تمثل الألفية واحدة من منظومات علمية كثيرة نظمت في علوم وفنون كثيرة من علوم اللغة العربية والعلوم المتصلة بالدين الإسلامي في العصور التي بلغت فيها تقنيات تدريس هذه العلوم مرحلة القمة في الاستقرار والوضوح والكتابة العلمية والتعليمية المتقدمة، ولم يكن هذا كله إلا نتيجة طبيعية للتجديد الحضاري من ناحية، ولطول ما مورس تدريسها وتعليمها والتعليق عليها وابتداع طرق خاصة في تقديمها للطلاب والمبدئين.
والأىفية هي كما يعرف معظم القراء.. متن من الشعر المنظوم يتناول كل قواعد اللغة العربية ـ نحواً وصرفاً ـ في ألف بيت من النظم مرتبة في فصول متوالية كما تترتب فصول أي كتاب في علم النحو.
وحتى في علم النحو نفسه فإن الألفية التي نعرفها ليست هي أولى الألفيات، ذلك أن مؤلفها نفسه: ابن مالك يعلن في البيت الخامس من مقدمتها عن وجود ألفية سابقة عليه هي ألفية ابن معطى، ويحرص ابن مالك علي أن يذكر أن ألفيته تفوق ألفية ابن معطى، لكنه في البيت التالي مباشرة يعود ليعترف بفصل ابن معطى، مشيراً إلي أنه بفضل سبقه عليه قد حاز الأفضلية، ومما يروي في شرح البيتين التاليين أن ابن مالك رأي في منامه ابن معطي وهو يلومه علي حديثه الذي يزهو فيه بألفيته الجديدة علي الألفية التي تعلم منها وقلدها، فلما استيقظ ابن مالك من نومه نظم هذين البيتين الذي يقول فيهما:
وهو بسبق حـائز تفضيـلا مستـوجب ثنـائي الجميلا
والله يقضي بهبات وافرة لي وله في جنات الآخرة
أما البيت الذي جعل ابن معطي يزور ابن مالك في منامه ففيه يقول ابن مالك:
وتقتضي رضا بغير سخط فائقـة ألفـية ابن معـطى
والألفية هي الاسم المختصر لهذه المنظومة، وغالباً ما تدعي «ألفية ابن مالك»، ويمكن إذا أذن لنا القراء أن نستخدم تعبير الأطباء والصيادلة في وصف هذا الاسم بأنه هو الاسم التجاري، أما الاسم الأصلي فهو «مختصر الشافية»، ويدلنا هذا الاسم علي أن الألفية نفسها متن مختصر من متن أكبر اسمه المختصر «الشافية»، أما اسمه الكامل فهو «الكافية الشافية»، وهي منظومة كبيرة في النحو للمؤلف نفسه تحتوي علي ثلاثة آلاف بيت، وقد تولي ابن مالك نفسه شرح المنظومة الكبيرة كما تولي ـ بالطبع ـ اختصارها في الألفية التي نعرفها والتي أتيح لها ما لم يتح للمتن الكبير ولا لغيره من شهرة فائقة وذيوع صيت وخلود مستمر علي مدي الأجيال.
علي أن ابن مالك (600هـ ـ 672م) أضاف إلى جهوده في التأليف النحوي جهداً آخر بأن نثر الألفية نفسها في كتاب منثور سماه: «الفوائد النحوية والمقاصد المحوية».
وتثبت المراجع الببليوجرافية لابن مالك بالإضافة إلي «الألفية» و«الشافية» التي هي المتن الموسع منظومة شعرية ثالثة في النحو سماها «الموصل في نظم المفصل»، وقد نثرها أيضاً في كتاب سماه «سبك المنظوم وفك المختوم»، وهكذا فإن الكتب الأمهات التي ألفها ابن مالك تضم ثلاث منظومات وكتابين منثورين عن اثنتين من المنظومات الثلاث.
وليس من العجيب أن يبدأ المؤلف بالنظم ثم ينثره مع أن النثر أسهل، ولكن الجهد العلمي كما نعرف يصل إلي ذروته ثم يتبسط في عرض ما وصل إليه، ولعل هذا يتفق (من قريب أو من بعيد) مع ما يقال ـ في تاريخ الآداب وهو غالبا صحيح ـ من أن النظم أسبق من الشعر.
