دور المؤسسة، وعيوب الإنسانية ومزاياها أيضًا، وإدراك حقيقة الموارد البشرية وإمكاناتها المحدودة التي تستحيل لا نهائية إذا ما نظمها المنهج والتخطيط.
نشأته وتكوينه
ولد الدكتور عبده الراجحي في أكتوبر سنة 1937، في الكفر الجديد محافظة الدقهلية، وحصل على درجة ليسانس الآداب، قسم اللغة العربية، جامعة الإسكندرية بتقدير «ممتاز» مع مرتبة الشرف 1959، وعين معيدا بقسم اللغة العربية بجامعة الإسكندرية 1961، وحصل على ماجستير في العلوم اللغوية في يونيو 1963، ثم على الدكتوراه في العلوم اللغوية في يناير 1967، وعين مدرسًا للعلوم اللغوية في 1967، واستكمل تكوينه العلمي في خارج مصر، وقضى في بريطانيا وألمانيا بعض الوقت. ورقي أستاذا مساعدا في 1972، ثم أستاذا في 1977 فاكتملت له الأستاذية العاملة الرسمية وهو في الأربعين وكان هذا في زمنه سبقا لم يحققه كثيرون .
تقدير جامعته له
عمل الدكتور عبده الراجحي رئيسًا لقسم اللغة العربية، ووكيلا لكلية الآداب للدراسات العليا والبحوث بكلية الآداب بالإسكندرية
أستاذيته الظليلة الممتدة
كان الدكتور عبده الراجحي محبًا لتلاميذه، عاملا على تشجيعهم، حتى وهم في أرفع المناصب، لكنه لم يكن يبخل بعلم ولا عون على ذي حاجة، ولا على ذي نفوذ، وكان يتجشم السفر إلى الصعيد ليدعم أبناءه هناك بشخصه وعلمه وفضله، وقد كان من حسن حظي أن شرفت برفقته في ندوة سنوية لكلية الدراسات العربية والإسلامية (دار العلوم ) في جامعة المنيا.
حبه لروح الفريق وضربه المثل في التواضع
كان الدكتور عبده الراجحي يحب أن يكون واحدًا من جماعة، مع أنه كان شيخ طريقة تميزت بالأمانة والإخلاص والدأب والتفاني في المحبوب، وكان يحب أن يكون صاحب رأي قابل للأخذ والرد، مع أن آرائه كانت تعلو على الرد، وإن عانت من الأخذ الذي تعاني منه آراء كل عالم لا يرى آراءه حكرا عليه، ما دام يعرف أن جموع الباحثين يعرفون بصمته ويدركونها مهما أخفاها الناقلون من الذين كانوا يلوذون ما يتيحه لهم صمته من حماية .
كان نقاشه جادا، وكان يلتفت إلى ما يفوت الآخرين، لكنه لم يكن يزعم لنفسه أسبقية، ولا أولوية، ولا ألمعية، ولا أريحية، مع أنه كان المثل الحي المعبر عن هذا كله.
ريادته الفذة في دراسة الشخصية الإسرائيلية
كان الدكتور عبده الراجحي وطنيًا من طراز فريد.. أعطى وطنه دراسات مبكرة عن الصهيونية، ولا يزال كتابه عن الشخصية الإسرائيلية مصدر إلهام وتوجيه، وقد أتيح له أن ينشر هذه الآراء قبل أن يصبح الموضوع ميدانا لإبراز القدرات، بل وقبل أن يصبح ميدانا للتكسب والتربح وبناء الأمجاد الوطنية والمعرفية، ولا نقلل من جهد الذين بذلوا جهدهم في هذا المجال من أساتذة اللغات، القريبين منه في السن الذين لم تتبلور أفكارهم الا بعد عقود من ريادته الذكية والفذة ، و قد كان عبده الراجحي في الحقيقة يتفوق على أبرز اثنين منهم بريادته المبكرة، وفهمه الإنساني العميق للدوافع والغايات بعيدا عن التنظير المتعمد، والتحبير المتوسع.
مرجعيته في تقييم العلم والأساتذة
على وجه العموم فقد كان الدكتور عبده الراجحي يحظى بالإجماع على فضله وعلمه وحبه، لا أجد وصفا يصف خسارتنا فيه غير قول رسول الله ﷺ: «إن الله لا يأخذ العلم ينتزعه انتزاعا، لكنه يأخذه بقبض العلماء» ، وكان الدكتور عبده الراجحي على الدوام عضوًا في اللجان الدائمة للترقية إلى وظائف الأساتذة بالجامعات المصرية وفاحصا للبحوث العلمية ولإنتاج أعضاء هيئة التدريس المتقدمين إلى الترقية بالجامعات العربية، وفاحصا خارجيا بجامعة مالايا والجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا. وقد عهد إليه أن يكون المسئول عن ضبط النص في مكنز السنة المشرفة.
