الرئيسية / المكتبة الصحفية / كتاب المهندس حافظ أحمد أمين عن والده كمفكر سبق عصره

كتاب المهندس حافظ أحمد أمين عن والده كمفكر سبق عصره

عن كتاب «أحمد أمين مفكر سبق عصره» للمغفور له المرحوم المهندس حافظ أحمد أمين، وقد نشرته سلسلة «مكتبة الشباب» التي كانت تصدرها هيئة الثقافة الجماهيرية (وهي التي تطورت إلي هيئة قصور الثقافة).

(1)

هذا كتاب صغير الحجم ولكنه عظيم الفائدة، واضح الهدف، مركز العبارة، صافي الفكر، سهل التناول، مترابط الأفكار، رائع المعانى، جديد في تناوله، شيق في عرضه، فيه من الذكاء أكثر مما فيه من الأدب، وفيه من الأدب أكثر مما فيه من التجديد، وفيه من التجديد أكثر مما فيه من الحقائق، وفيه من الحقائق أكثر مما فيه من النصوص، وفيه من النصوص أكثر مما يحتمله كتاب صغير الحجم مثله.. ثم فيه بعد ذلك مما بين السطور وما وراء النصوص أكثر  مما قد يكون في أي كتاب آخر مشابه.

هذا كتاب كتبه ابن عن أبيه، فنجا من العاطفة، ونجا من الأنانية، نجا من ضيق الأفق، ومن دفء العلاقة، ومن روح التعصب، ثم هو بعد كل هذا ينجو من نفسه التي تسول لشخصه أن يلقي الضوء علي دوره، فإذا هو بفضل ثقته بهذه النفس ينتبه إلي أنها أكبر من مجرد دور تؤديه في قصة حياة رجل لم تكن علي أقل تقدير إلا حياة مباركة.

وهذا كتاب لا يمكن أن نقول عنه إنه نموذج لما ينبغي أن تكون عليه كتابة الابن عن أبيه، فليس من الممكن أن يتمتع كل ابن بهذه الخصال التي تمكنه من صياغة كتاب عن أبيه علي هذا النحو الطريف الممتاز، وليس في وسع كل أديب أن ينهج هذا المنهج، وليست كل حياة من حيوات شخصيات الدنيا علي هذا النحو الذي كانت عليه حياة أحمد أمين، إنما هي إمكانات وقدرات وخصائص في الابن وفي والده قبل ذلك وقد تجمعت علي هذا النحو، وتبلورت علي هذا النحو الذي يجده القارئ في كتاب سيظل يذكره كثيرا، وسوف يسعده أن يرجع إليه من حين إلي آخر، مع أنه ليس بالكتاب المرجع، ولكنه في الحقيقة كتاب ممتع من أية وجهة، مقنع بكل نظرة، قادر علي التربع علي قمة كتب التراجم بفضل مافيه  من مزايا وما ليس فيه من عيوب.

لم يشأ المهندس حافظ أمين أن يبدأ كتابه بمقدمة، ولا بفصل عن حياة والده، ولا عن إنجازاته، ولا عن مؤلفاته، ولا أي شىء من هذا القبيل، إنما هو يبدأ كتابه منذ العنوان فيقول إن أباه «مفكر سبق عصره»، ثم هو يضع لنا حياة الرجل وفلسفته وكتاباته تحت الأضواء، ويسلط عليها العدسات الكاشفة (أو الأضواء) إحدي عشرة مرة يستجلي في كل مرة من هذه المرات أو في كل فصل من هذه الفصول جانباً من جوانب شخصيته وفلسفته وإنجازاته ومدرسته، وهو في كل مرة يصدر عن ذكاء في التناول، وعبقرية في الفهم، وقوة في الملاحظة، ودقة في التحليل، وتعمق للظواهر، ثم يصوغ لنا هذا كله في أسلوب رشيق تدعمه النصوص التي هي من كتابات أحمد أمين أو كتابات معاصريه.. (وإن أخذ علي المؤلف أنه في بعض الأحيان لا يذكر مصدر هذه النصوص في الهامش علي النحو المتبع في الكتابات العلمية الموثقة الأسانيد).

(2)

يبدأ الأستاذ حافظ أمين هذه الفصول بفصل يقول عنوانه صراحة إن أحمد أمين كان امتدادا لمحمد عبده، علي حين كان طه حسين امتدادا للأفغانى.. ويأخذ حافظ أمين من كتابات والده دليلا علي فهم أحمد أمين ووعيه لهذه الفكرة وهو الذي يقول:

«يكاد يكون في كل جماعة نوعان من القادة: نوع طموح يريد القفز إلي الأمام، ولا يرضيه السير البطىء، ولا التفكير الهادئ، ونوع يري الخير في الهدوء، والسير في معالجة الأمور برفق، والإيمان بقانون السبب والمسبب، فإن أردت النتيجة فكوّن مقدماتها».

ويستطرد حافظ أمين إلي الواقع ليؤكد هذه الفكرة فيقول:

«ويلمع أصحاب المزاج الناري في فترات الحكم الاستبدادي وفي أثناء ثورة الشعوب علي حكامها، إذ يهيج هؤلاء  القادة الناس ضد المستبدين ويثيرون فيهم الحماسة للإصلاح، بينما يزدهر أصحاب العقول الهادئة في أوقات البناء البطىء، لهذا ظهرت أحسن أعمال أحمد أمين العلمية والأدبية خلال عقد الثلاثينيات من القرن العشرين، عقد البناء البطىء، عندما كتب سلسلة فجر الإسلام وضحاه، وعندما أسهم في إنشاء مجلة الثقافة، والجامعة الشعبية، وكان من أكبر المؤثرين في نشاط المجمع اللغوي وكلية الآداب، وكتب أحسن مقالاته للمجلات والإذاعة، ورأس اللجان واشترك في المجالس والمؤتمرات. كذلك كانت أحسن أعمال الشيخ محمد عبده ما كان يكتبه في «الوقائع» وعندما عمل مفتيا للديار المصرية وغيرها من الأعمال التي قام بها، بعد أن رجع إلي مصر من منفاه، وبعد أن خمدت الثورة العرابية».

«بينما كانت أحسن أعمال طه حسين ما قام بها في السنوات التي سبقت ثورة 1919 وثورة 1952، وكانت أشد الفترات انتعاشا بالنسبة للأفغاني فترة التمهيد للثورة العرابية».

وينتهي حافظ أمين بعد هذا العرض إلي أن أحمد أمين كان راهبا في محراب العلم، محبا للحق والبناء، كارها للسياسة والصخب، زعيما من زعماء الإصلاح.

(3)

ثم يطرح الأستاذ حافظ أمين سؤالا مهما يجعله عنوان الفصل الثاني فيقول: «هل كان أحمد أمين يميل إلي الاعتزال؟» وينصف المؤلف نفسه وقارئه وكتابه حين يقدم لهذا الفصل بنبذات عن الاعتزال، ونشأته ورجاله، والظروف التي مرت بها أفكار المعتزلة والفروق بين كل من المعتزلة والخوارج و المرجئة، كل ذلك في عبارة سريعة وسهلة ودسمة في آن واحد، ثم يخلص من هذا إلي أن يلفت نظرنا إلي أن أحمد أمين كان مقدرا للفكر الاعتزالي ومتعاطفا معه:

«والمتتبع لكتابات أحمد أمين حول المذاهب والعقائد التي ظهرت بعد عهد الخلفاء الراشدين، يلمس تعاطفه مع مذهب «الاعتزال»، وإعجابه برجاله (الجاحظ والنظام والعلاف والتوحيدي وبشر بن المعتمر وغيرهم)، فكلما عقد مقارنة بينهم وبين أصحاب المذاهب الأخري أظهر ما يتمتع به المعتزلة من عقلية علمية غير متحيزة، وشجاعة في إبداء الرأي وإصدار الأحكام».

