الرئيسية / المكتبة الصحفية / الأستاذ أنور الجندي مؤرخا وجدانيا للحياة العقلية

الأستاذ أنور الجندي مؤرخا وجدانيا للحياة العقلية

 

حديثه عن منهجه

كان الاستاذ أنور الجندي في نهاية القرن العشرين وقبل وفاته يصف جهده فيقول: «أنا محام في قضية الحكم بكتاب الله، مازلت موكلا فيها منذ بضع وأربعين سنة، منذ رفع هذه القضية الإمام الذي استشهد في سبيلها قبل خمسين عاما للناس، حيث أعد لها الدفوع، وأقدم المذكرات بتكليف بعقد وبيعة إلي الحق تبارك وتعالي، وعهد علي بيع النفس لله، والجنة سلعة الله الغالية هي الثمن لهذا التكليف (إن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة)».

مقاله المركز عن الامام الشافعي

نشر الأستاذ أنور الجندي هذا المقال المركز عن الامام الشافعي في مجلة الرسالة في  23 يونيو 1952  وهو مقال ممتاز من جميع الوجوه ، و قد جمع فيه كثيرا من الأفكار التي تضمنتها كتب وفصول ألفت عن الامام الشافعي في تلك الحقبة : “….  يتمثل لي الإمام الشافعي حين أدرس سيرته، عملاقا نحيلا، ضامر الجسد، مقبول الطلعة، على الرغم مما قيل عن ملامحه. . فليست الملامح في الحق هي كل شئ. . وقد تبدو غير متسقة، ولكن يبرز من ورائها (روح) صاحبها غاية في القبول والتقدير عند من يتصل به. وأرى فيه مظهر الرجل الذي يصفه علم النفس بالانطوائي، وكل الرجال الذين احتضنوا الأفكار والدعوات والمذاهب، كانوا من هذا الصنف”

“…. وقد عرف الشافعي بأنه يحب العزلة أحيانا، ويلجأ إلى الصمت أحيانا، وأنه يمكن لنفسه بذلك من التأمل والدرس والمراجعة وهي عدة الفقيه والداعية. وأتاح له هذا الجسد النحيل، القدرة على السفر والرحلة واحتمال مشقة الانتقال بين العراق ومكة واليمن ومصر. ولد في مكة، ورحل إلى المدينة، ثم سافر إلى اليمن، ثم حمل إلى بغداد، ثم عاد إلى مكة. . . وقصد إلى بغداد ثم إلى مصر، حيث أقام فيها بقية حياته. .،.

تشخيصه لأثر الرحلة في شخصية الامام الشافعي

“…. وقد أتاحت له هذه الرحلة، وهذا التنقل المتصل، خلال هذه المنطقة التي كانت تعد في ذلك الوقت قلب العالم الإسلامي، فرصة واسعة لدراسة طبائع الناس وأخلاقهم ومعرفة مصالحهم واتجاهاتهم، وفهم الحياة ومشاكلها وقضاياها، وقد أنضجت الرحلة ذهن الشافعي وتفكيره، وأمدته بقوة سيكولوجية رائعة”

الذكاء العقلي

 “…. وأتاح له ذكاؤه المتقد، وقدرته العقلية الجبارة، مرونة ولباقة جديرين بالتقدير. فهو قد غير مذهبه، الذي وضع أصوله في العراق، حين استقر في مصر، ووضع بدلا منه مذهبه (الجديد) الذي ضمه خلاصة تجاربه وملاحظاته ودراساته خلال تلك الفترة الطويلة التي قضاها متنقلا في الأقطار الإسلامية. .، وكانت تجارب الأئمة والفقهاء الذين التقى بهم، وقرأ لهم، قد تبلورت في نفسه، واستقرت، فاختار منها ما رآه صالحاً مع البيئة الجديدة التي أستقر فيها. وإذا كان يقال أن أبا حنيفة قد شرّع بروح العراق، وان مالكا قد شرّع بروح الحجاز، فإن الشافعي قد شرّع بروح مصر. ويكاد الشافعي إلى ذلك أن يكون رابطة العقد بين فقهاء عصره، فلقد ولد في العام الذي مات فيه أبو حنيفة، وتلقى العلم على مالك في المدينة، فبهره بجودة حفظه وألمعية ذكائه،. . ثم كان ابن حنبل من تلاميذه. وقد التقى حين قدم العراق بأبي يوسف ووكيع”

عمادة الشافعي للفقه الاسلامي

“……  وبذلك يمكن القول بأن الشافعي قد أحاط بالفقه الإسلامي في عهده واستوعبه استيعابا كان كفيلا بان يجعله عميد الفقهاء وإمامهم في عصره، فهو الإمام الذي وضع الموازين والمقاييس، وضبط الفقه، بعد أن جادل الفقهاء وانتصر عليهم”.