أثره الضخم في جامعة بيروت وعمادته لكلية الآداب فيها
عاش الدكتور عبده الراجحي طيلة حياته يظلل بعلمه أبناءه في مصر وفي غير مصر، وقد عمل عميدا لكلية الآداب في جامعة بيروت العربية. وكان قبل هذا وبعده من أبرز أعمدة العلم جامعة بيروت العربية، وأتاح وجوده المتصل فيها لمناهج اللغة العربية أن تنافس من حيث الجودة والمصداقية في وسط منافسة شرسة، ومع انتشار الحديث عن اضمحلال التأثير المصري في الثقافة العربية والتكوين الجامعي، فقد كان عبده الراجحي يضاعف من هذا التأثير في بيروت والشام جميعا، وكان وجوده الدائب في قلب التعليم الجامعي العربي إشعاعا مصريا حفظ لمصر مكانتها في الدراسات العربية، والدرس اللغوي المستنير.
دوره في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
وعلى صعيد مواز، عمل الدكتور عبده الراجحي رئيسًا لقسم الصوتيات، ومديرًا لمعهد الدراسات اللغوية والترجمة، ومديرًا لمركز تعليم اللغة العربية للأجانب، ورئيسا لقسم تأهيل معلمي اللغة العربية لغير الناطقين بها في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
استاذيته خارج الوطن العربي
عمل الدكتور عبده الراجحي أستاذا زائرًا بعدد من الجامعات العربية، كما زار جامعات ماليزيا واليابان وموسكو وأوزبكستان وتتارستان. ، وعضوًا بلجنة الأدب واللغة بالمجلس الأعلى للثقافة، وعضوًا بلجنة تحقيق التراث بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
عضويته في مجمع اللغة العربية
انتخب الدكتور عبده الراجحي عضوًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة في سنة 2003، في الكرسي الحادي والعشرين الذي خلا بوفاة الدكتور محمود مختار، وألقى كلمة المجمع في استقباله الدكتور كمال بشر الأمين العام للمجمع.
مؤلفاته اللغوية
- منهج ابن جني في كتابه المحتسب.
- اللهجات العربية في القراءات القرآنية، دار المعارف، مصر 1968.
- التطبيق النحوي، دار النهضة العربية، بيروت 1972.
- التطبيق الصرفي، دار النهضة العربية، بيروت 1973.
- فقه اللغة في الكتب العربية، دار النهضة العربية، بيروت 1974.
- دروس في شروح الألفية، دار النهضة العربية، بيروت 1977.
- دروس في المذاهب النحوية، دار النهضة العربية بيروت 1978.
- اللغة وعلوم المجتمع، دار النهضة العربية بيروت 1978.
- النحو العربي والدرس الحديث، دار النهضة العربية بيروت 1979.
- علم اللغة التطبيقي وتعليم العربية، جامعة الإمام 1990.
التراجم
- عبد الله بن مسعود، دار الشعب بمصر، 1970.
مقالاته العلمية المنشورة
- النحو العربي وأرسطو.
- التراث العربي ومناهج علم اللغة.
- مخطط أساسي للدراسات اللغوية بالجامعات.
- علم الأسلوب.
- تعليم اللغة العربية للأجانب وإسهامه في تطوير بحث الفصحى.
- النحو في تعليم العربية لغير الناطقين بها.
ترجماته
- هيراقليطس فيلسوف التغير.
- المواءمة (مجلة عالم الفكر).
- أسس تعليم اللغات وتعلمها.
مشاركاته في المؤتمرات العلمية:
- العلاقات البيزنطية الإسلامية، سالونيك، اليونان.
- الألسنية، الرباط 1981.
- مشكلات تعليم اللغة العربية في الجامعات العربية، الإسكندرية 1981.
- تعليم اللغات بالكويت، مايو 1985.
- تطوير اللغة العربية في ماليزيا، نوفمبر، 1990.
وفاته
توفي الدكتور عبد الراجحي سنة 2011 ، وكان قد امتحن قبلها بالوفاة المفاجئة لابنه الدكتور محمد مدرس جراحة القلب في كلية طب الإسكندرية