وفي كثير من الأحيان كانت الألفية تمر بخاطرى ، وكنت بعد تفكير في صياغتها وترتيبها وإحكام نصوصها أجد نفسي مدفوعاً إلي الظن بأن الذي وضعها علي هذا النحو كان معنياً أو مفتوناً بالنصوص القانونية التي تخرج الأحكام بدقة بالغة من نصوص واضحة المعني لا لبس فيها ولا غموض لأنها نصوص شاملة لما في الاحتمالات المختلفة من ورود، ولما في القرائن والدلائل من اجتماع أو انتفاء، فضلاً عن الوعي بالحالات الخاصة ومدي استمتاعها باستثناء قانوني من قواعد قانونية عامة. وحين قرأت تاريخ ابن مالك صاحب الألفية وجدته بالفعل كثير المعاشرة لأهل القانون ومنهم قاضي القضاة.
ولكن هل كان ابن مالك بلغة العصر الحديث مجرد مدرس مجيد وخبير بقواعد النحو وبتدريسها إلي حد أنه توقف عند التدريس وتأصيل ما سبق عليه، وانحصرت إضافاته فيما يسمي في علوم التربية بـ«الطرق الخاصة» فحسب، أم أنه كان شأنه شأن الأساتذة الكبار معنياً أيضاً بالبحث في قواعد اللغة وفلسفة هذه القواعد وإعادة «تقعيدها» كما يقول الأصوليون (وليس إعادة تعقيدها كما سيقول القراء الظرفاء).
يبدو بوضوح أن ابن مالك كان من طراز متقدم من أساتذة النحو، وتثبت القوائم الببليوجرافية أن له دراسات مهمة اختار لها عناوين معبرة تمام التعبير عن محتواها، من هذه الدراسات:
1 ـ الاعتضاد في الطاء والظاء 2 ـ فعل وأفعل
3 ـ تحفة المودود في المقصور والممدود 4 ـ النظم الأوجز فيما يهمز
فهذه موضوعات نحوية متداولة في أوساط النحو العليا علي حد مايقول به التعبير الاكاديمي ، وقد قدم ابن مالك رؤيته لها مثبتاً تمكنه من العلم والتفكير فيه علي نحو ما أثبت مقدرته علي تقديم علم النحو وتدريسه.
ولم يقف ابن مالك عند حدود هذا لكنه تولي بنفسه إجراء بعض ما نسميه الآن الدراسات التطبيقية، وهكذا تولي هذا العالم الجليل شرح «لامية الأفعال» كما تولي «إعراب مشكل البخارى».
أما ثاني أشهر كتب ابن مالك بعد الألفية فهو كتابه «تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد». ومن حسن حظ المكتبة العربية أن دار الكاتب العربي للطباعة والنشر نشرت هذا الكتاب عام 1967 بعدما قدمه الأستاذ محمد كامل بركات لنيل درجة الماجستير من قسم اللغة العربية بآداب القاهرة بإشراف أستاذه المغفور له الدكتور يوسف خليف.
وفيما عدا هذين الكتابين فإن الآثار العلمية لابن مالك لا تزال بحاجة إلي تعريف وتحقيق ودراسات مستفيضة تكفل للمتأخرين الإفادة من ثمار هذه العقلية العلمية الجبارة التي أثرت في دراسة علوم اللغة العربية طيلة القرون الثمانية الماضية وحتي اليوم.
ويمكن باختصار شديد أن نصور للقارئ مكانة ابن مالك في النحو العربي علي نحو تاريخى، فلا يزال النحو العربي الذي ندرسه حتي يومنا هذا متأثراً بتقديم ابن مالك له، ومع أننا جميعاً نعرف أن أبا الأسود الدؤلي هو أول من وضع قواعد نحوية، وأن سيبويه هو أبو النحو العربي بفضل كتابه «الكتاب»، فإن الطريقة التي قدم بها ابن مالك النحو من خلال مولفاته وأشهرها «الألفية» قد غطت تماماً علي جهد سيبويه ومنهجه في تقديم النحو.
لم يضع ابن مالك قواعد النحو العربى، فهي بالطبع موجودة في اللغة نفسها، ولم يسجل هذه القواعد، فقد سبقه سيبويه إلي هذا، وتلاه كثيرون من علماء النحو الذين استطاعوا أن يصلوا بالدراسات النحوية إلي النضج التام، أو إلي أقرب ما يكون من النضج التام.. وقد جاء ابن مالك بعد هذا كله: بعد تبلور المدارس واكتمال المذاهب وثراء التراث إلي أبعد الحدود، وهكذا كان من الصعب أن يجد لنفسه مكاناً في تاريخ النحو إلا بعبقرية فذة، وقد استطاع هذا العالم [الجديد] بذكاء نادر وقريحة ناقدة أن يستوعب كل ما سبقه ، وأن يبدأ في الإضافة إليه، ومع أن العقيدة القائلة بأن الأول لم يترك للآخر «شيئاً» كانت سائدة تماماً في وقت ابن مالك،فإنه ـ وهذا هو بيت القصيد ـ كان يري أن بإمكانه أن يضيف وأن يبدع، وقد عبر عن هذا المعني بجملة رائعة في مقدمة كتابه «التسهيل» قال فيها:
«وإذا كانت العلوم منحاً إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يُدخر لبعض المتأخرين، ما عسر علي كثير من المتقدمين».