وهنا يؤيد حافظ أمين آراءه بفقرة من كتابات والده يقول فيها:

«كانت فئة المعتزلة أجرأ الفئات علي تحليل أعمال الصحابة، وعلي نقدهم وإصدار الحكم عليهم. أما المرجئة فقد تحاشت الحكم بتاتا ـ كما يقتضيه مذهبهم ـ والخوارج  ـ وإن أصدروا أحكاما ـ فقد اقتصرت أحكامهم علي مسائل محدودة، كالخلاف بين علي ومعاوية».

ويعود حافظ أمين ليقول:

«ولم يكن إعجاب أحمد أمين بالمعتزلة مقصورا علي موقفهم من الحروب التي كانت بين علي ومعاوية، وإنما نلمس إعجابه بهم أيضا في موقفهم من كثير من المسائل العقلية، كترجيحهم فكرة الاختيار، وبقدرة العقل علي معرفة الخير والشر ولو لم يصلهم شرع في ذلك».

ويخلص بنا المؤلف من هذا إلي أن يدعو قارئه إلي موافقته علي رأيه القائل بتشابه فكر أحمد أمين مع فكر المعتزلة ويستدل علي ذلك بأن طه حسين وصفه في أحد أحاديثه الصحفية بأنه يكتب كتاباته كما يحلل الكيماوي المواد في معمله، أو كما يحل المهندس مسألة هندسية.

ولهذا فقد كان أحمد أمين علي نحو ما يقرره ابنه في نهاية هذا الفصل بجملة يبدؤها بأداة الإثبات:« نعم، لقد كان أحمد أمين يميل حقا إلي الاعتزال، «الاعتزال» كمذهب من المذاهب التي ظهرت في صدر الإسلام، و«الاعتزال» كموقف من مواقف العلماء الذين لا ينغمسون في معارك.. المنتصر فيها منهزم».

(4)

ويجد القارئ بعد هذا فصلا شيقا عن أحمد أمين بين العمامة والطربوش، وهو موقف قد يندهش له القارئ اليوم الذي لا يعلم أن هذه القضية قد شغلت بال أهل الثقافة والفكر لفترة طويلة.. لهذا يعمد حافظ أمين إلي إعطاء فكرة وافية عن القضية، ثم فكرة خاصة عن موقف أحمد أمين الذي كان يتعمم ويتطربش في اليوم الواحد أكثر من مرة، وهذه هي القصة علي نحو ما يرويها أحمد أمين نفسه:

«كان أبوه ـ أي والد أحمد أمين ـ مترددا بين توجيهه إلي الدراسة الدينية أو توجيهه إلي المدارس المدنية، وكان كثيرا ما يستشير مَنْ يتوسم فيهم حسن الرأى، فيشير هذا بالأزهر والاتجاه الدينى، وذلك بالمدرسة الابتدائية ثم الثانوية، فلما لم ينقذه أصحاب الرأي من حيرته، أمسك العصا من وسطها، فكان يرسل ابنه أحمد إلي الأزهر لحفظ القرآن والمتون في الصباح الباكر والمساء، وإلي مدرسة أم عباس «بنبا قادن» بين الوقتين، فكان أحمد أمين يستبدل ملابسه في اليوم الواحد أكثر من مرة، وكان يقول: «كلما لبست البدلة والطربوش أحسست علوا في قدرى، ورفعة في منزلتي، إذ كنت أخالط في مدرسة أم عباس تلاميذ من الطبقة الوسطي أو العليا، لا نسبة بينهم في نظافتهم وجمال شكلهم وبين زملائي في الأزهر».

«وقد كان هذا الذي فعله أبوه مصدرا من أكبر مصادر التعب والشقاء لدي الصبي [أحمد أمين]، ولكن جزاه الله خيرا علي تعبه المضني في التفكير في مستقبلى، وغفر الله له ما أرهقني به في دراستى» .

«ولكن المصيبة الكبري كانت حين يراه مَنْ معه في المدرسة وهو يلبس القباء والجبة والعمة والمركوب، فقد كان يظن أنه مُسخ مسخا، وتبدي بعد حضارة، كان كالقرع قطع من شجرته، أو الشاة عزلت عن قطيعها، أو الغريب في بلد غير بلدته، وتضرع إلي أبيه أن يعفيه من العمامة فلم يقبل».

هكذا تبدأ ملامح هذه الازدواجية أو الثنائية في التبلور أمام أعيننا وبخاصة أنها قد أثرت في تكوين أحمد أمين وفي مطلع حياته تأثيرا واضحا، فمع أنه قد صادق مجموعة خريجي المعلمين العليا، وانضم معهم إلي «نادي الجزيرة» (معقل الأرستقراطية المصرية بعد ذلك)،فإنه لم ينج مما يعتبره ابنه آثاراً سيئة للعمامة، وهو يقول في هذا المعنى:

«وما تعرض له أحمد أمين من جراء الجبة والعمامة في صباه وشبابه، تكرر له عندما قرر أن يتزوج، بعد أن بلغ التاسعة والعشرين من عمره، وبلغ مرتبه ثلاثة عشر جنيها (حوالي ألف جنيه الآن)، فقد وقفت العمامة حجر عثرة في الطريق».

وهنا يستشهد الابن بما رواه الأب نفسه حيث يقول:

«فكم تقدمت إلي بيوت رضوا عن شبابي ورضوا عن شهادتي ورضوا عن مرتبى»، ولكن لم يرضوا عن عمامتى، فذو العمامة في نظرهم رجل متدين، والتدين في نظرهم يوحي بالتزمت وقلة التمدن، والالتصاق بالرجعية، والحرص علي المال، ونحو ذلك من معان منفرة، والفتاة يسرها الشاب المتمدن اللبق، المساير للدنيا، اللاهي الضاحك، فكم قيل لي أن ليس عندهم مكان لعمة، ورضي بي قوم أولا وأحبوا أن يرونى، فأحببت أني أريهم أني متمدن وذهبت إليهم أحمل كتابا إنجليزيا، وجلست إليهم أتحدث حديثا عصريا آخر طراز، وحشرت في كلامي بعض كلمات إنجليزية فاستغربوا لذلك، وفهمت أنهم أعجبوا بي ورضوا  عنى، ولكن بلغني أن الفتاة أطلت علي من الشباك وأنا خارج فرأت العمامة والجبة والقفطان فرعبت ورفضت رفضا باتا أن تتزوجني رغم إلحاح أهلها».

ولا يبخل علينا حافظ أحمد أمين بالاستطراد إلي قصة زواج والده:

«وأخيرا دله مدرس معه في مدرسة القضاء علي بيت عريق يضم فتاة يتيمة، كان أبوها مستشارا كبيرا، مات هو وزوجته ولم يتجاوزا سن الأربعين، وبعد الإجراءات التي كانت متبعة في ذلك الوقت تم عقد الزواج يوم 13 أبريل عام 1916».

ونحن نعرف مما يرويه حافظ أن أباه قد ظل يرتدي العمامة إلي أن أصبح مدرسا في الجامعة المصرية.. وبعد عام من العمل بالتدريس في الجامعة قابل يوما صديقه الحميم الدكتور عبدالرزاق السنهوري فسأله: «لماذا تصر علي لبس العمامة؟ العمامة رمز لرجل الدين ولست الآن رجل دين.. ثم إن لبس العمامة في وسط كله برانيط وطرابيش يجعلك غريبا في بيتك».. وفكر أحمد أمين.. وعاد إلي الزي الافرنجي «بعد سبع وعشرين سنة من خلعه».. يقصد الإشارة إلي ارتدائه الزي الافرنجي حين كان تلميذا في مدرسة أم عباس.

ربما يبدو هذا الفصل للقارئ من حيث قيمته الفكرية أقل من الفصلين السابقين عليه، ولكني لا أعتقد في مثل هذا الرأي لأن ملابسنا تؤثر علي شخصياتنا وعلي فكرنا وتوجهاتنا من حيث لا ندري وبأكثر مما نتوقع، وبخاصة إذا ما ارتبطت هذه الملابس بأنماط من الحياة والفكر والمجتمعات تدل عليها، ورأيي أن حافظ أمين الذي استوعب حياة والده علي خير ما يكون الاستيعاب، كان هو الذي سيتولي لوم نفسه مرة بعد أخري إذا لم يكتب هذا الفصل المهم جدا.

