الرئيسية / المكتبة الصحفية / كتاب للدكتور عبد المجيد دياب عن أبو العلاء المعرى

كتاب للدكتور عبد المجيد دياب عن أبو العلاء المعرى

نشر هذا المقال  في «القبس» الكويتية 29 يناير 1987 تحت عنوان: «أبو العلاء المعرى.. هل هو مفتري عليه؟ رؤية جديدة لفكر الشاعر الفيلسوف تنفي تهما علقت باسمه طويلا». أما الكتاب فصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب .

في القاهرة صدر مؤخرا كتاب «أبو العلاء المعرى.. الزاهد المفتري عليه» للدكتور عبدالمجيد دياب.. الجديد في هذا الكتاب يتمثل في إعادة قراءة سيرة حياة  أبي العلاء المعري وأدبه علي ضوء من أخلاقه قبل معتقداته، وبخاصة أن هذه المعتقدات قد عانت وتعرضت لتصويرات عديدة لم تخل من افتراء بعض الناس، سواء حدثت هذه التصويرات أو الافتراءات بالإضافة أو التبديل أو التحوير وتحميل الكلمات ما لا تحتمل، علي حين أن المعطيات المتاحة لنا من حياة هذا الرجل كفيلة بأن تضع أو تبلور له صورة مختلفة تماماً عن هذه الصورة الشائعة، وهذا هو جوهر النظرة الجديدة التي يضيف من خلالها الدكتور دياب هذا الكتاب  إلي المكتبة العربية.

وفي حقيقة الأمر فإن الدكتور عبدالمجيد دياب قد نجح في أن يجذبنا إلي صفه بما بذل من جهد واضح وتحليل منطقي في هذه الدراسة، ونحن نري عباراته واضحة الدلالة قاطعة في التأكيد علي وجهة النظر التي يتبني الدعوة إليها فيما يتعلق بحياة وتاريخ هذا الشاعر العبقرى، ولنقرأ قوله:

«لم يحدثنا التاريخ أن أبا العلاء المعري لوث يده أولسانه باقتراف منكر، ولا دنس ذيله بارتكاب فسوق أو فجر، بل كان يترك كثيرا من الحلال خشية الوقوع في الحرام، ويربأ بنفسه عن كثير من الملاذ المباحة زهداً فيها واحتقارا لشأنها.. وأغرب من هذا كله أنك لا تجد في كلامه ـ علي كثرته ـ لفظا بذيئا، ولا لغطا يدل علي شىء من أعضاء جسم الإنسان أو الحيوان التي يهجن ذكرها، ولم ينقل لنا التاريخ أن أبا العلاء المعري كذب في شىء مطلقا».

علي هذا النحو نجد أنفسنا وكأننا أمام نموذج مختلف من رجل الأدب والفكر عن ذلك النموذج الشائع الذي صُور أبو العلاء مثلا له، وهكذا يؤكد لنا مؤلف هذا الكتاب أن أبا العلاء لم يكن ذلك الرجل الذي يضطره جهد الفن والفكر إلي الترخيص لنفسه بالاستمتاع بما يعينه علي هذا التفكير أو بما يظن أنه قد يكون معينا له علي الفكر، فضلاً عن أن يكون بمثابة المفكر الذي استحل لنفسه اعتناق معتقدات يقوده إليها عقله ظانا أن من حقه اعتناق ما يشاء، بل إننا نكاد نلمح من خلال هذه الدراسة صورة أبي العلاء المعري وقد نجا من أن تضطره مكانة المفكر أو الشاعر  إلي أي قدر من استمتاع بما هو خارج دائرة الحلال المؤكد، أي الذي لا شبهة فيه علي الإطلاق. وكأنما  كان أبو العلاء صاحب مبدأ لزوم ما لا يلزم في أخلاقه قبل شعره، ويبدو لنا من أدلة الدكتور دياب وشواهده أن أبا العلاء كان بمثابة نموذج أخلاقي متين، وهي حقيقة غابت في ظل الحديث المكرر والمتداول عن غرائب معتقدات شعر شاعر عبقرى.

بل إن الدكتور دياب يأخذ بيدنا ليدلنا علي أنه قبل مئات السنين كان أبو العلاء المعري رائداً من رواد الرفق بالحيوان:

« فهو يرفق بالحيوان ويرحمه، فلا يأكل من لحمه، لأنه لا يصل إلي ذلك إلا بذبحه وفي الذبح إيلام لحيوان يحس كما يحس الإنسان بالألم، ويحرص علي الحياة كما يحرص  الإنسان عليها، ويتوقي من الأذي كما يتوقي الإنسان».

