هذا سفر قيم لخص فيه مؤلفه تجربته الثرية في مجال تخصصه الدقيق في صناعة المعاجم ودراستها وتاريخها، وهو يقدم هذه الدراسة القيمة لكي تستقر في ضميرنا وفي المكتبة العربية علي النحو الذي ينبغي لمثلها أن يستقر: مبعث هداية ومرجع صواب فيما ينشب وينشأ حول موضوعها من أفكار.
ومن المهم أن نذكر أن مؤلف هذه الدراسة قد «صنع» بالفعل معجما عربيا أساسيا صدر عن دار لاروس في عام 1989، وإن لم يكن قد لقي ما يستحق من شهرة وذيوع صيت، كما شارك الرجل في عدد آخر من المشروعات والمعاجم، هذا فضلا عن دراسته للماجستير التي كان موضوعها «ديوان الأدب للفارابى»، وبالإضافة إلي هذا كله فقد قام الدكتور أحمد مختار عمر بتدريس مقرر جامعي عن المعاجم العربية، وآخر عن البحث اللغوي في عدد من الجامعات العربية، لهذا كله فقد كان تأليف مثل هذا الكتاب واجبا علي مؤلفه بقدر ما هو حق له.
من المهم أن نذكر أيضا أن المكتبة العربية تحوي دراسات قليلة عن المعاجم العربية الموجودة بالفعل، سواء منها ما نشر كثيرا أو ما قل نشره، ولكن الدراسة التي بين أيدينا تتميز باستشرافها للمستقبل، وبتناولها عناصر الصناعة حين يتاح في المستقبل لمثل هذه الوظيفة أن تكون إحدي المهام المنوطة بالمشتغلين بالعمل اللغوي والعمل الثقافى، ولا أظن أن مثل هذا الوقت الكفيل بازدهار هذه المهمة سيتأخر عن سنوات قليلة قادمة.
ويهمني أن أشير في عجالة سريعة إلي أهم ما يتضمنه هذا السفر القيم. ففي الفصل الأول قدم الدكتور أحمد مختار عمر عدة أبحاث تمهيدية باللغات الأخرى، كما فرّق بين المعجم والقاموس، ثم تناول مسيرة المعجم في القديم والحديث وانحاز سيادته إلي نجاح القديم في مقابل تخلف الحديث، كما قدم دراسة مهمة عن الاهتمام بالعمل المعجمي في العصر الحديث، وتزايد هذا الاهتمام في القرن العشرين ومظاهر هذا الاهتمام.
وناقش المؤلف فكرة الاعتماد علي المادة الحية وعلي قواعد البيانات، كما قدم نبذات شائعة عن الدوريات المعجمية ومعاجم المعاجم والندوات والمؤتمرات ومراكز البحوث، وتنافس دور النشر الكبري في هذا المجال.
ولم يخل الأمر من تناوله بإسهاب لبعض القضايا المتخصصة كإهمال علم اللغة التركيبي لصناعة المعجم، وكنظرية الحقول الدلالية وأثرها في الاهتمام بالمعجم، وكمناقشته لعلاقة كل من علم اللغة النظري وعلم اللغة التطبيقي بالمعجم وبصناعته.
أما الفصل الثاني فقد خصصه المؤلف للتعريف بأنواع المعاجم المختلفة وقد استعان بالجداول علي نحو جيد، وقد تناول بالطبع معاجم الألفاظ ومعاجم المعاني وطرق الترتيب المعجمي وأنواع الترتيب في كل من اللغة العربية واللغة الإنجليزية، كما استعرض الأنواع العامة والخاصة من المعاجم ومعاجم المراحل السنية المختلفة (الأطفال ـ الصغار ـ قبل الجامعي ـ الجامعي ـ الكبار)، وتعرض للمعاجم من حيث حجمها (الكبير ـ الوسيط ـ الوجيز) ومعاجم الجيب، فضلاً عن المعاجم التاريخية والمعيارية والوصفية.. إلخ.
ولم يغفل المؤلف في هذا الفصل الحديث عن شكل المعجم وإخراجه.
أما الفصل الثالث وهو جوهر الكتاب تقريبا، فقد جعل المؤلف عنوانه «الخطوات الإجرائية والتنفيذية لعمل معجم»، وقد تناول فيه بتفصيل جميل الخطوات والإجراءات التي تكفل النجاح في مثل هذه المهمة الأصلية.
وقد أبان المؤلف في هذا الفصل عن خبرة واسعة بموضوع المعجم، وعن عقلية جامعية مرموقة قادرة علي التخطيط الجيد والتنظيم المثمر، كما أبان عن خبرة عميقة بما أتيح له دراسته من تجارب الأمم المتقدمة في هذا المجال.
وفي الفصل الرابع قدم المؤلف دراسة أكاديمية متعمقة عن وظائف المعجم وأولوياتها، وأهمية المعني في الاستطلاع المعجمي والأمثلة التوضيحية وبيان الهجاء والشرح بذكر السياق والتنوعات الشكلية للكلمة.. إلخ هذه السلسلة من القضايا المعجمية التي يصادفها واضعو المعاجم ومستخدموها علي حد سواء.
وفي الفصل الخامس والأخير قدم الدكتور أحمد مختار عمر دراسة وافية عن آرائه فيما يتعلق بمستقبل المعجم العربي في عصر شهد تطورات سريعة في الحاسبات الإلكترونية والكوادر البشرية والأجهزة القادرة علي الفحص والتخزين وصنع المعاجم.