وقد كتبت فصلا عن الصراع بين العمامة والطربوش في الصحافة المصرية كفصل كنت أنوي أن يضمه كتابي «من بين سطور حياتنا الأدبية» في طبعته الأولي التي صدرت عام أربعة وثمانين (1984)، وكنت قد أجلت نشره مع بعض من فصول ذلك الكتاب إلي حين آخر، فلما أعدت قراءة كتاب «حياتى» لأحمد أمين، ازداد اقتناعي بل وإدراكي بمدي الآثار العميقة التي ترتبط بمثل هذا المظهر رغم أننا لم نعد نواجه مثل هذه المشكلة بهذا القدر من الحدة في حياتنا المعاصرة، ووجدت أن من المهم أن نتناول القضية بأمثلة حية من حياة أعلامنا  وأشهد أن حافظ أمين قد نجح في تصوير الأمر علي النحو الذي يجعلنا نزداد إحساسا بأهمية هذا المظهر في صياغة حياة ومستقبل الناس.

هل يكون في هذا إنذار لنا أن نتوجه إلي العقل في مسألة الأزياء التي صارت اليوم أكثر ما تكون تناقضا في أمة واحدة، بل في العائلة الواحدة، أم أنه الاضطراب الذي يرهص بالاستقرار، وهو الاستقرار الذي لابد منه للتقدم الذي تنشده كل طائفة منا اليوم علي اختلاف معتقداتها وأزيائها؟؟

(5)

بعد هذه الفصول الثلاثة نقرأ فصلا عنوانه «أحمد أمين يقف مع الشعب دون غوغائية» وفي هذا الفصل فقرة مهمة جدا تبين لنا بوضوح وفي صدق وصراحة أن المؤلف يعتقد تماما (نتيجة معايشة وقرب) في أن بعض زعماء الفكر وقادته لم يكونوا في أحسن حالاتهم النفسية بعد قيام ثورة 1952، وها هو حافظ أمين يقول في صراحة شديدة:

«ورغم كراهية أحمد أمين الشديدة لظلم الحكام واستغلالهم، ورغم إيمانه الشديد بحق البسطاء في أن يحيوا حياة حرة كريمة، لم نلمس منه فرحا شديدا بعد ثورة يوليو 1952 ولا حماسا كبيرا لتأييدها، وقد تصورنا ـ في بادئ الأمر ـ أن عدم حماسه هذا راجع إلي إحساسه وقتئذ بمرضه وشيخوخته، ولكننا عرفنا السبب بعد أيام قليلة، عندما نشر مقالين يعبر فيهما عن مخاوفه من مظاهر الغوغائية التي كان يراها في المظاهرات، والسوقية التي كان يسمعها في الخطب والأحاديث، كما يتنبأ فيهما بأن نجاح مثل هذه الحركات سرعان ما يكمم أفواه المعارضين، ولا يسمح إلا بظهور الطبالين والزمارين».

علي هذا النحو يصور حافظ أمين حقيقة موقف والده المبكر من الثورة، وهو لا يتوقف عند هذا المعني كثيراً بعدما أبان عنه ولكنه سرعان ما يلتقط الخيط بذكاء ليحدثنا عن آراء أحمد أمين في اللغة، وبالتحديد لغة الكتابة فيقول:

«وكما كانت الفجوة الواسعة بين الفقراء والأغنياء من أهم ما يؤرق أحمد أمين، كذلك كانت تؤرقه بشدة ـ ويراها من أهم العوامل التي تقف وراء تأخر الأمة العربية ـ الفجوة الواسعة بين اللغة الفصحي واللغة العامية، فصعوبة الفصحي ـ ولاسيما من ناحية الإعراب ـ تحول دون انتشارها في جمهور الشعب».

ويقتبس حافظ أمين من كتابات والده قوله:

«ومن أجل هذا اقترحُت في بعض مقالات نشرتها، وفي محاضرة في المجمع ـ أي المجمع اللغوي ـ أن نبحث عن وسيلة للتقريب، وبهذا تكسب اللغة العامية والفصحي معا، واللغة الفصحي الآن لا تتغذي كثيرا من الاستعمال اليومي للكلمات، وهذا الاستعمال اليومي في الشارع وفي البيت وفي المعاملات من طبيعته أن يكسب اللغة حياة أكثر مما تكسبها  الحياة بين الدفاتر وفي الأوساط الخاصة، كذلك فإن التقريب بين اللغتين يكسب اللغة العامية رقيا ورواجا، ويمكننا من نشر الثقافة والتعليم لجمهور الناس في سرعة، ومن تقديم غذاء أدبي لقوم لا يزالون محرومين إلي اليوم، وهو إجرام كبير كإجرام حبس البرىء وتجويع الفقير».

ثم يمضي الأستاذ حافظ أمين علي نفس الخط ليؤكد ما بدأ به في هذا الفصل وليدلنا علي أن أحمد أمين المؤرخ كان هو نفسه أحمد أمين عضو مجمع الخالدين، وصاحب الآراء السياسية في الثورة الجديدة، كان هو ذلك الرجل الذي يقف مع الشعب دون غوغائية، وهو يقول في هذا المعنى:

«وكان أحمد أمين عندما يترجم للزعماء والأدباء والفنانين، يختار أخلصهم إلي الشعب وأقربهم إلي طبيعته، فهو إذا كتب عن الثورة العرابية اختار الترجمة للنديم لا للباروى، وإذا ترجم للشعراء اختار حافظ لا شوقى، وقد فسر هذا في مقدمة ترجمته لعبدالله النديم «لئن كان يستحق الإعجاب مَنْ نبغ والظروف له مواتية، فأولي بالإعجاب مَنْ ينبغ والظروف له معاكسة، لا حسب ولا نسب، ولا غني ولا جاه، ولا القوت الضروري الذي يمكن الفتي من أن يجد وقت فراغ يثقف فيه نفسه».

ويستطرد حافظ أمين:

«ولعل السبب في هذا حب أحمد أمين للشعب وللبيئة الشعبية، فهو في مقالاته لا يمل أبدا من وصف الحارة وسكانها، والكتّاب وسيدنا، وفتوات الحسينية والمنشية، و(الجباسة) و(الميضأة)، والشيخ أحمد الشاعر الذي كان يروي قصص (عنترة) و(الزير سالم) و(الظاهر بيبرس)،وعم أحمد الصبان الذي بدأ بائعا للفحم علي باب الحارة، ثم سكنت جسمه العفاريت أو ادعي ذلك، فتحول إلي الشيخ الصبان الذي يعلم الغيب ويخبر بالمستقبل ويعمل التعازيم والأحجبة، وكتابه «قاموس العادات والتعابير المصرية» ملىء بمثل هذه الصور والأوصاف».

ثم يختم حافظ أمين هذا الفصل الرائع بالحديث عن التطبيقات العملية لأفكار أحمد أمين في هذا المجال والتي توجها بإنشاء الجامعة الشعبية!!

(6)

يأبي الأستاذ حافظ أمين بعد هذا كله إلا أن يناقش موقف أحمد أمين من الأصالة والمعاصرة، ويبدأ حافظ أمين بإيراد رأي العقاد في أحمد أمين في هذه الجزئية بالذات حيث كان العقاد يري أن أحمد أمين يقف موقفا وسطا بين المدرسة التي تنادي بإحياء القديم ورفض الحديث، والمدرسة التي ترفض القديم، وتدعو إلي نقل كل ثمار الحضارة الغربية.. ويبدو واضحاً أن حافظ أمين لا يجد حرجا في أن يهاجم نظرة العقاد هذه بقوله:

«لم يكن العقاد بقادر علي أن يتصور أن يقف المفكر العربي خلال النصف الأول من القرن العشرين إلا موقفا من ثلاثة مواقف».

ويعدد حافظ أمين هذه المواقف ثم يقول مستنكراً:

«أما أن يكون هناك موقف يرفض التقليد في كل صوره، ويدعو إلي الابتكار والإبداع في كل شىء، فهذا أمر بعيد كل البعد عن ذهن العقاد».