تصويره للملامح الإنسانية في شخصية الشافعي  

“…… فإذا تركنا الحديث في فقه الشافعي للفقهاء، وذهبنا نتقصى (شخصيته) الإنسانية وجدناها غاية في القوة والسمو والحيوية، وتعدد الجوانب وسعة الأفق، وذلك بالإفاضة إلى ما أثر عنه من براعة وذكاء. يتحدث الذين عاصروه عنه، أنه كان محببا إلى نفوس عارفيه، وكان إشعاعه ولباقته وحسن حديثه يكسبه حب الناس وثقتهم. . مما كان يزيد من عدد أتباعه ومريديه يوما بعد يوم. وأنه قد توافرت له صفات الداعية، صاحب المذهب، هذه الصفات التي تتمثل فيما أثر عنه من طول أناة وحلم، وابتسام ثغر، وإشراق وجه وبعد عن الغضب، وتواضع وخفض جناح وسلامة صدر، وصفح عمن يسئ إليه. . وبعد عن التعصب، وإملاء الرأي. . فقد كان يعذر مخالفيه في الرأي ويقبل منهم.

الروح الرياضية عند  الامام الشافعي

ويعدد  الأستاذ أنور الجندي  المزايا  النفسية التي كونت للإمام الشافعي  طابع الزعامة: “….. فقد كان (رياضيا) تعلم الرماية وأغرم بها وأجادها، وكان يرمي عشرة في عشرة وقال عن نفسه (كانت همتي في الرمي والعلم)، وقد نقل أسلوب الرياضيين، من ميدان الرمي، إلى حلبة الفقه، فكان واسع الصدر إزاء معارضيه. وآية قدرته في الإقناع على طريقة الرياضيين، إقناعه الرشيد ببراءته وهو يخوض بحراً من الدماء، فقد صرع أمامه تسعة، استلت السيوف اللامعة أعناقهم، فلما جاء دوره أعطته عارضته القدرة على أن يناقش الرشيد ويقنعه وهو في هذا الجو العاصف، وإزاء هذه الشخصية الجبارة. فقد أتهم بالعمل ضد الرشيد وحمل مقيداً من اليمن مع عشرة من أصحابه، فلما جيء بهم إلى الرشيد، وضع حدا لأجلهم، أما هو فقد أقنع الخليفة. . قال له وهو بين النطع والسيف: “. . يا أمير المؤمنين ما تقول في رجلين أحدهما يراني أخاه والآخر يراني عبده. . أيهما أحب ألي؟ قال الذي يراك أخاه! قال: فذلك أنت يا أمير المؤمنين. فلما وضع يده على الخيط مضى يثبته بقوة، قال: إنكم ولد العباس وهم ولد علي، ونحن بنو عبد المطلب، فأنتم ولد العباس تروننا أخوتكم، وهم يرونا عبيدهم.. . . ونجا. وقد بلغ به حب الرماية أن لم يكن جلال السن والإمامة بمانع إياه عن أن يرمي.”

جلد الامام الشافعي على العمل  

“…..  وقالوا عنه أنه كان يقصد في لباسه، ولم تعرف له صغيرة، وكان يجلس في حلقته إذا صلى الصبح، فيجيئه أهل (القرآن) فيسألونه، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل (الحديث) يسألونه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا. . ثم تستوي الحلقة (للمناظرة) والمذاكرة، فإذا ارتفع النهار تفرقوا، ثم جاء أهل (العربية) والعروض والشعر والنحو حتى يأتي المساء. . والشافعي جالس في حلقته لا يضيق بالعلم ولا بالناس.

فصاحة الامام الشافعي و إعجابه بالأدب و بالجمال

“…..ولا عجب فقد كان الشافعي أديبا يتذوق الشعر، ويقول أجوده، ويقدر الجمال ويعجب به في مختلف صوره النفسية والحسية، بل لقد كاد أن يكون أديبا خالصا أو فنانا خالصا، لولا أن أتيحت له فرصة دراسة الفقه، فمضى فيه، حتى برز وبلغ القمة. . وقد روى عن ذكائه وألمعيته وسرعة حفظه الكثير، مما زاد في قوة شخصيته أضف إلى ذلك ما روى من أنه إذا تكلم كان صوته أشبه بالصنج أو الجرس، وكان إذا قرأ القرآن التف حوله الناس، وعجوا بالبكاء. . قال بعض أتباعه (كنا إن أردنا أن نبكي قلنا قوموا إلى هذا الفتى المطلبي الذي يقرأ القرآن. . فإذا أتينا استفتح القرآن فتساقط الناس بين يديه وكثر عجيجهم بالبكاء من حسن صوته) ومن هنا جاءت قوته كداعية، يستطيع أن يجمع الناس حوله وأن يحببهم إليه، وتلك من الشمائل التي لا تتوافر للكثيرين.، وقديما كان الصوت الجميل وطلاقة اللسان من أدوات الداعية الفذ. ويرجع السر في فصاحة (الشافعي) إلى أنه أقام بالبادية فلقن اللسان العربي.