وربما كان هذا التحري الأخلاقي بمثابة مدخل جيد لتفسير دراسة شطحات أبي العلاء في فكره من وجهة نظر صاحب هذه الدراسة، فرحمته بالمخلوقات تنصرف ـ بطريقة منطقية ـ إلي ضعافها، ثم هو يتطرق من خلال هذا المنطق نفسه إلي الاعتقاد بأن عدم النسل يقي أبناءه من المصائب التي يسببها الوجود في حد ذاته، وهو ما عبر عنه في صراحة شديدة في قوله المشهور:

وإذا أردتم للبنين كرامة        فالحزم أجمع تركهم في الأظهر

والدكتور عبدالمجيد دياب يثبت هذه الفكرة في كتابه بكل وضوح ويبدو مقتنعاً تمام الاقتناع بأنها كانت متمكنة تمام التمكن من عقلية أبي العلاء وشخصيته، ولكنه ـ وهذا موضع تساؤل ـ في موضع  آخر من كتابه الذي بين  أيدينا ينقل لنا عن الدكتور محمد سليم الجندي (وهو الذي ينتمي إلي موطن أبي العلاء) قوله إنه لم يجد بيت أبي العلاء الشهير:

هذا جـناه أبي عـلى   ومـــا جنــيت عـــــلي أحــــد

علي قبره، وكأن مثل هذا القول يمكن أن يقوم أو ينهض دليلاً قوياً علي إنكار نسبة البيت إلي أبي العلاء(!!) وهو ما يمكن التوصل إليه بوسائل الأكاديميين الأخري حتي من غير إنكار وجود هذا البيت علي القبر أو حتي في مأثورات أبي العلاء، فمن الواضح أن فلسفة أبي العلاء كانت ولا تزال تتقبل وتتسع لفكرة هذا البيت الشعرى.

لم يكن أبو العلاء المعري أديبا صادق الحس فحسب، ولكنه كان كذلك من علماء اللغة، وقد يكون أدبه وإنتاجه كله تعبيراً عبقرياً عن تمكنه من اللغة وجزئياتها جميعا، وللدكتور محمد كامل حسين بحث ألقاه في مجمع اللغة العربية يفيض بالحديث عن قدرات أبي العلاء في هذا الميدان، وكيف أنه دخل الدنيا من باب اللغة، وهو معني بديع أضاف إليه الدكتور عبدالمجيد دياب بروح العالم الأكاديمي حين كشف لنا في دراسته التي بين أيدينا عن خصلتين مهمتين في إنتاج أبي العلاء الأدبى، فهو متمكن من اللغة مستغل لها في إنتاجه بحيث لا تحتاج إلي كبير عناء لتجليتها بل يصل الدكتور دياب في إيضاح هذه الفكرة إلي وصف هذا التمكن من العلم اللغوي واستغلاله، وذلك من خلال تعليقه علي شرح أبي العلاء للمتنبي حيث يقول:

«… [وهذه القدرة] تسترعي كل مَنْ نظر في شرح المعري للمتنبى، فلقد صبغ شرحه بصبغة لغوية قوية حتي إنه لينسي في بعض الأحيان تفسير البيت لما هو مأخوذ به من اللغة».

أما الصفة الثانية التي عني الدكتور دياب بالكشف عنها فهي كثرة روايات أبي العلاء فهو في رأيه وعلي حد تعبيره: «هو أكثر الشراح ذكرا للروايات وأكثرهم كذلك احتيالا علي وجه آخر في تخريج المعنى».

هل لنا أن نعود ـ الآن ـ إلي الصفحة الأولي من تقديم هذا الكتاب لنقرأ لمؤلفه الدكتور دياب ما وصف به المعري علي وجه مجمل حين قدر له أن يكتب المقدمة مضمناً لها ما تيقنت وتشبعت به نفسه في شأن أبي العلاء وإنتاجه إذ يقول:

«فقد أحاط بمادة اللغة وصرفها في جميع شئونه وأغراضه الفنية، واستعملها أحسن استعمال فيما أملي من كتبه العلمية والأدبية والدينية شعرا ونثرا».