ثم يمضي حافظ أمين في هذه النقطة مقدما شرحا أوسع فيقول:

«كان أحمد أمين مدركا للفارق الكبير بين عملية النقل من الحضارات القديمة والحديثة، وعملية الانتفاع منها، فالانتفاع عملية راقية لا يقوم بها إلا الإنسان الواثق من نفسه، المؤمن بعقيدته، المحدد لأهدافه، المدرك لحاجاته الحقيقية، كانتفاع الفنان العظيم أو المفكر الكبير بإنتاج مَنْ سبقه ومَنْ يعاصره من فنانين ومفكرين، بل  بكل ما يراه من حوله، أما عملية النقل فبدائية، لا خلق فيها ولا ابتكار، ولا تعمل علي إخراج المتخلف عن تخلفه».

«إن موقف أحمد أمين من المدرستين لم يكن ـ كما قال العقاد ـ موقفا وسطا، بل لم يكن أحمد أمين يري أن هناك وسطا بين المدرستين، فهما تتشابهان أشد التشابه، لأن أصحابهما غير قادرين علي التفكير المستقل، لهذا لم يشارك في معاركهما العديدة، بل لم يجد في هذه المعارك إلا مضيعة للجهد والوقت».

وعند هذا الحد ينقل حافظ أمين عن والده قوله:

«… فقوانين الطبيعة الجازمة الحازمة لا تعبأ بهذا الجدل، تسير سيرها الحثيث نحو توحيد العالم وتوحيد المدنية في جوهر الأمور، ولا تكترث للحدود الجغرافية المصطنعة بين الشرق والغرب، فالعلوم والفنون والآداب والأوضاع السياسية ونظم الحياة الخاصة والعامة تسربت من الغرب إلي الشرق، كما تسربت قبل ذلك من الشرق إلي الغرب، لأن القانون الطبيعي أن البقاء للأصلح، والغلبة للأرقي والأقوى، والتفاعل الدائم بين المتجاورين».

ثم ينقل لنا المؤلف عن مقال لوالده في الجزء الثاني من كتابه «فيض الخاطر» عنوانه «بين الغرب والشرق» :

«إن الحضارة الأوروبية حضارة مادية، المقدرة العلمية الهائلة فيها اتجهت نحو المادة وأتت فيها بالعجب العجاب، لا غرابة في  ذلك، فالمادة معبودها.. بل إن الأخلاق الأوروبية الحديثة وضعت علي هذا الأساس، فأهم الأخلاق ما أفاد هذه الحياة المادية، كالنظام والمحافظة علي الزمن والاقتصاد ومراعاة الصحة، أما التواضع والحياء والتفكير في النفس ونحوها فتأتي آخر القائمة».

بل لقد كتب أحمد أمين:

«كان الجامدون يهاجمون كل مَنْ تحدثه نفسه بتجديد، فإذا خرج أبو نواس عن المألوف هاجموه وسبوه، إلي أن اضطروه في مديحه للخلفاء أن يعْدِل عن رأيه ويقف علي الديار، ويصف ناقته، حتي يصل إلي ممدوحه».

ثم يعود حافظ أمين ليروي لنا موقفا غاية في الأهمية يصور أحد الفروق المهمة بين عقليات مَنْ عرفناهم علي أنهم قادة  الفكر وهو يروي لنا أن أحمد أمين قد كتب النص السابق في وقت كان طه حسين قد اكتوي بنار مهاجميه، إثر صدور كتابه «في الأدب الجاهلي»، وأراد أحمد أمين أن يدلي برأيه في المعركة بطريقة فيها من التلميح أكثر مما فيها من التصريح فكتب يقول:

«… يطالب الجامدون إذا ركب الشاعر طيارة أن يتغزل في الناقة، إذا شم ورداً أن يتغزل في العرار، وإذا سكن قصرا أن يتغزل في الأطلال، وإذا عشق ثريا أن يتغزل في هند، فأين إذن صدق العاطفة وصدق الوصف، وأين حرية الأديب، وأين دعوي أن الأدب سجل الحياة؟».

ثم يعلق حافظ أمين علي هذا الموقف بقوله:

«ولكن يبدو أن طه حسين لم يكن ليرضي من أصحابه إلا أن يقفوا إلي جانبه بوضوح وصراحة، لهذا ما أن سنحت الفرصة للهجوم علي أحمد أمين حتي قال (أي طه حسين):

«… ومنهم مَنْ اتخذ السجن سبيله إلي الإنتاج، ومنهم ـ يقصد نفسه ـ مَنْ لم تعوقه ظلمة الحياة العامة، وشدة الحياة الخاصة عن أن يجول في عالم الفن جولات ثم يعود منه ومعه زهرات في النثر أو الشعر، يهديها إليكم لتلهوا بها وتستمتعوا بشذاها، وتستعينوا بذلك علي المضي في أعمالكم الهادئة المطمئنة».

ويعود حافظ أمين ليعلق بقوله:

«لم يغضب أحمد أمين من هذا الكلام، فهو يعترف أنه لا يحب المقامرة، ويكره السياسة ومعاركها، ويفضل عليها الأعمال البناءة في بطء وهدوء،ü لهذا لم يأبه كثيرا بما قاله طه حسين، وواصل سلسلة مقالاته في (جناية الأدب الجاهلى)».

وهنا ينقل حافظ أمين عن والده قوله:

«أليس عجيبا أن يفتح المسلمون بلاد الدنيا ثم لا يقول الشعراء في ذلك شيئا يُذكر، أوليس عجيبا أن يكتسح التتار العالم الإسلامى، ثم تأتي الحروب الصليبية، وتتوالي فيها الأحداث تذيب القلوب، ثم يتحول أكثر ما قيل فيها إلي مدح الملوك الفاتحين؟ وكل ما يُلتمس من التعليل أن يقال إن الجاهليين لم يقولوا شعرا في هذا المعني أو ذاك».

«لقد آن لنا أن نفك هذه الأغلال، كما نفك قيود الاستعمار سواء بسواء، لأن الأدب الجاهلي يستعمر عقلنا وذوقنا، فيشلنا شلل الاستعمار».

«… حلت الطائرات محل الإبل ولازلنا نقول: «ألقي حبله علي غاربه».. ومدتنا المخترعات الحديثة بألوان وألوان يمكن للعقل الخصب أن يستمد منها آلافا من التشهبيات والاستعارات ونحن لا نزال عند «الصيف ضيعت اللبن»، وأصبح كرم حاتم من النوع السخيف والإسراف الممقوت ولا نزال نقول الكرم الحاتمى، وهناك آلاف من أنواع الخيبة التي تصلح للتشبيه، ولكن لا يزال «خفا حنين» وحدهما هما مضرب المثل».

ويختم حافظ أمين هذا الفصل الشيق بقوله:

«رحم الله أحمد أمين، فقد كان يقف من هذه المعارك كلها موقف العالم، الذي يلاحظ ويحلل ويفكر، ثم يدلي برأيه في كل مشكلة بشجاعة تخلو من التطرف، وموضوعية تخلو من التعصب، وإبداع يخلو من الاتباع، وهدوء يخلو من الانفعال، فهل يوصف هذا الموقف ـ كما قال العقاد ـ بأنه وسط؟

(7)

وفي فصل شيق عنوانه «أحمد أمين بين طبيعة العلماء وطبيعة السياسيين» يفيض حافظ أمين في الحديث عن الفروق بين هاتين العقليتين مستعينا بفهمه هو أكثر من استعانته بنصوص من كتابات والده، ولكن لا بأس بهذا وهو ينتبه إلي فكرة مهمة، وهي أن أحمد أمين كان في واقع الأمر من العلماء الذين يتفهمون طبيعة السياسة ويقدرون أهميتها.

وربما يبدو هذا الفصل في نظر البعض شبيها في فكرته التي يعرضها بالفصل الأول من هذا الكتاب مع إعادة توزيع اللحن، وربما تكون الحقيقة غير ذلك، وإن كان هذا لا يمنع أن نعبر عن أمنيتنا لو أن الأستاذ حافظ أمين كان قد تمكن من إعادة صياغته مستعينا علي إبراز فكرته المتميزة فيه بنصوص أخري أوضح في الدلالة، وبخاصة مع وفرة كتابات أحمد أمين المتعددة في هذا المعنى.