ارتفاعه الى درجة المجتهدين

“…..وفي المدينة وصل إليه علم (مالك) كله، فقد لزمه حتى مات، وفي بغداد وصل إليه علم (أبو حنيفة) كله بعد أن حمله محمد بن الحسن. . ومن ثم اجتمع له علمان: علم أهل الرأي، وعلم أهل الحديث. وقد وصل الشافعي بعلمه وثقافته إلى درجة المجتهدين، وارتفع عن أن يكون من أتباع (مالك)، أو تلامذته الذين يجرون في حدود مذهبه، فكان ذلك مصدر الخلاف بينه وبين المالكية في مصر، وقد لقي من ذلك عنتا شديدا.

إتقان الشافعي  لأدواته

وتوافرت للشافعي كل وسائل (العالم)، كما توافرت له كل وسائل (الداعية) فقد أثر عنه أنه كان يذهب إلى الصباغين يتساءل عن معاملاتهم، ويرتاد السوق يحدّث أصحاب الحرف.  وبلغت به الثقة أن كان يعرف أن أهل مصر فرقتان: فرقة مالت إلى قول مالك وفرقة مالت إلى قول أبي حنيفة، ولكنه كان يقول في حماسة ظاهرة (أرجو أن أقدم إلى مصر فآتيهم بشيء أشغلهم به عن القولين جميعا. .) وقد حدث ما توقعه. . غير أن الخلاف لم يلبث أن نشب بين أتباعه وأتباع مالك فلقيه فتيان ابن أبي السمح المالكي ليلا فضربه أحدهم بمفتاح حديد فشجه، فلم يسعف بالعلاج فمات. . وقد مات فقيرا، ولم يترك شيئا يذكر، وكان قد أجهد نفسه في الفترة التي قضاها في مصر إجهادا بلغ به غايته.

ثناء د. الدسوقي على كتاب الجندي عن الشيخ المراغي

كتب د. عبد العزيز الدسوقي مقالا جميلا في الثناء على كتاب الأستاذ أنور الجندي  عن الشيخ محمد مصطفى  المراغي  وهو الكتاب الذي صدر في سلسلة أقرأ ، وكان في صدوره سابقا بسنوات على الكتاب الذي نشره شقيق الامام المراغي عن شقيقه ،  يقول الدكتور الدسوقي :

“…… كان الإمام المراغي. . طيب الله ثراه. . ورضى عنه. . قبساً من أقباس الفكر الخالق المتعمق، وشعاعا من نور النبوة الصافية. . . ونوراً من هدى السماء. مزج الدين بالدنيا، ووصل الأرض بالسماء. . وواءم بين وثبات الفكر المتطور المتألق، والعلم الزاحف. . . وبين منابع الدين الغامرة العامرة. . حتى صار بحق ثالث ثلاثة أحدثوا في الشرق والعالم الإسلامي، ثورة فكرية بعيدة المدى،وكان – الإمام – أحد نماذج التي تعشقتها، وكنت أستلهمها. وأستوحيها. . كان حبيباً إلى نفسي بنظراته النفاذة العميقة. وصوته الهادئ الموسيقي العذب النبرات، الفياض بالإخلاص. والمعبر القوي،. . ثم اختفى بعد حياة حافلة بالكفاح والاصطلاح. . وخنق صوته غول الفناء الرهيب. . وكادت سيرته تحتفي في قبو النسيان. . والشرق. . ومصر خاصة ما أكثر ما ينسى أبطاله، فلم نسمع عن المؤلفات التي تكتب عن المراغي وشخصيته متعددة الجوانب، ولم نر الأزهر يخلد ذكرى الإمام الذي وقف حياته على إصلاح، حتى قيض الله لهذا الإمام. . الصديق الكريم الأستاذ أنور الجندي وهو وإن كان من غير بيئة الأزهر الا أن هيامه .. وتوفره على دراسة المسائل الإسلامية، وكتبه المتعددة في هذا المضمار، شاهد قوي على أنه ليس غريبا على جو الإمام والمراغي” . .