ربما يجدر بنا أن ننتقل ـ بعد هذا كله ـ إلي تساؤل منطقي مهم: هل كان أبو العلاء منذ يومه الأول علي الحال التي اشتهر بها من زهد الدنيا؟

يجيبنا الدكتور عبدالمجيد دياب علي هذا التساؤل بقوله:

«ولعلك تري أن شاعرنا نشأ كغيره راغبا في الحياة، مجاريا سواه في موكبها العام، لا يختلف كثيرا عن معاصريه، ولكنه لم يكد يبلغ الخامسة والثلاثين حتي نري في شعره مرارة غير عادية، ثم نراه في السابعة والثلاثين قد اتخذ لنفسه طريقا جديدا في الحياة، فأصبح متقشفا ظاهر النقمة لا ثقة له بالإنسان».

هكذا نجح الدكتور دياب في أن يبلور تطور مراحل الإحساس النفسي في شخصية أبي العلاء، وأن يذكر ـ علي وجه التقريب أو التحديد ـ الفترات العمرية التي حدثت فيها هذه التحولات، ولهذا فإن أبرز ما نفتقده في كتاب الدكتور دياب أنه لم يتعمق في دراسة هذه التحولات النفسية في شخصية أبي العلاء، ونحن لا نستطيع أن ننكر أن المؤلف قد جعل كل همه وركز كل جهده في أن يضع الحقيقة الأساسية المتعلقة بزهد الرجل وتدينه وأخلاقه العالية في المحل الأول من مجال رؤية القارئ، ولكن الذي لا شك فيه أن هذا المؤلف الجاد قد بخل علينا بأن يفيد من قدرته علي الإلمام بتفصيلات حياة الرجل وشعره في أن يتناول الجوانب النفسية من شخصية أبي العلاء بتحليل أكثر، وبخاصة بعدما توافرت له بفضل دراسته هذه المعرفة الموسعة والحقيقية والدقيقة بكثير من تفصيلات حياة أبي العلاء وإنتاجه، بل والمعرفة الواسعة أيضاً بدوافع شانئيه لإضفاء ما أضفوا عليه من صفات، كل هذا بالإضافة إلي ما أصبح لدينا جميعا اليوم من قدرة علي فهم كثير من أمور النفس وتفاعلاتها، وبخاصة إذا ما توافرت بين أيدينا أدلة واضحة من نصوص عبقرية كفيلة بالإيحاء بالمعني الذي أراده صاحب التعبير أو أصحابه.

وليس من شك أن الإنجاز الذي لا تزال المكتبة العربية تنتظره من الدكتور عبدالمجيد دياب ومَنْ هم في طبقته من الأكاديميين هو أن يلقوا الأضواء علي أمثال أبي العلاء من حيث هو أو من حيث هم.. فلا شك أن هذا أهم بكثير من أن نشغل القارئ بما بذل الباحث في الدراسة من جهد في المقارنة بين (عدد كراريس) كل مؤلف من مؤلفات الرجل وهو الجهد الذي استغرق صفحات كثيرة من الكتاب بينما القارئ لا يزال متعطشاً إلي كثير من الأضواء الكاشفة للمراحل المجهولة من حياة هذا الشاعر العبقرى.

كأني أريد أن أقول إنه لا يزال علي الدكتور دياب واجب كبير في تقديم الحقائق الكفيلة بحماية صورة أبي العلاء من قول مرسل كقول جبران خليل جبران في وصف أبي العلاء:

«نظر إلي الحياة بعينه المعنوية فرأي الخرافات فتوهمها ديناً، وأبصر الموت فظنه فناء، وحدق بالفضاء فتخيله ربا، فانتصب بين أشباح أفكاره يجدف علي اسم الحياة في جيل مستسلم إلي مشيئة الأيام والليالي استسلام العناصر غير العاقلة إلي قوة الاستمرار».

وقد كان  مثل هذا الكلام الجميل الساحر الذي ألقاه جبران علي مسامع الناس كفيلا لو شاع وذاع وانتشر بإفساد كل ما توصل الدكتور دياب إلي إثباته بما بذله جهده في الحديث عن عقيدة أبي العلاء وأخلاقه علي مدي خمس وعشرين صفحة (ص 130 ـ 155) بينما لا يزال الخطر ماثلاً في الانسياق وراء كلمات جبران الساحرة التي ابتعدت عن الحقيقة والتي لم تصدر عن هذا الشاعر العظيم إلا لافتقاده المعلومات الكافية بأن تصور له بقية الصورة في حياة سلفه الشاعر العبقرى، فإذا بجبران نفسه ينظر إلي أبي العلاء بروح النظرة «غير المكتملة» التي أجاد هو وصفها فيما ظن أنه روح نظرة أبي العلاء المعري إلي الخرافات وإلي الموت وإلي الفضاء، وهكذا جاءت كلمات جبران أقرب ما تكون إلي الفن الجميل، وأبعد ما تكون عن الحقيقة التي جلاها لنا الدكتور دياب.

