الرئيسية / المكتبة الصحفية / ندوة إشكالية التحيز التي حرر الدكتور المسيري أعمالها

ندوة إشكالية التحيز التي حرر الدكتور المسيري أعمالها

(ثمرة التعاون بين  نقابة المهندسين المصرية، والمعهد العالمي للفكر الإسلامي)

لأول مرة منذ زمان بعيد يصدر في المكتبة العربية كتاب ضخم وجاد ومتكامل اجتمع علي تأليفه خمسون من المهتمين بالفكر والثقافة العربية المعاصرة بروح الإخلاص العميق للفكرة التي تناولوها، والمفاهيم الفكرية التي ناقشوها، والآراء الجريئة التي أضافوها.

 وقد جاء هذا الكتاب ليكون بمثابة بروتوكول مرجعي وليكون في ذات الوقت مرجعا في حد ذاته.. أو بعبارة أخري ليكون «بيانا» يطالب بقيم جديدة، وفي ذات الوقت فهو دستور قيم لهذه القيم الجديدة التي تستهدف أن تصوغ لهذه الأمة بداية عهد جديد من الاستقلال هو الاستقلال الحضاري.

فإذا تأملنا في حقيقة أننا نعقد علي مدار الوطن العربي والإسلامي ما لا يقل في المتوسط عن ندوة في كل يوم من أيام العام، فلابد لنا أن نقدر مدي العظمة والروعة والمثابرة وقيم أخري كثيرة كانت وراء قيمة أكبر هي قيمة الإخلاص التي تصدرت كل هاتيك القيم لتبرز لنا إلي الوجود هذا المرجع العظيم والسفر القيم والكتاب المبتكر.

وعلي كل الذين يعقدون ندوات بعد اليوم أن يتمثلوا الجهد المبذول في هذا الكتاب حتي يحاولوا أن يقدموا للمكتبة العربية ما هو صنو له، فإذا صدقت النوايا فسوف ندرك جميعا أن الندوة الحقيقية تحتاج إلي جهد كبير وإعداد متأن إذا ما كانت الفكرة تستأهل الجهد والإعداد ولكن العامل الأهم في الوصول إلي مثل هذا المرجع العظيم قد يتمثل في شخص واحد، يكون إخلاصه للفكرة قد وصل إلي حد التفاني فيها، أو بعبارة أدق وصل إلي حد «التوحد»، ويكون قبل هذا قادرا علي الدراسة العميقة والقراءة المتأنية لكل دراسة موسعة، ويكون بعد هاتين الخصلتين أكثر قدرة علي التعبير الدقيق والواعي عن الحقائق في صورها المختلفة، وأن يكون مخلصا للفكرة في هذا التعبير وصاحب قدرة علي التمييز بين ماهو صواب وما هو أكثر صوابا، وبين ما هو ظاهر البطلان وبين ماهو ظاهر الحق، وبينهما وبين الباطل والحق، وأن تكون له القدرة علي طرح الأسئلة أو أن يكون قد أوتي نصف العلم علي حد تعبير الإمام الشافعي في وصف سلفه العظيم الإمام أبي حنيفة النعمان، وأن تكون له كذلك القدرة علي تمييز الأجوبة من بعضها والوصول إلي الموضع الحرج الذي جعل الإجابات عنده تختلف وتنحرف عن الصواب.

ومن حسن الحظ أن ثقافتنا العربية المعاصرة قد  بدأت في هذه الندوة تعرف طريقها إلي الإفادة من الدكتور عبدالوهاب المسيري محرر هذا الكتاب ليقوم بهذا العمل الجليل.

ولاشك أن كل الكفاءات الشخصية والذهنية قد تجمعت وتضافرت مع بعضها لتقدم لثقافتنا العربية هذا الإنجاز الرائع.

لهذا فإن التقدير الذي يستحقه الدكتور المسيري علي هذا العمل «وهو محرره» يفوق التقدير الذي كان يستحقه لو كان هو مؤلفه فحسب، ذلك أنه جمع إلي جهده العظيم في تأليف الفصول إلي بعضها ومع بعضها اعترافا ذاتيا وعمليا شجاعا بترك كل تخصص لصاحبه، وترك كل مؤلف مشارك لأسلوبه، مع أنه كان في وسعه ـ كما نعرف ـ أن يتكاسل بعض الشىء عن إنجاز هذا العمل ثم يخرج علينا بكتاب كبير من تأليفه بمفرده يأخذ فيه ما يشاء من أعمال الندوة ليضمنه كفقرات مطولة أو غير مطولة في متن كتابه أو في هامشه، مع حفظ حق أصحاب هذه الفقرات في المرجعية، ولكن هذا الرجل المجتهد قدم لنا العمل العظيم علي صورة عظيمة محتفظة بمؤلفيه العظماء كذلك.