“…..  أقدم الزميل الحبيب في إيمان حار،  وأخرج كتابه الإمام المراغي، والكتاب وإن كان صغير الحجم كما تقضي بذلك طبيعة سلسلة (أقرأ) إلا أنه ألم بكل حياة المراغي. . فكتب عن المراغي طفلا تنطبع على نفسه انطباعات الطفولة في قريته المراغة بصعيد مصر، وكتب عنه قاضيا لقضاة السودان، وصوره تصويرا بارعا، وتعمق نفسه، وقارن بينه وبين محمد عبده، وذكر وطنيته، وإصلاحه في المجتمع والأزهر، وتجديده ونزعته المتحررة، كتب عن كل هذا في أسلوب مشرق يفيض بالحماس الحار، والإخلاص لحياة الإمام المراغي. . .

وأنا لا أستطيع أن ألخص كتاب الزميل بهذه العبارات القلائل، فليس الكتاب قصة ألخصها، وإنما هو دراسة نفسية لحياة الإمام تنبسط أحيانا، ثم تنقبض أحيانا أخرى، وتمر على بعض الأدوار مرورا سريعا مكتفية باللقطات المعبرة، واللمسات الجياشة، وتمعن في التعمق واستكناه الأسرار في بعض الأدوار، ثم تمضي هذه الدراسة شيئا فشيئا كما تمضي الحياة نفسها حتى يبلغ الكتاب أجله، وتخمد الجذوة، ويسدل الستار على حياة الإمام، وهنا ينتهي الكتاب، ولكنه يترك في النفس خطوطا قوية، ودبيباً عارما، وهمساً فياضا. يدفع المرء إلى التأمل. . والكتاب الذي يدفعك إلى التفكير بعد قراءته هو كتاب قد أدى رسالته”

كتابة أنور الجندي  المبكرة عن الإمام حسن البنا

تحت عنوان حسن البنا الرجل القرآني بقلم روبير جاكسون، نشر الأستاذ أنور الجندي عدة مقالات عن في مجلة الرسالة كان أولها في 26 مايو 1952 وقد ذكر في مستهلها انه  في هذا الفصل، والفصل الذي يليه، والذي تنشره الرسالة في العدد القادم، ينقل ما تحدث به روبير جاكسون عن الشهيد حسن البنا، حديث ما سمعه وما عرفه منه، وقد أطلق عليه عنوان (مولد العملاق). وتبقى بعد هذا خطوط (عريضة) لفصل مطول مسهب بعنوان (الإسلام عند حسن البنا). . .  وهذا هو نص المقال مع ضبط يسير :

“…….. كان لابد أن يموت هذا الرجل الذي صنع التاريخ وحول مجرى الطريق شهيداً. . كما مات عمر وعلي والحسين، فقد كان الرجل يقتفي خطواتهم. مات في عمر الزهر النضير، وفي نفس السن التي مات فيها كثير من العباقرة ورجال الفكر والفن. . وقضى وهو يسطع ويتألق. وعاش الرجل كل لحظة من حياته، بعد أن عجزت كل وسائل الإغراء في تحويله عن (نقاء) الفكرة وسلامة الهدف. لم يحن رأسه ولم يتراجع ولم يتردد، أمام المثبطات ولا المهددات. . وكان الرجل قذى في عيون بعض الناس، وحاول الكثيرون أن يفيدوا من القوة التي يسيطر عليها، فقال لهم إن أنصاره ليسوا عصا في يد أحد، وإنهم لله وحده. وحاول البعض أن يضموه إليهم أو يطووه، فكان أصلب عوداً من أن يخدع أو ينطوي. . وكان على بساطته التي تظهر للمتحدث إليه، بعيد الغور إلى الدرجة التي لا تفلت متصلاً به أو متحدثاً إليه من أن يقع في شركه. . ويؤمن بالفكرة التي يدعو إليها.

كان يدخر قوته للوطن بعيدا عن الصراع

“……. وكان لا يواجه إلا من يعترض طريق دعوته، وكان يستر من لم يكشف خصومته ، وكان لا يهاجم عهداً مادام هذا العهد لا يحول دون الامتداد الطبيعي لدعوته. .وكان يدخر قوته للوطن، ويكبر نفسه ودعوته من أن يكونا أداة صراع داخلي. . وظن بعض الناس أن  هذا ضعف ولين ومسايرة، وما كان كذلك، فالرجل بطبيعته لم يكن يحب الصراع في معركة جانبية، ولا يقبل توزيع قواه. . وإنما يؤمن بالتطور والانتقال من مرحلة إلى مرحلة ومن دور إلى دور على أساس النضوج والتكامل، وكان هذا يزعج خصوم الوطن الذي لم يعهد سياسته تعلو على المطامع الفردية، وتتعالى على المطامع الفردية، وتتعالى على الأغراض الذاتية، وتنقي جوها من الدوافع الشخصية الخاصة.