علي هذا النحو يمكن لنا أن نصور ابن مالك للقراء علي أنه أصبح طيلة القرون التالية بمثابة «المرجع» و«صاحب المرجع».
ومن التقاليد الراسخة التي ابتدعتها الحضارة الإسلامية أن يكون لكل علم من العلوم كتاب «أو أكثر» يكون بمثابة المرجع، لا يسمح لأحد أن يمارس التعليم والبحث في هذا العلم إلا بعد أن يكون قد استوعبه تماماً.
ومما يدل علي عظمة ابن مالك أن كتابه «الألفية» ظل بمثابة هذا المرجع ربما إلي يومنا هذا، وأن كتابه الآخر «التسهيل» كان أيضاً بمثابة هذا المرجع عند أهم معارضي ابن مالك وهو أبو حيان النحوي الذي يري مؤرخو النحو أنه «أشد النحاة مخالفة لابن مالك وأكثرهم شغباً عليه»، لكن هذا العالم الجليل كان لا يسمح لأحد أن يقرأ عليه إلا في كتاب «التسهيل» أو في «كتاب سيبويه»، وفي هذا أكبر دليل علي عظمة ابن مالك وعظمة أبي حيان النحوي أيضاً.
ونعود إلي الألفية، وقيمتها عند دارسي العلوم اللغوية والعربية قيمة كبيرة جداً، وهي عند مدرسي العلوم اللغوية العربية كذلك ذات قيمة ضخمة، فقد يسرت حفظ قواعد اللغة بفضل تركيز عباراتها، كما أن كونها منظومة قد يسر حفظها واستدعاءها من الذاكرة عند الحاجة إلي تذكر القاعدة النحوية أو معرفتها أو التأكد منها أو مقارنتها بالقواعد الأخرى.
ومن حسن حظ التعليم الأزهري في مصر أنه كان يأخذ بمبدأ الحفظ، وأنه لم يكن يجد في الحفظ خطيئة علي النحو الذي أصبح فيه بعض المحدثين«الغرباء عن فهم المناهج التربوية» يصورون الحفظ، ومع أن هذا المقال ليس مجالاً لمناقشة هذه القضية، إلا أني أحب أن أؤكد للقارئ ما ذكرته في أحد مقالاتي من أن ما نعرفه بالحفظ يمثل إحدي الوسائل المهمة جداً لمعاونة العقل البشري علي إتمام كثير من العمليات الذهنية والمنطقية والفكرية في سرعة بالغة تضيف إلي الإنجاز الفكري ولا تنتقص منه. كما أن «الذاكرة» البشرية التي يضيف الحفظ إليها موضوعات ومعلومات جديدة هي واحدة من أعظم نعم الله علي الإنسان، وربما تمثل أبدع صور الإعجاز الإلهي في العقل البشرى.. كما أن النصوص الفكرية «سواء كانت في الأدب أو العلم» لا يمكن أن تتحد بالتفكير البشري وتتوحد معه وتكتسب القدرة علي التفاعل معه بدون الحفظ.. أيا كانت الصورة التي تحقق بها الحفظ.. علي أن الأهم من هذا كله أن «النص» نفسه (أي نص) لا يكتسب الحميمية مع الدارس بدون حفظ.. حتي ولو كان النص مما لا يستحق الحفظ!
ولست أزعم أني تعلمت النحو من خلال الألفية، ولكني تعلمت النحو بينما كانت الألفية «المشروحة» موازية لى، ولازلت أحتفظ في مكتبي بنسخة مجلدة من أربعة أجزاء هي شرح ابن عقيل علي الألفية بتحقيق الأستاذ طه الزينى، أهدتها لي مدرستي الإعدادية بمناسبة فوزي بجائزة القرآن الكريم علي مستوي المحافظة، وسجل الناظر الإهداء بيده علي كل جزء من الأجزاء الأربعة مقروناً بخاتم المدرسة، وحين كنت أتولي في بعض الأحيان تدريس اللغة العربية في فصول التقوية الصيفية، فإني كنت في كثير من الأحيان ألجأ إلي بعض أبيات الألفية لتدريس بعض دروس النحو بطريقة مبتكرة، وأستطيع أن أزعم أن التلاميذ كانوا يتجاوبون مع هذه الطريقة بطريقة مذهلة، ويكفي أنهم جميعاً كانوا في نهاية الحصة المخصصة لدراسة «إن وأخواتها» يحفظون قول ابن مالك.