أما أن هذا العمل عظيم فأمر لاشك فيه، أليس هذا الكتاب هو المحاولة الوافية الشافية الكافية (مع أنه الأولى) لدراسة مفهوم التحيز من وجهة نظر إسلامية دراسة عميقة وعريضة في الوقت نفسه، فهي تتناول التحيز في كافة مناحي المعرفة تقريبا، وبعمق شديد جدا في كل هذه المناحى.. وهي تدرس التحيز في إطار فلسفي وتطبيقى، وهي عندما تثبت الفكرة المتحيزة تثبت أيضا البديل، فتخرج من نطاق النقد إلي إطار البناء، وتشيد صروحا للحق تضيفها إلي النقد البناء وإلي النقد المنهجي وإلي البناء المعرفى.

وليس في وسعي في هذا المقال أن أتناول هذا الكتاب فصلا فصلا، ولا فكرة فكرة كما أفعل في الكتب التي أنقدها، وليس في وسعي كذلك أن أتناوله شريحة شريحة، ولكني مع هذا أريد أن أدل القارئ علي أربعة معاني مهمة تتبدي من خلال الدراسة الواعية لهذا الكتاب.

أولها: أريد للقارئ ـ علي سبيل المثال ـ أن يستوعب فكرة أجاد هذا المجلد عرضها وهي فكرة أن الشىء لا يعد موجودا بالنسبة لشعورنا إلا عندما يلد فكرة تصبح برهانا علي وجوده في عقلنا كما قال مالك بن بني في كتابه مشكلة الثقافة.. ولهذا فإن كل ما ينضوي في منطقة الضوء التي تحوط جزيرتنا يصبح فكرة تدخل إلي مجال معرفتا، أي إلي شعورنا، ولكنه عندما يتم دخوله في هذه المنطقة يصبح حضوره وجودا حقيقيا، وحينئذ تنكشف شخصيته، ويوضع بالتالي اسم يطلق عليه.. وهذه هي عملية الإدراك عندما نريد أن نفهم الأشياء من الوجهة الفردية، أما إذا أردنا أن نتناولها من وجهة اجتماعية، فإن علينا أن نحدث تفرقة بين الواقع الاجتماعي الذي لم يحدد أو لم يوصف بعد، وبين الواقع الاجتماعي المدرك المحقق. وهكذا يسهل علينا أن نفهم مدي الضرورة القصوي لفهم مصطلح ما في ضوء ثقافتنا العربية الإسلامية، وفي ضوء الثقافة الغربية التي ننقل عنها وتستطيع أن تأخذ أمثلة لهذا ترجمة كلمة Saint علي أنها القديس بينما هي في الفكر الإسلامى: الصديق، وترجمة Savaltion علي أنها الخلاص بينما هي في الفكر الإسلامى: الشفاعة، وترجمة Devils علي أنها «الأرواح الشريرة» بينما هي في الفكر الإسلامي «الشيطان».. وهكذا.

ومن حسن الحظ أن بعض مترجمينا في كثير من العصور كانوا يلجأون بحكم الفطرة الصادقة إلي الترجمة المعبرة عن الفكر الإسلامي ، في نفس الوقت الذي كان يلجأ فيه مترجمون آخرون إلي الترجمات الأخرى المعبرة بوضوح عن التحيز الواعي أو غير الواعي لفكر آخر.