كياسة الامام الشهيد واعتداله

“…….وكان الرجل على قدرته الفائقة في ضبط أعصابه، كيساً في مواجهة الأمور، لبقاً في استقبال الأحداث والأزمات. وإلى هذا كله كان غاية الاعتدال، فكان يعيش براتب لا يزيد على راتبه المدرسي المحدود، وبين يديه الأموال الضخمة المعروضة من أتباعه وحوله من العاملين معه، ما يصل إلى ضعف أو أضعاف ما يحصل عليه.

زهد  الامام وبساطته وحسن معالجته للفكرة

“…….وكان في بيته مثال الزهادة، وفي ملبسه مثال البساطة، وكنت تلقاه في تلك الحجرة المتواضعة الفراش، ذات السجادة العتيقة والمكتبة الضخمة، فلا تراه يختلف عن أي إنسان عادي، إلا ذلك الإشعاع القوي والبريق اللامع الذي تبعثه عيناه، والذي لا يقوى الكثيرون على مواجهته، فإذا تحدث سمعت من الكلمات القليلة المعدودة موجزاً واضحاً للقضايا المطولة التي تحتويها المجلدات، وكان إلى هذه الثقافة الواسعة الضخمة، قديراً على فهم الأشخاص، لا يفاجئك بالرأي المعارض، ولا يصدمك بما يخالف مذهبك، وإنما يحتال عليك حتى يصل إلى قلبك ويتصل بك فيما يتفق معك عليه. . . ويعذرك فيما تختلفان فيه” .

سعة أفق الامام الشهيد

“…….وهو واسع الأفق إلى أبعد حد، يفتح النوافذ للهواء الطلق، فلا يكره حرية الرأي، ولا يضيق بالرأي المعارض، وقد استطاع أن يحمل الرأي الجديد إلى الجماهير دون أن يصطدم بهم. . هذا الجديد الذي لو عرض بغير لباقة لوقفوا ضده وحاربوه. . لقد نقلهم من وراثياتهم، وغير فهمهم للدين، وحول اتجاههم في الحياة، وأعطاهم الهدف، وملأ صدورهم بالأمل في الحرية والقوة. وكان له من صفات الزعماء، صوته الذي تتمثل فيه القوة والعاطفة، وبيانه الذي يصل إلى نفوس الجماهير، ولا تنبو عنه أذواق المثقفين. وتلك اللباقة والحنكة والمهارة في إدارة الحديث والإقناع. وبهذه الصفات جميعها استطاع كسب هذه الطائفة الضخمة من الأنصار في هذا الوقت القصير من الزمن، فحول وجهات نظرها، ونقلها نقلة واسعة. . دون ارتطام أو صراع.

طابع الوقار الذي خلا من طبائع ثلاث مشهورة

“…….كان سمته البسيط ولحيته الخفيفة، وذلك المظهر الذي لا تجد فيه تكلف بعض العلماء، ولا عنجهية المتمسكين بالسنة، ولا سذاجة الصوفية. . قد أكسبه الوقار. ولقد كانت شخصية حسن البنا جديدة على الناس. . عجب لها كل من رآها واتصل بها. .

الطابع  السياسي  في شخصية مكتملة

كان فيه من الساسة دهاؤهم، ومن القادة قوتهم، ومن العلماء حججهم، ومن الصوفية إيمانهم، ومن الرياضيين حماسهم، ومن الفلاسفة مقاييسهم، ومن الخطباء لباقتهم، ومن الكتاب رصانتهم. وكان كل جانب من هذه الجوانب يبرز كطابع خاص في الوقت المناسب، ولكل هذه الصفات التي نقرأها في كتب شمائل الصحابة والتابعين، لم يكن مقدراً أن يعيش طويلاً في الشرق. . وكان لابد أن يموت باكراً، فقد كان غريباً عن طبيعة المجتمع، يبدو كأنه الكلمة التي قد سبق وقتها، أو لم يأت بعد. ولم يكن الغرب ليقف مكتوف اليدين، أمام مثل هذا الرجل. . الذي أعلى كلمة الإسلام على نحو جديد. . وكشف لرجل الشارع حقيقة وجوده ومصيره، وجمع الناس على كلمة الله. . وخفت بدعوته ريح التغريب والجنس، ونزعات القومية الضيقة، واعتدلت لهجات الكتاب، وبدأ بعضهم يجري في ركب الريح الإسلامية.”.

المأساة في  انخداعه المبرر في 23يوليو 1952

من طرائف التاريخ المتوقعة أن الأستاذ أنور الجندي كان من أبرز المنخدعين في 23 يوليو و ظل منخدعا لأكثر من عقد كامل من الزمان ، و قد كان هذا الانخداع سببا لما ظهر بعد هذا  وطغى من نظرته السوداوية الى كثير من الأحداث و الأفكار، ولننظر أولا الى مدى الانخداع الذي وقع فيه :

“….. فارق كبير بين ما يكتب الآن، وبين ما كان يكتب قبل 23يوليه 1952، إن القيود التي كانت موضوعة على الحقائق قد رفعت، فاصبح في مقدور كل من يعرفها أن يعلنها صادقة، هذه الحقائق هي مادة التاريخ، الذي يجب أن بكتب من جديد.