(8)

ونأتي إلي الفصل السابع الذي خصصه المؤلف للحديث عن «اهتمامات أحمد أمين اللغوية» وقد كان من الممكن للمؤلف أن يجعل عنوان هذا الفصل «أحمد أمين بين الفصحي والعامية» مثلا وذلك ليجعل عنوانه مناظراً لعناوين الأبواب الأخري التي تتبني فكرة الموازنة بين قيمتين أو طرفين، ولكن العقلية العلمية للمؤلف دفعته إلي أن ينجو من الوقوع في مطب صياغة العناوين علي وتيرة واحدة حتي إن كان الهدف أن توحي العناوين بالصراع الفكري أو الحوار العقلي الدائم!!

ويبدو حافظ أمين في هذا الفصل حريصاً علي أن يبين لنا أو أن يكشف عن فكر لغوي متحرر تبناه أحمد أمين وهو عضو في مجمع الخالدين (منذ 1940)، ويشكل حافظ أمين رأيه في هذا مستنداً إلي نص لأحمد أمين حين قال في وضوح:

«علي القارئ أن يفهم ما يقرأ، فإذا فهم قوّم، فإذا قوّم احتفظ بالصحيح واستبعد الزائف، فإذا احتفظ بالصحيح فكر في العلاقة بينه و بين ما سبق له إدخاره في ذهنه، ثم كون من ذلك كله وحدة متجانسة ينظر من خلالها إلي العالم، ويصدر بها حكمه علي الأشياء».

ويلفت حافظ أمين نظرنا إلي ما قاله والده في موضع آخر:

«… يتبادر إلي الذهن أن اللغة ليست إلا وسيلة للتعبير عن المعانى، ولكن المسألة أعمق من ذلك، فهناك تفاعل بين اللغة والتفكير، فاللغة المنظمة تعمل في تنظيم الفكر، والفكر المنظم يعمل في تنظيم اللغة ـ وكذلك العكس ـ فالمتكلم باللغة الإنجليزية ـ يخضع لمنطقها وطرق تفكيرها كما يخضع لاختيار كلماتها وأساليبها، فيؤثر ذلك في تفكيره وجدله وحججه. والمتحدثون بلغة راقية يشعرون بأن هناك غرضاً محددا واضحا يرمون إليه في حديثهم،فهم يضعون لأحاديثهم خططا كالتي يضعها لاعب الشطرنج الماهر».

«وهناك ارتباط قوي بين اللغة والخُلق، فلست تجد في لغة أجنبية من ألفاظ الملق وعباراته ما تجده في اللغة العربية مما أدخله عليها الفرس والأتراك، ومدلول الكلمة في اللغة العربية غير مدلوله في اللغة الأجنبية، فكلمة (سأفعل) في اللغة الإنجليزية أو الألمانية تعني أن المتحدث سيفعل، أما كلمة (سأفعل) باللغة العربية فتعني أن المتحدث قد يفعل وقد لا يفعل…».

هكذا نجد أنفسنا أمام فكرة واضحة وضوح الشمس عن مفهوم اللغة وطبيعتها ووظيفتها في فكر أحمد أمين، وهكذا تتبدي لنا بشائر جهود إصلاحية في مجال اللغة أتيح لها التعبير عنها بمثل هذا الوضوح منذ بواكير عهد المجمع اللغوى، فهذا عضو من الذين دخلوا المجمع مع طه حسين والعقاد وهيكل والمازني والشيخ المراغي لا يجد حرجاً في أن يصرح بمثل هذه الأفكار المجددة في فهمنا لوظيفة اللغة.

ثم يزيد حافظ أمين «رؤية والده اللغوية» توضيحا فيقول:

«كان أحمد أمين لا يري فخراً للغة العربية أن يكون فيها ثمانون اسما للعسل، وخمسون اسما للأسد، وأربعمائة للداهية.. إلخ، بل يكفي من كل ذلك أربعة ألفاظ أو خمسة، ثم نفسح المجال للكلمات الجديدة التي نحتاج إليها».

«… كم أعمار ضاعت، وكم صحائف سودت من غير طائل بسبب اعتقادنا أن اللغة مقدسة، وأن ما لم يوجد في (القاموس) فليس بعربى.. هب أن العرب لم ينطقوا بكلمة، فلماذا لا ننطق بها نحن إذا جرت علي أساليب العرب وأوزانها وأصولها؟ إن كل أمة حية تعمل علي تيسير لغتها في خدمتها، وتبذل جهداً كبيراً لتكميلها من النقص، وجعلها صالحة للحياة المتجددة».

ويتوقف حافظ أمين ليلفت نظرنا إلي حقيقة مهمة تتعلق بلغة الكتابة:

«بل إن أحمد أمين لم يكن يري بأسا في أن يكتب بعض الأدباء بعض إنتاجهم بالعامية الراقية، [وقد كان في هذا] مخالفا لطه حسين الذي كان يستنكر علي الأدباء العرب استخدام بعضهم للغة العامية في بعض كتاباتهم، وقد نبع رأي أحمد أمين هذا من ثلاث حقائق آمن بها إيماناً عميقا:

الحقيقة الأولى: أن من حق الشعب أن يحصل علي غذائه الذهني والفنى، كحقه في الغذاء المعوى.

الحقيقة الثانية: أن الكتابة بالعامية الراقية، وبالفصحي السهلة، تؤدي في النهاية إلي الوصول إلي لغة واحدة، خالية من الغريب ومن الحرفشة، ولعل أهم مقياس لرقي الأمة تضاؤل الفرق بين لغة التخاطب ولغة الأدب.

الحقيقة الثالثة: أن العامية في بعض الموضوعات أطرف وأنسب، وكما قال الجاحظ: إن النكتة العامية إذا حولت إلي لغة فصحي سمجت».

ويستطرد حافظ أمين بعد هذا ليقول:

«وكان أحمد أمين يري أن العرب، بعد أن غزاهم التتار، أصيبوا بصدمتين شنيعتين في وقت واحد، إقفال باب الاجتهاد في التشريع، وإقفال باب الاجتهاد في اللغة. وقد حاولنا في العصر الحديث فتح باب الاجتهاد في التشريع بوسائل ضعيفة، وحيل سخيفة».

وعند هذا الحد ينقل حافظ أمين عن والده قوله:

«فلماذا لم تنجح هذه الحيل؟ كان أغلب الاعتماد علي التشريع الأوروبى، إلا في حدود ضيقة كالأحوال الشخصية».

«كذلك في اللغة: نمت اللغة العامية علي حساب اللغة العربية، واستعمل الناس في حرفهم وصناعاتهم وحياتهم اليومية الكلمات التي يرون أنفسهم في حاجة إليها، ولو أخذاً من اللغات الأجنبة محرفة، ولم تبق اللغة العربية الفصيحة إلا في تعليم التلاميذ ريثما يؤدون الامتحان».

«إن جمود اللغة العربية لا يقل خطرا عن جمود التشريع، ومصداق ذلك انصراف أكثر المتعلمين عنها متي نالوا حظا من لغة أجنبية، وقلة مَنْ يجيدها قراءة وكتابة، كأنها لغة إضافية لا لغة أصلية».

«إن فتح باب الاجتهاد في اللغة العربية ينظمها، ويحد من الفوضي فيها، ويرفع من شأنها، ويزيد من حيويتها، ويكثر من سواد مَنْ يجيدها».

(9)

ويطالعنا بعد هذا فصل طريف عنوانه «أحمد أمين يكشف عيوبه» وفي الحقيقة فإننا نكتشف أن حافظ أمين يأبي أن يكشف عن كل العيوب التي يعتقد أن والده كان يعاني منها ، وعوضا عن هذا فإنه يركز علي عيب واحد، هو ذلك الحزن أو الشعور بالحزن الذي ظل يلازم هذا الرجل العظيم.