ولعل هذه النقطة تدعوني إلي أن أدعو الدكتور المسيري ورفاقه إلي تكليف مَنْ يقوم بمثل هذه الدراسات العميقة للترجمات المختلفة التي نُقلت من خلالها علوم وثقافات كثيرة إلي الأدب العربي وإلي اللغة العربية، وفي هذا المجال يهمني بصفة خاصة أن أشير إلي ما أشرت إليه منذ أكثر من خمسة عشر عاماً من عبقرية الدكتور علي مصطفي مشرفة حين أراد أن يترجم إلي اللغة العربية نصا شعريا أوبراليا فوجد فيه إشارة إلي حيوان سريع فلجأ إلي أن يعبر عن هذا الحيوان (أو وسيلة الانتقال السريعة) بمسمي « البراق» الذي ورد ذكره في  كتب السيرة علي أنه الحيوان الذي امتطاه الرسول (صلي الله عليه وسلم) في ليلة الإسراء والمعراج.. ويهمني بصفة خاصة أيضا أن أشير كذلك إلي الروح الإسلامية شديدة الانتماء في ترجمات ألفاظ العلوم الحديثة عند الجيل الأول من علمائنا المصريين المحدثين وأذكر منهم بصفة خاصة العلماء الدكاترة: أحمد زكي ومشرفة والغمراوي بل كل جهود لجنة التأليف والترجمة والنشر، ولست أريد أن أخرج عن عرضي لهذا الكتاب إلي الحديث عن جهدي في كتب ومقالات أخري في الإشارة إلي جهود هؤلاء في الصياغات المبكرة للاستقلال الحضاري في العلم والمعرفة العلمية.

أما المعني الثاني الذي أريد أن أدل القارئ عليه فهو انتباه هذه الندوة وتصديها لمدي الخطورة الكامنة في محاولة المدارس الاجتماعية الغربية إقامة وحدة بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية… بما يؤدي [في تصور الدكتور المسيري] إلي تحول المجتمع في ظل هذه المدارس إلي آلة كبيرة محكومة الحركة ومضبوطة بالأزرار، وقد انتبهت بحوث  الندوة ومناقشاتها إلي حقيقة مهمة جدا وهي أن هذا التوجه في حد ذاته قد يعجل بقيام الدولة الشمولية في أبشع صورها… ولست أستطيع أن أتحفظ علي هذا الاستنتاج ولا علي عموميته، بل لعلي أضيف إلي هذا أن الأمر قد لا يتوقف عند الحد الذي صوره هذا الكتاب، بل إن النظام العالمي الجديد يستمد من نجاح بعض تجارب الولايات المتحدة الأمريكية في بعض الصراعات الدولية التي اجتازتها مؤخرا مبررا قويا للاعتماد علي ما أسميته في كتاب لي بنمذجة السلوك الإنسانى، وكنت قد تناولت هذا المعني بوضوح كاف ـ في تصوري ـ في كتابي «شمس الأصيل في أمريكا»، ولا أستطيع بعد هذا إلا أن أدل القارئ علي أن يطالع بتمعن شديد فصول المحور الخامس من محاور هذا السفر القيم  «إشكالية التحيز» فسوف يجد ما يروي عطشه إلي معرفة كثير من الحقائق.

المعني الثالث الذي أريد أن أنبه القارئ إليه هو ما نبه إليه بحث الدكتورين أسامة القفاش وصالح الشهاب عن التحيز في المفاهيم الطبية، وهما يوردان في هذا المعني كلاما كثيرا لعل أصدق وصف له هو أن كله أعظم من بعضه، وهما يعتمدان علي كتاب عظيم أرجو الله سبحانه وتعالي أن يتاح لقراء العربية عن قريب هو «الطب والثقافة»، ولأن الحديث عن الطب يبدو دائماً وثيق الصلة بكل القراء وليس بي وحدي فحسب فسأختار لهم فقرة من بحثهما (ص 460 الجزء الأول) حيث يتحدثان عن بعض الأساطير الطبية فيقولان في هذا البحث:

«في إحصائية مثيرة بلغت نسبة الولادة داخل البيت في هولندا 80% من مجموع الولادات، وبلغت تلك النسبة في الولايات المتحدة 7% فقط. وتزداد بين الفقراء عنها بين الأغنياء في أمريكا حيث إنها تتركز أساسا في المناطق المدنية الفقيرة أو أحياء الزنوج والأسبان والأجانب.. ويفسر الكاتب هذا علي أساس الخلفية الثقافية في كل بلد والخلفية الطبقية والقدرة المادية داخل البلد الواحد حيث يمكن للمواطن الأمريكي الأبيض أن يذهب للمستشفى بسبب كروت الضمان المتعددة التي يقتنيها. ثم يضيف الكاتب تفسيرا عنصريا حيث يقول إن الأجانب يحتفظون أحيانا ببعض عاداتهم معهم وأورد مثالا علي ذلك: الأسيويون وحالة الخوف المرضي من الأجانب أو  Xenophobia».