  • إن الأحزاب السياسية التي كانت تلي الحكم في الثلاثين عاما الأخيرة قد كانت في حديث الصحف والكتب قبل هذا التاريخ صاحبة أمجاد، وكان فلان وفلان وفلان هم زعماء الشعب، أما الآن فقد أمكن أن تقال الحقيقة، وهي مدى الأثر الذي تركته هذه الأحزاب بصراعها ونفاقها في البلاد.
  • إن الملك السابق كانت تكال له عبارات التمجيد والتقدير والإعجاب من رجال السياسة والدين والصحافة، وقد تحول هذا كله اليوم إلى إعصار من الحقائق التي كانت محجوبة. . . والتي كان يمكن أن تظل محجوبة وقتا طويلا لولا هذا الانقلاب.
  • والصحف قبل 23 يوليو كانت تحمل أشياء كثيرة، لا أظن أنها صالحة لكاتبة تاريخ مصر كتابة صحيحة، ولا أظن أنها المادة النافعة لهذا، والمؤرخ الذي سيعتمد عليها سيكتب حتما صورة خاطئة لمصر.
  • وقد ألفت في هذه الفترة الطويلة كتب عن فاروق وفؤاد وإسماعيل وعن سعد زغلول والنحاس، وعن السياسة والوطنية والمجتمع، كل هذه المؤلفات ما عدا القليل منها أصبح زائفا.

أنور الجندي يمنح ثقته لنجوم المرحلة الجديدة

وشأن المنخدعين في طبول الانقلابات فقد كان الأستاذ أنور الجندي مصدقا للروح المعلنة و داعية لها :

“…… ولم يكن هناك غير عبد الرحمن الرافعي (نقيب المحامين المعين على يد 23 يوليو ) وفتحي رضوان ( الوزير الذي تولى الوزارة في سبتمبر 1952) وبعض كتاب الإخوان المسلمين الذين كانوا يقولون بعض الحقيقة أو يحاولون في لباقة أن يقولوا الحقيقة المرة. لقد كانت المطامع والأهواء تغطي على كل شيء، فطالما زيفت الصحف الحقائق، وقالت غير ما هو كائن، وصورت الأمور على غير وجهها، وكان ذلك في بعض الأحيان رغم أنفها، وفي بعضها الآخر بإرادتها، وكانت بعض الصحف مشتراة، للأحزاب أو لغير الأحزاب، لتزييف هذه الحقائق، ولذلك وجب أن يكتب تاريخ مصر: تاريخ الملك والأحزاب والسياسة والأزهر من جديد بعد أن أصبح ذلك فعلا في مقدور كل كاتب.

موقفه من المذاهب الغربية: رفضه للعلمانية

مثل أنور الجندي مع د. محمد عمارة أكثر شخصيتين تصدتا بالمؤلفات الكثيرة للدعاوي البراقة التي ارتبطت بأفكار و مذاهب من قبيل العلمانية ، و قد قال بهذا دون خوف أو وجل، ويذكر له أنه لم يحرص على مهادنة الأمر الواقع أو الزعم الأقوى، وعلي الرغم من أن السياسة لم تنصفهما فإن تأثيرهما في نفوس المؤمنين كان حاضرا وممتدا، وقد كثر النقل عنهما، والاستناد إلي ما جمعاه ورتباه من حقائق ونصوص واستشهادات. و كان من الضروري  ان يقرن مناقشاته بالتنبيه الذكي إلي كثير مما يحتويه الإسلام من كنوز فلسفية قادرة علي مواجهة الواقع.

على سبيل الإجمال فقد كان أنور الجندي من أوائل الذين نبهوا إلى الخطر الكامن في فكرة العلمانية علي نحو ما كان يوظفها المعادون للإسلام والفكرة الإسلامية، وإلي رفض الفكر الإسلامي لها علي صورتها المنكرة للدين.

نقضه لفكرة مدرسة العلوم الاجتماعية

كان أنور الجندي كذلك يري أن مدرسة العلوم الاجتماعية (فرويد، وماركس، ودوركايم) تمكنت من تزييف الفكر الإسلامي الأصيل في أذهان الأمة الإسلامية، و ذلك بالدعوة إلي الخضوع والاستسلام تحت اسم السلام.

تحفظه على فكرة السلمية

 كما كان أنور الجندي من أوائل الذين نبهوا إلي خطورة إعلاء فكرة غاندي وتولستوي في إدارة الصراع السياسي بالسلبية والعصيان المدني فحسب، وهو ما كان يستتبع نفي فكرة الجهاد وفكرة الاستشهاد مع ما كان للجهاد والاستشهاد من أثر في تاريخ الإسلام،.