ومن الطريف أن ينقل لنا المؤلف من كتاب أحمد أمين «حياتى» أحد تفسيرات الأب لهذه الظاهرة التي اعترت حياته حيث يقول:

«كانت لي أخت في الثانية عشرة من عمرها، قامت يوما تعد القهوة فهبت النار فيها وفارقت الحياة بعد ساعات، وكان ذلك وأنا حمل في بطن أمى، فتغذيت دما حزينا، ورضعت بعد ولادتي لبنا حزينا، واستقبلت عند ولادتي استقبالا حزينا، فهل كان لذلك أثر فيما غلب علي من الحزن في حياتى، فلا أفرح كما يفرح الناس، ولا أبتهج بالحياة كما يبتهجون؟ علم ذلك عند الله والراسخين في العلم».

ويلفت المؤلف نظرنا إلي أن والده أحمد أمين لم يستسلم لهذا الطبع، وإنما كان يبذل جهده في مغالبته:

«ويظل أحمد أمين يجاهد نفسه ويغالب طبيعته ليستأصل هذا العيب، فينتهز كل فرصة للجلوس مع أصحابه من ذوي الطبع المرح ـ وكانت لجنة التأليف للترجمة والنشر غالبا هي مكان الاجتماع ـ أو يخرج مع أصدقائه في الهواء الطلق ابتغاء التريض والمتعة، بل ويكتب المقال إثر المقال في (فن وسرور) و(الابتهاج بالحياة) و(الضحك) و(الحياة السعيدة) وغيرها من المقالات التي يحررها وكأنه يحاول إقناع نفسه بأنه قد انتصر علي هذا العيب البغيض».

وينقل لنا المؤلف في موضع آخر ما قاله أحمد أمين ـ معبرا بطريقة غير واعية لنفسه ـ عن أهمية النظرة المتفائلة:

«من أكبر النعم علي الإنسان أن يعتاد النظر إلي الجانب المشرق في الحياة، فالعمل الشاق العسير يخف حمله بالطبع المرح والنفس الفرحة، والابتسام للحياة يضيئها، وقد أرتنا التجربة أن الفرحين المستبشرين بالحياة، الباسمين لها، خير الناس صحة، وأقدرهم علي الجد في العمل، وعلي احتمال المتاعب، وأكثرهم استفادة وسعادة بما في يده ولو قليلا».

«… الصعاب في الحياة أمور نسبية، فكل شىء صعب عند النفس الصغيرة، ولا صعوبة عظيمة عند النفس العظيمة، والصعاب كالكلب العقور، إذا رآك خفت منه وجريت نبحك وعدا وراءك، وإذا رآك تهزأ به وتبرق له عينيك، أفسح لك الطريق».

«… ومن أهم أسباب الحزن: ضيق الأفق، وكثرة تفكير الإنسان في نفسه، حتي كأنها مركز العالم، وكأن كل شىء قد خلق لشخصه، وهذا هو السبب في أن أكثر الناس فراغا أكثرهم ضيقا بنفسه، وقد فرضت الطبيعة العمل علي كل شىء، ومَنْ لم يعمل عاقبْته بالسآمة والملل، وكلما كان العمل لنفع المجموع كان جزاء الطبيعة عليه أوفى، لأنه يتماشى مع أغراضها».

وعلي الرغم من هذا كله فإن حافظ أمين يجد نفسه ملزما بأن يصدقنا القول أن أباه قد مات وفي نفسه شىء من الشعور بعدم التقدير، أو بالظلم، وهو يعبر عن هذا المعني بعبارات صريحة واضحة يقول فيها:

«مات أحمد أمين بعد ست سنوات وأربعة أشهر من هذا الاحتفال الكبير [يشير إلي احتفال أقيم تكريما له]، مات وفي نفسه غصة من تنكر الأصدقاء ـ أو مَنْ كان يظنهم أصدقاء ـ ومن قسوة خصوم في معاداته، وكانت سنواته الأخيرة مليئة بالمرارة وانقباض النفس، بعد أن فقد كل ألوان السلطة، فإن كان هناك وصف ينطبق علي حياته، فهو وصف أحمد أمين [نفسه] للزعيم عبدالله النديم:

«.. ربما كان أعظم شيء فيه ثباته علي مبدئه، باع نفسه لأمته حسبما يعتقد الخير لها، ولم يتحول عن ذلك علي كثرة مَنْ تحول في مثل مواقفه.. ظل يجاهد ويجاهد، يُنفي فيجاهد، ويُعفي عنه فيجاهد، ويُحذَر فلا يَحذر، ويُطمَع فلا يطمع، حتي لقي مولاه.. رحمه الله».

(10)

ويستعرض حافظ أمين في الفصل التاسع من كتابه الشيق موقف أحمد أمين من «منجزات المدنية الأوروبية» ويجعل عنوان هذا الفصل «أحمد أمين والتكنولوجيا الحديثة»، وربما كان هذا الفصل من أهم الفصول لأنه يحدثنا فيه عن طبيعة أو حقيقة الانطباع الآني الذي تولد عند بعض المفكرين تجاه ثورة التكنولوجيا، وهو الانطباع الذي لم يخبره جيلنا والأجيال التالية التي شبت فوجدت الوسائل التكنولوجية متاحة هكذا..

ولنتأمل علي سبيل المثال ما أتحفنا به المؤلف من وصف أحمد أمين للراديو وهو الرأي الذي أسهم بلا شك في صياغة جوهر رأيه أو موقفه تجاه التكنولوجيا الحديثة.. هذا هو أحمد أمين يقول:

«أذكر مرة خادمة قروية كانت تعمل عندنا وأرادت السفر إلي قريتها لتتزوج، فطلبت منا أن نعطيها أحد صنابير الماء، ولمبة من اللمبات الكهربائية لتنيرها في حجرتها ليلة زفافها، فكانت هذه الحادثة مثاراً لنقاش ظريف بيننا، انتهي إلي درس في أن الشىء لا نفع منه إذا لم يسانده أساس راسخ من العلم».

ونأتي إلي العبارات التي يصف بها أحمد أمين جهاز الراديو:

«آلة جديدة تنطق إذا أصغيت وتسكت إن أعرضت، وتصلك بكل مكان وتنطق بكل لسان، إن شئت معلما فمعلم، أو غناء بمغن، أو فنا ففنان، يهزل حيث تحب الهزل، وتجد حيث تهوي الجد، تمتاز عن التليفون بأن التليفون طالب ومطلوب، فإذا كان طالبا فقد يفجعك بخبر، أو يوقظك من نوم، أو يحملك مطلبا يشق عليك، أو يصلك بمحدث يثقل علي نفسك، أما الراديو فليس إلا مطلوبا، هو عبد مطيع، وخادم أمين، إما ساكت أو متكلم بما أحببت، نديم ظريف، جهينة أخبار، وحقيبة أسرار، ترياق الهم، ورقية الأحزان.. قد تكون له مضار لم أتعرفها، فإن جربتها فسأحدثك عنها».

كان أحمد أمين في نظرته إلي الحضارات الغربية ينطلق من منظور فكري  آخر يوضحه بقوله:

«ورغم تفوق أوروبا في العلم، ورغم اعتمادنا عليها في منجزاتها، فإن هذا لا يدعونا إلي الإحساس بعقدة النقص، لأن الشرق قوة لا تقل في القيمة عن قوة الغرب».

ويستشهد حافظ أمين علي صواب هذه الفكرة بما ينقله من نصوص والده:

«… ففي الإنسان قوة غير عاقلة يستطيع أن يدرك بها نوعا من حقائق لا يستطيع العقل أن يدركها، هذه القوة تسمي «الوحى» أو «الإلهام» أو «الكشف»، لا تعتمد علي حساب للمقدمات وتقدير النتائج، يصل إليها الإنسان بالمران الطويل والرياضة العنيفة في محاولة تصفية النفس من التعلق بالمادة وشئونها».

«فإذا كان من مزايا الحضارة الغربية الاعتماد في كل مرافق الحياة علي العلم، والجد في اكتشاف قوانين الطبيعة واستخدامها في الصناعة ونحوها،ومرونة العقل وتفتحه واستعداده لقبول كل ما يري خيره، ونبذ كل ما يري شره، فإن الحضارة الإسلامية تمتاز بروحانيتها، وتقويمها الإنسانية تقويما كبيرا، والنظر إلي الإنسان علي أنه أخو الإنسان، والاعتقاد بأن الله فوق الجميع، والكل مخلوقاته، وكل مخلوق للمخلوق قريب ونسيب».