«ونلاحظ (الملاحظة للأستاذين أسامة النقاش وصالح الشهاب) أن الكاتب يغفل في تفسيره عاملا بسيطا هو عملية الولادة ذاتها التي هي وفقا للتعريف الطبي «عملية طبيعية لا تتطلب أي تدخل صناعي أو خارجى».

«هل تتذكرون تلك المرأة المصرية القديمة التي كانت تلد ثم تخرج للعمل في الحقل مع زوجها كما أخبرنا هيرودوت في تواريخه».

«في  المقابل يعود انتشار عملية الشق العجاني Episiotomy إلي الطبيب الأمريكي جوزيف ديلي الذي أوصي عام عام 1920 باستخدام الجفت Forcepes والشق المهبلي Episiotomy والفتح القيصري Cesarean section بأسرع ما يمكن.. وأبدي احتقاره الشديد لعملية الولادة الطبيعية قائلا: «إنه يعتقد أن الطبيعة أرادت أن تموت النساء أثناء الولادة مثلهن في ذلك مثل سمك السلمون».

«ولكن ماذا نتوقع ممن يعتقدون أن كل شىء سيتم حله علميا وأن الطبيعة هي الأصل وأنها قد أتت من عدم! أحيانا نضع أساطيرنا الخاصة لتبرير وضعية اجتماعية وتعليل سلوك ما».

من هذا القبيل عمليات الولادة التي تحولت إلي عملية مربحة وسريعة ويلجأ الأطباء الكبار إلي التدخل القيصري بأسرع ما يمكن لأن وقتهم وجدولهم لا يتيح لهم الانتظار حتي تلد المرأة  ولادة طبيعية.

«هذا النموذج «العملى» «المادى» الهادف إلي الربح انتقل بالعدوي إلي الريف فمن قبيل المفارقات المضحكة المبكية في آن واحد أني سمعت عن قابلات ريفيات كن يحقن النسوة بحقن «إحماء الطلق» للإسراع في الولادة وبناء علي طلب السيدات أحيانا وذلك تشبها بالأطباء وطلبا للوجاهة الاجتماعية. فمن لا يستطيع إحضار الطبيب لامرأته يحضر لها القابلة التي تستخدم حقن الطلق. وهكذا يجرفنا النموذج المادي الكمي ، ونتخلى عن منظومتنا الإنسانية علي مستويات متعددة».

وبعد هذه النماذج الموحية نري كتاب «إشكالية التحيز» وهو يقدم لنا أسطورة أخرى: هل تعتقدون أن «المرض» واحد في كل زمان ومكان، وأنه عندما يلقي الأطباء في وجوه مرضاهم بكلمات لاتينية إنما يقصدون نفس المعني في كل البلدان؟

يقول الدكتور م. ن. ج. ديوكس «علي أحد جانبي الأطلسي تعني كلمة Cellulitis  (أي التهاب خلوي حرفيا) روماتيزم العضلات، بينما هي علي الجانب الآخر تعنى: التهاب صديدي في النسيج تحت الجلدى، ولو توغلنا بضع مئات من الكيلومترات داخل القارة فإنها [أي نفس الكلمة] توازي المرادف الطبي العلمي للبدانة في الشابات.

وهكذا: كلمة واحدة وكل هذه المعاني المتضاربة.

المعني الرابع الذي أريد أن أنبه إليه في حديثي عن هذا السفر القيم هو انتباه الندوة إلي خطورة مفهوم «النص»، وهو المفهوم الحاسم في تشكيل بعض المناهج النقدية الغربية المعاصرة، وهو في رأي الدكتور سعد البازعي في بحثه بعنوان «ما وراء المنهج: تحيزات النقد الأدبي الغربى» بمثابة أحد المفاتيح البارزة لما نجده من تباين، فثمة إجماع تقريبا بين المعاجم العربية علي أن  النص يحمل معني الإسناد، والتعيين، قال الأزهرى: النص أصله منتهي الأشياء ومبلغ أقصاها.. ونص القرآن، ونص السنة، أي ما دل ظاهر لفظهما عليه من الأحكام (لسان العرب). وفي تاج العروس: «النص بمعني الرفع والظهور. قلت ومنه أخذ نص القرآن والحديث وهو اللفظ الدال علي معني لا يحتمل غيره..» فأين هذا من المدلول اليوناني واللاتيني الذي تعود إليه كلمة «Text» في اللغات الأوروبية الحديثة، حيث تحمل الكلمة معني «النسيج» و «التداخل»، وهو المعني الذي مهد لظهور نظرية النصوصية، أو اشتباك بعض النصوص ببعض بشكل نسيجى.