لأن أن ليت لكن لعل كأن عكس ما لكان من عمل
وفي هذا البيت كما نري بوضوح استطاع ابن مالك أن يحصر إن وأخواتها جميعآً علي سبيل التوالي، وأن يقدم ملخصاً بديعاً لعمل هذه الأخوات في النص مقارناً هذا العمل بعمل كان وأخواتها، ذاكراً أنه عكس هذا العمل، وليس أدعي إلي تذكر القاعدة وفهمها من هذا النص العبقري.
لكني عند دراستي للآثار الفكرية والآراء اللغوية لمحمد كامل حسين (فوجئت به يجاهر في المجمع اللغوي بآراء مضادة أو (إذا أردنا الدقة) معادية للألفية ولمنهجها في تعليم النحو، وهي آراء تستحق الاحترام حتي إن لم تكن صائبة، وقد كنت أميل إلي الاعتقاد في صحتها حين كتبت كتابي عن محمد كامل حسين عام 1978، وظللت علي هذا حتي نضجت وأتاح لي نضجي احتكاكا أكثر بطوائف معلمي اللغة ودارسيها، وأدركت ما أدركه المسئولون عن تعليم قواعد اللغة طيلة القرون السبعة الماضية من أهمية وجود وخلود وحضور نص بديع كالألفية.
ومع هذا فإني أحب أن أورد بعض النصوص التي هاجم بها محمد كامل حسين «الألفية» وسأقتبس من هذه الأقوال قوله:
«من أكبر الدلائل علي تدهور علوم اللغة ما فعله ابن مالك حين وضع ألفيته المعروفة، وليس من المبالغة أن نقول إنها ساعدت بدورها في هذا التدهور، وعندي أنها عادت بأضرار جسيمة علي العربية، والعناية بها من الأسباب التي باعدت بين النحويين والكتاب».
«والأضرار التي ألحقتها ألفية ابن مالك باللغة العربية كثيرة. منها أنها نظم سقيم لا يقبله مَنْ عنده أقل قدر من الذوق الأدبى، ولا أظن أن أحدا ممن حفظوها يستطيع أن يكتب شيئا ذا بال في غير النحو، وهي من الأمور التي ساعدت علي انطواء النحويين علي أنفسهم، كأن النحو بمعزل عن كل ما يفيد منه الكاتب والأديب، ثم إنها ركزت جهد المتعلمين علي درس القواعد كأنها غاية في ذاتها، والتأكيد علي قواعد اللغة والحاجة إلي تذكر تفاصيلها يعوق المتعلمين عن الانطلاق في التفكير. ومن هنا أصبح العلم باللغة احترافا».
«والألفية مجموعة طلاسم لا تفهم إلا بعد شرحها شرحا وافيا، ولا يفيد أحد منها إلا بعد شرح هذا الشرح، حتي إذا بلغ الإنسان جوهر القاعدة وجد أنها لا تستحق شيئا من هذا الجهد… قيل إنها سهلت العلم بالقواعد، ولكن فائدة هذا النظم تضيع بين سوء النظم وشرح الشراح، ولذلك تعددت الشروح والتقارير والحواشى، ولولا الألفية لاستطعنا أن نحتفظ من قواعد اللغة بما نكون في حاجة إليه».
ومع كل إعجابي وتقديري لمحمد كامل حسين إلا أنني أظن أن هذه الآراء لا تعبر عن علمه وتقديره بقدر ما تعبر عن مثالياته وآماله، وليس صعباً أن ندرك أن تعليم النحو شيء، وتنمية الذوق شيء آخر، ولا ينبغي لنا أن نتصور أنهما مجتمعان علي الدوام ولا متعارضان علي الدوام، وإذا جاز أنه من الممكن أن يجتمعا، فإن هذا الجواز ليس قاعدة، وإن كان قاعدة فليس بمثابة القاعدة علي وجه العموم، كما أنه في ظني قد يكون مستحيل الحدوث باطراد. هذا والله ورسوله أعلم.