وينتهي حافظ أمين إلي تقرير أن والده كان يري في كل حضارة عناصر ضعف، وأن كل أمة فتية تنتفع دائما من عناصر القوة في الحضارات المجاورة، وقد سبق أن انتفعت أوروبا من الحضارة الإسلامية  في القرون الوسطى، فلا بأس علينا الآن من الانتفاع بعلوم الدول الأوروبية الحديثة ومخترعاتها».

(11)

يتناول الفصل العاشر أحمد أمين فيما بين العلم والإدارة، وربما كان هذا الفصل ـ في رأيي ـ أصدق الفصول تعبيراً عن شخصية المؤلف (الابن) وفكره، كما أنه أكثر فصول الكتاب حرارة وحماسة.

يبدأ الأستاذ حافظ أمين هذا الفصل من حيث انتهي والده في ختام كتاب «حياتي» حيث قال:

«لو استعرضت حياتي من أولها إلي آخرها لكانت (شريطا) فيه شىء من الغرابة، وكثير من خطوط متعرجة، فما أبعد أوله عن آخره، وما أكثر ما فيه من مغارات.. ومع هذا فإني أحمد الله إذ منّ علي بالتوفيق في أكثر ما زاولت من أعمال.. وهي ظاهرة يصعب تعليلها العقلى.. فكم رأيت من أناس كانوا أذكي منى، وأمتن خلقا، وأقوي عزيمة، وكانت كل الدلائل تدل علي أنهم سينجحون في أعمالهم، ثم باءوا بالخيبة، لا تعليل لتوفيقي إلا أن «ذلك فضل الله، يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم».

وعلي الرغم من هذا الموقف الفكري الواضح الذي انتهي إليه أحمد أمين فإن ابنه لا يجد حرجا في محاولة طرح تحليل مختلف للقضية ليصل إلي نتيجة أخري تفسر نجاح والده من وجهة نظره حيث يقول:

«… تفسيري هو أن الناجحين نابغون دائما في إدارة أعمالهم، فلا نجاح في علم أو فن أو أدب بغير امتلاك حقيقي لعناصر النجاح في فن الإدارة».

«وللنبوغ في فن إدارة الأعمال مقومات معروفة، كتب عنها الكثيرون من عناصر المهارة الإدارية، إلا أنهم يتفقون علي أن عنصر (الحسم) من أهم أسباب النجاح، إن لم يكن أهمها، والمعروف أن أحمد أمين كان من أكثر الناس اتصافا بهذا العنصر».

ثم يمضي حافظ أمين ليتحدث عن حدود صفة (الحسم) في شخصية والده:

«والحق أن صفة (الحسم) هذه يحتاج إليها كل مَنْ يتطلع إلي أي لون من ألوان النجاح، حتي ربة البيت في أعمالها البسيطة تتعرض إلي كثير من الأمور التي تحتاج إلي الحسم، ولعل مسرحية شكسبير الخالدة (هاملت) من أحسن الأعمال الفنية التي صورت ألوان الفشل التي تنتج عن صفة التردد».

«وصفة التردد هذه تنتج ـ في الأغلب ـ من رغبة الإنسان في جمع المزيد من المعلومات قبل أن يصدر قرارا أو يأتي بعمل ـ كما كان يفعل هاملت، أما الشخص الحاسم ـ كأحمد أمين ـ فهو يقول لنفسه: «الآن سأبدأ عملي بناء علي المعلومات المتوفرة لدى، فأنا لن أنتظر المزيد منها، علما بأني مدرك للمغامرة التي أتعرض لها نتيجة نقص المعلومات، ولكنها مغامرة أقل خطورة من خطر المزيد من الانتظار».. هذا كلام لا يقوله إلا إنسان شجاع يجيد فن الإدارة».

ويعمد حافظ أمين إلي التأكيد علي مدي صواب هذه الفكرة باللجوء إلي الاستشهاد بنصوص من كتابات والده تتضمن ما يدل دلالة قاطعة علي مدي تشبع أحمد أمين بهذه الفكرة، وفي هذا الصدد ينقل حافظ أمين عن كتاب والده «حياتى» قوله:

«لي ذوق في تقدير الأدب، فضلت اتباعه مجتهدا ـ ولو كنت مخطئا ـ علي تقليد غيري في تقديره ولو كان مصيبا.. فلا يعجبني من البحتري إلا قصائد معدودة، ولا يهتز قلبي لأكثر شعر الطبيعة في الأدب العربي لبنائه علي الاستعارة والتشبيه لا علي حرارة العاطفة، ويعجبني المتنبي لولا إغرابه أحيانا وتكلفه، والمعري لولا تعالمه، وأفضلهما علي أبي تمام وتقعره …».

وهنا يعقب حافظ أمين علي حديث والده مستمداً بعض الأفكار من علوم الإدارة الحديثة، ويقول:

«هذا كلام إنسان مبدع، والإبداع من العناصر التي لا تقل في فن الإدارة عن عنصر الحسم، يحتاج إلي ثقة في النفس ومرونة واتساع أفق، وإلي قدرة علي تخليص العقل مما أدخلوه فيه في أثناء الصغر، وإلي شجاعة في نبذ الموجود والبحث عن الجديد. ولعل أوضح مثال لهذا الفكر المبدع ما نجده في سلسلة كتبه عن الحياة العقلية في الحضارة الإسلامية، فهو فيها لم يكن ـ كمن سبقه ـ مجرد ناقل، كما لم يكن متعصبا لمذهب أو متحيزا لعقيدة.

ويؤثر حافظ أمين بعد هذا أن يستشهد بعبارات للأستاذ أحمد حسن الزيات في وصف والده يقول فيها:

«حسب أحمد أمين أنه حلل الحياة العقلية للعرب والمسلمين في كتبه فجر الإسلام، وضحاه، وظهره تحليلا لم يتهيأ مثله لأحد من قبله، وستظل هذه الكتب الخالدة شاهدة علي الجهد الذي لم يكل، والعقل الذي لم يضل، والبصيرة التي نفذت إلي الحق من حجب صفيقة، واهتدت إليه في مسالك متشعبة».

ثم يستطرد حافظ أمين بعد هذا ليحدثنا عن دور أحمد أمين في لجنة التأليف والترجمة للنشر وكيف أنه ظل أربعين عاماً ـ منذ عام 1914 حتي تاريخ وفاته عام 1954 ـ يُنتخب بالإجماع رئيسا لهذه اللجنة الناجحة.

وهنا يعقب حافظ أمين بقوله:

«وهذا من أوضح الأمثلة علي تفوق أحمد أمين في فن الإدارة، وهو أيضا ما نراه في كثير من أعماله الأخرى، مثل رئاسته للإدارة الثقافية بوزارة المعارف، وللإدارة الثقافية بالجامعة العربية، وعمادته لكلية الآداب، وأعماله في لجان المجمع اللغوي وغيرها من اللجان الثقافية، ومثل إدارته لأسرته الكبيرة التي كان عميدها وعائلها، وأخيرا ـ أو بالأحري أولا ـ إدارته لوقته، كأحسن ما تكون الإدارة».

ولا ينكر المؤلف أنه وجد في كتابات أحمد أمين ما يدل علي أنه كان يتمتع بدرجة كبيرة من الوعي تجاه الإدارة وقيمة الوقت وأهمية عامل الحسم.

وينقل المؤلف عن أحمد أمين بعض عباراته في كتابه «الأخلاق»:

«قيمة الزمن كقيمة المال، كلاهما قيمته في جودة إنفاقه، فالبخيل الذي لا ينفق من ماله إلا ما يسد رمقه، فقير، كما إذا كانت أمواله مزيفة، كذلك مَنْ لم ينفق زمنه فيما يزيد في سعادته وسعادة الناس، فعمره مزيف، وليس للانتفاع بالزمن إلا طريق واحد، ذلك أن يكون لك غرض في الحياة ترضي عنه الأخلاق، فتنفق زمنك في الوصول إليه، فما أضيع زمن قارئ يقرأ ما يقع في يده من الكتب من غير غرض، وما أتعب مَنْ يمشي في الطريق لا لغرض معين».