صحيح أن مفهومنا العربي المعاصر للنص قد تغير عن المفهوم القاموسي القديم، بل لعله عند البعض منا يحمل المفهوم الغربي ممتزجا مع المفهوم العربي الإسلامي الموروث. لكن هذا لا يجيز لنا أن نسقط المفهوم الغربى، أو مفهومنا المزيج، علي أدب وثقافة أنتجت في ظروف مختلفة كثيرا عن ظروفنا (ذلك أن) المفاهيم تظل مختلفة تبعا لاختلاف السياقات الحضارية. ومهما كان ذلك الاختلاف نسبيا، فإننا مطالبون بإدراكه والصدور عنه حين يتطلب الأمر ذلك.

وفي موروثنا الفكري والنقدي ـ كما يقول صاحب البحث ـ سنجد تأكيدا علي أهمية ذلك الإدراك وإضاءة لبعض جوانب التحيز المنهجى. وهذا هو أحد سببين رئيسين لتوقفنا قليلا عند ذلك الفكر.

أما السبب الثاني فهو أن ذلك الفكر الموروث يعد نموذجا تاريخيا يمكن اعتباره سابقة في تاريخ الفكر، نحن في أمس الحاجة إليها لتعزيز موقفنا النقدي أو التساؤلى، إزاء الفكر الغربي المحيط بنا من كل الجهات تقريبا، وبقدر أكبر بكثير بما كان يحصل في الماضي.

ففي المواجهات الفكرية لابن سينا والغزالي وابن رشد وغيرهم، نجد ما يذكرنا بأن الاستعارات الفكرية والأدبية لا يجب أن تتم إلا بعد تمحيص وتساؤل، ليس من منطلق الارتياب في الفكر الآخر، وإنما إدراكا للاختلاف، وحرصا علي تماسك الشخصية الحضارية. والنموذج الذي نجده عند أولئك المفكرين يعزز هذا الموقف التساؤلي من خلال (أشكلته) أو تأزيمه للعلاقة بالغرب.

وسنحس بذلك ـ يقول الكتاب ـ بالرغم من قصر وقفتنا إزاء ذلك النموذج، وبالرغم أيضا ـ وقد يكون هذا هو الأهم ـ من اختلاف الظروف التاريخية. فعلاقتنا بالغرب ليست ـ تماما ـ تلك العلاقة التي تبلورت في القرن الثالث أو الرابع أو الخامس الهجرى، الغرب غير الغرب، ونحن [كذلك] اختلفنا عن ابن سينا وحازم القرطاجنى.

لكن المواجهة الحضارية تحافظ ـ بالرغم من ذلك ـ علي الكثير من سماتها. وليس أدل علي ذلك من أن الفكر الغربي المعاصر يواجه إشكاليات التحيز وعلاقته بالآخر بكيفيات تذكرنا كثيرا بما كان يحدث يوما ما في مشرق العالم الإسلامي وغربه.

هكذا يستطيع القارئ من هذين الاقتباسين اللذين اخترتهما [بتصرف] من مجالين متباعدين هما الطب والنقد الأدبي أن يدرك بكل وضوح أن «التحيز» ليس إشكالية فحسب، ولكنه مشروع حضاري كبير، يرتبط بكل ما في الحضارة من علوم وأفكار، وأحاسيس، ومشاعر، ومظاهر، وجواهر، ورؤى، وانعكاسات، وتأثيرات، وتأثرات.

بقي بعد هذا كله أن أهنئ نقابة المهندسين والمعهد العالمي للفكر الإسلامي علي إخراج هذا السفر القيم، وبقدر ما أهنئ هاتين المؤسستين فإني لابد أن ألوم الناشرين المصريين والعرب جميعا الذين تركوا  هذا العمل من دون أن ينشروه علي نطاق واسع، وأن ألوم مع الناشرين فناني إخراج الكتب العربية الذين لم يفرضوا وجودهم علي الساحة الثقافية بالقدر الذي جعل مثل هذا الكتاب يصدر بدون اللجوء إلي لمساتهم.

وإني واثق أن الطبعات التالية من هذا الكتاب القيم سوف تكون بإذن الله سبحانه وتعالي أكثر جمالا ورشاقة.. وتوزيعا كذلك.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com