تقييمه المنصف للفروق بين مدرستي مجلتي الرسالة  والسياسة   

كتب الأستاذ أنور الجندي عن مجلة الرسالة قبل افولها في 1952 يقول :

” في 15 يناير سنة 1932 بزغ النجم فصدر العدد الأول من الرسالة، وفي أول سبتمير سنة 1952 يصدر العدد الألف من هذه المجلة خلال فترة بلغت عشرين عاما، تطور فيها الأدب والفكر والفن، وانتقل من مرحلة إلى مرحلة، وسايرت الرسالة هذه النهضة ووجهتها وتفاعلت معها، وتركت فيها آثارا حية ما تزال باقية خالدة. وفي خلال هذه النهضة الأدبية التي بدأت بعد الحرب العالمية الأولى نشأت مدرستان: مجلة السياسة ومجلة الرسالة.

  • أما مدرسة السياسة فقد بدأت منذ عام 1922 وانتهت عام 1931، أما مدرسة الرسالة فإنها منذ بدأت لم تنته، وما زالت تواصل جهادها في قوة.
  • كانت مدرسة السياسة تنشئ الأدب الجديد، وتواجه التيارات المختلفة، وتقف من الحضارة الأوربية ومن القديم والجديد، ومن الشرق والغرب؛ موقفا بين الوضوح والغموض، وبين الاتزان والشطط، وبين الاعتدال والاضطراب. أما مدرسة الرسالة فقد جاءت بعد أن استقرت الأمور، ونضج الأدب وبدت ثماره دانية القطوف، وانتهت المرحلة العصيبة الجادة إلى غير عودة.
  • وبينما كانت مدرسة السياسة تقول بالفرعونية، وتدعو إلى كتابين متواليين عن الشعر الجاهلي؛ والخلافة وأصول الحكم؛ كانت الرسالة تقول بالامتزاج وتقريب وجهات النظر ورعاية القديم وبعثه، وتقبل الجديد بعد دراسته ونقده.
  • كان الصراع في السياسة بين الأدب القديم والجديد، أقرب إلى الهدم منه إلى البناء؛ فلما جاءت الرسالة واءمت بين القديم والجديد، وبين الشرق والغرب على هدى وبصيرة.
  • بعد أن مالت (السياسة) بالأدب إلى النيل من شوقي والرافعي، جاءت الرسالة فأنشأت روحا جديدة قوامها الجمع بين الأفكار والنفوس والبعد عن ميدان الصراع، وخلق ميدان للبناء والإنشاء.
  • في مدرسة (السياسة) كتبت الأقلام التي أبرزتها النهضة بعد ثورة 1919: طه حسين، وهيكل، والمازني، وعنان، ومحمود عزمي، أما في الرسالة فقد كتبت هذه الأسماء، ونشأت في محيطها أقلام جديدة هي صفوة الكتاب الذين يلون الصف الأول.
  • بعد أن كانت الكتابة في (السياسة) من ذلك النوع الذي أطلق عليه الدكتور طه حسين اسم (الأدب الموضوعي) وهو النقد، جمعت (الرسالة) بين الأدب الموضوعي والأدب الإنشائي. . . وكان الخلق والفن الجديد أغلب.
  • كان قوام مدرسة الرسالة روح “الزيات”: الأسلوب البليغ، والعبارة المتزنة، والكلمة النقية، والنقد النزيه، والإبداع.

مقارنته الذكية بين انتاج الادباء في السياسة و الرسالة

يقول الأستاذ أنور الجندي: وبالرغم من أن كتاب (السياسة) انتقلوا إلى الرسالة إلا أن إنتاجها قد تطور وتحول من حال إلى حال:

  • فالدكتور طه حسين الذي كان يكتب فصولا في تصوير الحياة الاجتماعية في العصر الأموي والعباسي تحت عنوان (حديث الأربعاء) في (السياسة)، كتب فصولا غاية في الروعة عن سيرة الرسول في الرسالة باسم (على هامش السيرة)، وكان هذا فنا جديدا من فنون القول والإنشاء.
  • والرافعي الذي كان يكتب حديث القمر، وأوراق الورد، والمساكين وغيرها قبل أن يتصل بالرسالة، فلا يقرأها إلا صفوة قليلة من الأدباء، كتب في الرسالة أجود إنتاجه، ونزل إلى مرتبة القراء الوسط، وخلف كتابا ضخما هو (وحي القلم).
  • وتوفيق الحكيم بدأ على صفحات الرسالة أول كتاباته في الأدب والفن في مساجلاته مع طه حسين عن نشأة الحوار والفن الإغريقي والفرعوني.
  • وعلى صفحات الرسالة بدأ العقاد عبقرية محمد، والحكيم قصة محمد المسرحية.
  • ومن ذا الذي ينسى مقالة عبد الرحمن شكري في الرسالة بعد أن ظل أعواما وأعواما لا يكتب حتى نسيه الناس.
  • وعبد الوهاب عزام وأسفاره ورحلاته، وكتاباته عن التصوف.
  • والكتاب الذي يعد أجمل ما كتب زكي مبارك بدأه في الرسالة: (ليلى المريضة في العراق).
  • والقصص الإغريقي الخالد، كتب لأول مرة على صورة رائعة في الرسالة عندما أنشأه دريني خشبة.