«إن تحديد الغرض يوفر من الزمن الشىء الكثير، ويعرفنا كيف ننتخب من الحياة ما يغذي الغرض، وكيف نتجنب ما لا يتفق معه».

«إن الذين لا يحددون أغراضهم، ويتركون الزمن يمر عليهم كما يمر علي الجماد، قلما يصدر عنهم خير كبير، والإنسان بلا غرض كالسفينة في البحر بلا مقصد».

وبعد أن يورد حافظ أمين هذه النصوص البديعة يتوقف ليتساءل بكل صدق وإعجاب بوالده:

«أليس هذا الكلام تلخيصا رائعا لأحدث نظريات الإدارة الحديثة؟».

(12)

ونأتي إلي الفصل الأخير وعنوانه «أحمد أمين وزعماء الإصلاح» وهو نفسه المقال الذي نشرته مجلة «القاهرة» في الذكري المئوية لأحمد أمين.

وفي هذا الفصل ينطلق الأستاذ حافظ أمين من فكرة أن المرء حين يكتب عن غيره فهو يتعاطف معه ويعجب بإنتاجه ويسترشد بآرائه وتصرفاته.. وهي ـ في رأيي ـ  فكرة ممتازة غير أنها لا تمثل قاعدة مطلقة، وبخاصة في زمن تتعدد فيه الأغراض، وتتباين فيه المقاصد.

ويخلص حافظ أمين بعد هذا إلي أن والده في كتابته للتراجم كان معجبا بأولئك الزعماء الذين كانت صفتهم الغالبة: «الشجاعة في مواجهة الحكام المستبدين، والصدق مع النفس ومع الآخرين، وقوة العقل في الحكم علي الأشخاص وعلي الأشياء، والزهد في المال والجاه ومتع الحياة».

ويتضمن هذا الفصل فقرة كان الأولي بالأستاذ حافظ أمين ـ في رأيي ـ أن يطعم بها الفصل السادس الذي عنوانه «أحمد أمين بين طبيعة العلماء وطبيعة السياسيين» وهي فقرة يتحدث فيها أحمد أمين عن الفرق بين شخصيتي عاطف بركات (رجل العلم) وفتح الله بركات (رجل السياسة) وفيها يقول:

«… إن كل متصد للإصلاح وقيادة أمور الناس إما أن يكون عليا أو معاوية، فإن غلب عليه تحريه العدل المطلق في كل صغيرة وكبيرة، وعدم رضاه عن أي ظلم مهما كانت نتيجته، فهو أقرب إلي نزعة على، فعنده أن الخط إما أن يكون مستقيما أو أعوج ولا شىء بينهما، ويجب عليه السير في الخط المستقيم دائما من غير نظر إلي العواقب. أما معاوية فيري أن الغاية تبرر الوسيلة، ويقول: «إنا لا نصل إلي الحق إلا بالخوض في كثير من الباطل».

«والسياسيون ـ عادة ـ من قبيل معاوية، ينحرفون عن الحق أحيانا بحجة أنهم يقصدون إلي منفعة كبرى، فهم يضحون بالحق أحيانا، أملاً في تحقيق حق أكبر، وقد يخدعون بذلك أنفسهم».

«وهذا لم يمنع أن يهب الله مصر رجالا صُلب عودهم، واشتد خلقهم، فوهبوا أنفسهم للحق، لا شيء غير الحق».

«كان من هذا القبيل عاطف بركات، وكانت أكبر ميزة لشخصيته حبه للنظام الدقيق، وتحريه للعدل المطلق، والتمسك به مهما جلب عليه المتاعب».

«تولي نظارة مدرسة القضاء الشرعي ، وظل فيها أربعة عشر عاما، فأشعّ فيها روحه: كل أستاذ وطالب يعرف عمله ويؤديه في وقته، ونراه دائبا لا يمل، فيخجلنا بجده ونشاطه، فنقلده في مسيرته».

«لا فرق عنده في تحقيق العدالة بين قريبه وغير قريبه، بل ولا بين مَنْ يحبه ومَنْ يكرهه، أمام عينيه قوانين العدالة وكفى، فهو ليس إلا قاضيا يطبقها معصوب العينين عن كل اعتبار وكل عصبية، ومثل هذا الرجل ـ خاصة في مثل أممنا التي اعتادت الإفراط في المجاملة والمحسوبية ـ لا يكون محبوبا إلا من تلاميذه وخاصته، لكنه يكون محترما من الجميع».

وربما أجد الفرصة الآن لأضيف إلي حديث الابن عن والده ما أعتقده أنا من فضل لأحمد أمين في كتابة تراجم الشخصيات، ورأيي الواضح أن أحمد أمين قد أنصف أناسا عظماء قبل أن يتمكن التاريخ من أن ينصفهم بعد هذا، وسيظل هذا الفضل معقودا لأحمد أمين، الذي سبق الأدباء جميعا إلي كتابة علمية رائعة وموثقة عن زعماء الإصلاح في الشرق في العصر الحديث، وإذا كان هناك كتاب في تاريخ العصر الحديث كله يمثل المرجع الذي لابد لي أن أقترح علي المبتدئين قراءته، وعلي المجتهدين إعادة قراءته قبل أن يكتبوا أي شىء ذي بال في هذا المجال، فإني أرشح كتاب «زعماء الإصلاح»، ورأيي أن الوعي التاريخي والدراسة التاريخية قد بلغا في هذا الكتاب أرفع درجات العلم والفن والأدب.. وإذا كان لي أن أصف بعض ما في هذا الكتاب فبوسعي أن أثني علي ما فيه من علم.. العلم الذي لا يورد إلا ما حدث فعلاً، وما يستحق الذكر، العلم الذي يحلل قبل أن يحكم، العلم الذي يصدق القارئ في الرؤية والرواية.. والفن الذي يجعل التاريخ أحب القراءات ذوقا ومذاقا، والأدب الذي يرقي بعلم التاريخ في الصياغة والتقديم وفي التأثير، التأثير الذي يخرج بعده القارئ بروح طموحة إلي البناء، ونفس ناقدة منصفة، وأمل في المستقبل، لا كما يفعل بعض المؤلفين في بعض الكتب حين يكثفون في النفوس المرارة والحقد.. أو اليأس والتشكك.

و«زعماء الإصلاح» كتاب رائد فيه كل هذا، وفيه من المعلومات ما لا يزال بمثابة مرجع لكل الكتب، ولا يقف النقل عنه عند حدود تخصص دون آخر، وأذكر أنني كنت مشغولا عن قريب بقراءة كتابين مختلفين أحدهما في «الفرق الإسلامية» والآخر في «التاريخ المعاصر» وإذا بي أجد في كلا الكتابين فقرات كاملة منقولة باعتزاز عن «زعماء الإصلاح»، ولهذا فإني أكرر أنه إذا لم يكن هناك إلا فرصة واحدة لكتاب واحد نرشحه للشباب ليقرأوه فليكن «زعماء الإصلاح».

أليس في هذا كله مدعاة إلي أن يتناول الأستاذ حافظ أحمد أمين أفكار والده العظيم التي تتعلق بموضوع هذا الفصل بشىء من إعادة التفكير والتعمق في فضل والده في هذا المجال؟

أما أن هذا كتاب لا بد أن يقرأ، فأمر لا يختلف عليه اثنان من القراء حتي ولو كانا من جيلي أحمد أمين وحافظ أحمد أمين، فما بالنا إذا كان هؤلاء من الجيل الثالث؟

هذا هو السؤال الذي يتضح في إجابته مدى الرؤية التي  استطاع هذا الكتاب القيم أن يقدمها، وأن يمتعنا بها  نحن أفراد الجيل الثالث، جيل الشباب، الذين صدر لهم هذا الكتاب في «مكتبة الشباب» عن الثقافة الجماهيرية في وزارة الثقافة .

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com