كذلك فقد كان بإمكان الدكتور عبد المجيد دياب ـ وفي وسعه ـ أن يتناول بقدر من الدراسة طبيعة العلاقة التي تربط فكر طه حسين بفكر أبو العلاء، فقد كان طه حسين علي ما يعلم الناس من أوائل دارسي الأدب في العصر الحديث، كما كان من أوائلهم ارتباطا بدراسة أبي العلاء المعرى، وهكذا فإن حدود وطبيعة التأثر (أو التشابه) بين طبيعة حياة وفلسفة رجلين تشابهت ظروفهما البصرية إلي حد كبير لا تزال بحاجة إلي مزيد من الدرس الذي لا يقدر عليه إلا أمثال مؤلف هذا الكتاب، الذي يرجع إليه الفضل مثلا في لفت أنظارنا إلي أن أبا العلاء كان سباقا إلي فكرة طريفة كفكرة نعمة  فقدان البصر من حيث إنه تكفيه «رؤية الثقلاء البغضاء».

وقبل هذا كله فإن علاقة أبي العلاء بالمتنبي تأتي علي رأس الموضوعات التي لا تزال بحاجة إلي كثير من التأمل والدرس، فأبو العلاء كما نعرف شارح من أبرز شراح ديوان المتنبى، ولكن إلي أي حد وصل اقتناع المعري بالمتنبى، وإلي أي حد وصل تقليده له، وإلي أي حد وصلت معارضته له في الفكر أو في الشعر؟.

 وما هو انطباع أبي العلاء عن فلسفة شاعر العربية الأكبر؟ كل هذا مجال رحب لآراء بديعة واستشهادات جميلة تستند إليها الآراء التي سوف يرجحها عالم فاضل كمؤلف هذا الكتاب!

ومجمل القول أننا لا نزال بحاجة إلي أن نتأمل في حياة وشخصية هذا الرجل الذي «عاش تسعا وأربعين سنة في محبسه بمعرة النعمان لم يغادره في غير أوقات الدرس».

ولسنا في حاجة إلي القول مع الدكتور دياب بأن أبا العلاء «كان ولا يزال شخصية فريدة، ليس بالرجل الذي تجاوز عقله الحدود في دينه ولا أثر فنه في خلقه، إنما هو رجل وجد في عصر سيطرت فيه الخرافات فتحداها، ولكن الخرافات مع هذا لا تزال تتحداه وتفرض نفسها عليه وعلي تاريخه المدون عند الناس، بيد أن الأمل يظل معقوداً علي الدراسة العلمية الكفيلة بتبيين وجه الحقيقة في شخصية وحياة شاعر وعالم عاش «عيشة الحكماء المتورعين عن الدنيا ولم يكن في ذلك ـ علي ما يقول الدكتور دياب ـ كأبي العتاهية وأضرابه من الحريصين علي المال المقبلين علي حكام الدنيا، بل قنع باليسير اعتقادا بحكمة القناعة وأحسن بما كان يفضل عن اعتقاده بشرف الإحسان».

وبالإضافة إلي هذا كله يجدر بنا أن نشير إلي فضل هذا الكتاب في تعريفنا بمؤلفات أبي العلاء تعريفاً دقيقاً من خلال نبذات سريعة جدا لم يكن من الممكن بالطبع إطالتها أكثر من هذا في متن هذا الكتاب، أما أطرف ما في هذه الجزئية فهو ما يذكره لنا الدكتور دياب من أن أبا العلاء كان يكتب الكتب أحيانا بالطلب، فهذا للأمير، وهذا لتلميذه، وهذا لابن مساعده كأنما كان هذا علي نحو ما نعرف اليوم من تأليف الملخصات التي يتداولها الطلاب اليوم في الدروس الخصوصية!! ولكن!! شتان ما بين دروس ودروس.. فدروس أبي العلاء ستبقي أبد الدهر دليلا علي العبقرية والقدرة والإحكام ونقاء العقل وحدة الذكاء.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com