الأستاذ الجندي يعدد المساجلات التي شهدتها صفحات الرسالة

  • بين الرافعي والعقاد
  • بين سيد قطب ومحمود محمد شاكر وسعيد العريان
  • لايتينون وسكسونيون بين العقاد وطه حسين.
  • صداقات الأدباء بين توفيق الحكيم وزكي مبارك والعقاد.
  • ما لزكي مبارك وكتاب الله بين زكي مبارك ومحمد أحمد الغمراوي.
  • الشيخ المرصفي بين زكي مبارك والسباعي بيومي
  • أومن بالإنسان بين علي الطنطاوي وعبد المنعم خلاف
  • الأدب المهموس بين محمد مندور وسيد قطب.
  • والمذهب الرمزي والبياني بين العقاد وكثير من الكتاب.

فضل الرسالة في تقديم كتاب مبدعين

  • وكان للرسالة فضل في إبراز شخصيات أدبية غاية في القوة في مصر والشرق وفي مقدمتها: الأستاذ صلاح المنجد وعلي الطنطاوي وناجي الطنطاوي وجواد علي وفهمي عبد اللطيف وأنور العطار وسعيد العريان ومحمود محمد شاكر وعزيز أحمد فهمي ومحمود الخفيف وعبد المنعم خلاف، ومن كتابه ثلاثة كانوا غاية في القوة، وكان ينتظر لهم مستقبل حافل، لولا أنهم انتحروا: فخري أبو السعود وفيلكس فارس وإسماعيل أدهم.

يبلور رأيه في مجلة الرسالة

“وغاية القول أن مدرسة الرسالة كانت مدرسة الخلق والإنتاج، وان الأدب المعاصر مدين لها بكل ما فيه من قوة وعظمة وجلال، ولا نبالغ إذا قلنا إن كتابا من الكتب الأدبية الحديثة لم يكن قبل صدوره إلا فصولا في مجلة الرسالة.” .

آثاره

 أصدر أنور الجندي كثيرا من المؤلفات التي عبرت عن رأيه وفكره في مقاومة التغريب والغزو الثقافي، والعمل علي أسلمة العلوم والمناهج، وتأصيل الفكر الإسلامي، وبناء البدائل. وهذه قائمة أبجدية لأشهر مؤلفاته

  • ـ الإسلام والتيارات الوافدة.
  • ـ الإسلام والحضارة.
  • ـ الإسلام والدعوات الهدامة.
  • ـ الإسلام والغرب.
  • ـ الإسلامية: نظام مجتمع ومنهج حياة.
  • ـ الخلافة الإسلامية.
  • ـ المعلمة الإسلامية.
  • ـ الموسوعة الإسلامية العربية.
  • ـ اليقظة الإسلامية في مواجهة التغريب.
  • ـ حقائق مضيئة في وجه شبهات مثارة.
  • ـ سقوط العلمانية.
  • ـ شبهات في الفكر الإسلامي.
  • ـ شهادة العصر والتاريخ.
  • ـ كيف يحطمون المسلمون قيد التبعية والحصار.
  • ـ محمد الرسول.
  • ـ منهج الإسلام في بناء العقيدة والشخصية.
  • ـ موسوعة التأصيل الإسلامي.
  • ـ موسوعة العلوم الإسلامية.
  • ـ موسوعة تاريخ الإسلام.
  • ـ موسوعة تاريخ الصحافة الإسلامية خلال القرن الـ 14 الهجري.
  • ـ موسوعة تراجم الأعلام.
  • ـ موسوعة معالم الأدب العربي المعاصر.
  • ـ موسوعة مقدمات العلوم والمناهج.

زياراته العلمية

اشترك الأستاذ أنور الجندي في الكثير من المؤتمرات الإسلامية في القاهرة، والرياض، والجزائر، والمغرب، وجاكرتا، ومكة المكرمة، والأردن، والخرطوم، ودُعي إلي الزيارة والمحاضرة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وجامعة العين بالإمارات، والمجمع اللغوي بالأردن.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com