صدر في سلسلة عالم المعرفة من تأليف: الدكتورة كاتارنيا مومرن و ترجمة الدكتور عدنان عباس علي و مراجعة الدكتور عبد الغفار مكاوي
مؤلفة هذا الكتاب الدكتورة كاتارنيا مومرن هي عميدة الأدب الألماني في جامعات الولايات المتحدة قاطبة، وقد كتبت هذا الكتاب القيم عن عقيدة متأصلة في فكرها بأن جوته العظيم يمثل إحدي القمم الأربعة في الأدب الغربي إلي جوار هوميروس ودانتي وشكسبير وبأنه أيضاً خير من يُضرب به المثل للدلالة علي مدي تفتح الطاقات الإيجابية المبدعة إذا ما صادفتها الظـروف الملائمة وتخطي المرء حدود التفكير المحلي الضيق وراح يحتك بفكر غريب ومختلف عنه .
وتعتقد المؤلفة بالإضافة إلي هذا في أن مصطلح «الأدب العالمى» نفسه لم يدخل تماماً إلي تاريخ الفكر إلا بعد أن درس جوته الثقافة العربية طيلة حياته ، وأن جوته كان واعياً بحكم حصافته ورجاحة عقله وثقافته إلي أن المراد من فكرة «الأدب العالمى» ليس هو تماثل الأمم في التفكير ، وإنما المراد هو الدعوة إلي الاختلاف والتنوع، وكان جوته يتنبأ بأن الاتصال المستمر بين الشعوب كفيل بزيادة التقارب وبالتالي إلي زيادة التفاهم ، وكان يعتقد أن الانتاج الأدبي يمثل وسيلة من خير الوسائل لتحقيق هذا الهدف ، ولهذا فإنه أخذ علي عاتقه مهمة تقريب الثقافة العربية إلي أبناء قومه.
ويُعد هذا الكتاب الذي قدمته سلسلة «عالم المعرفة» للقارئ العربي في شهر فبراير 1995 واحداً من أهم الدراسات التي تناولت أدب جوته، بل إنه كما يقول الدكتور عدنان عباس مترجم الكتاب يعد فتحاً كبيراً في دراسة ومعرفة أدب جوته، ولاشك أن هذا هو الشعور الذي ينتابنا جميعاً حين نفرغ من قراءة هذا الكتاب، بل إنه هو الشعور الذي يسيطر علينا طوال قراءة فصوله.
وعلي الرغم من أن هذا الكتاب دراسة أكاديمية ملتزمة إلي أقصي الحدود (بل علي الإطلاق) بالمعايير العلمية في كل سطورها فإن الحس الأدبي المرهف لأستاذة الأدب قد أعطي هذه الدراسة جوانب لا يمكن إغفالها من دقة ورقة التعبير والفكر والنظرة النقدية الثاقبة، والموضوعية الجميلة المعبرة، والحقيقة التي تتجلي في أبدع صياغة فضلاً عن أن التخصص والأستاذية قد مكناها من سعة الإطلاع إلي حدود مبهرة، وهيئا لها دقة البحث والتقصي إلي درجة لا يمكن تكرار وجودها في هذا العصر الذي نعيشه ونعايشه في أواخر القرن العشرين.
ويدلنا المترجم في المقدمة علي أن هذا الكتاب ليس إلا ترجمة كاملة للفصل الأول من الكتاب الأصلى، ولبعض الفصل الثاني أما الفصل الثالث الذي درست فيه المؤلفة ما استوحاه جوته من الأدب العربي والإسلامي فقد أهمل ترجمته تماماً بالإضافة إلي كثير من الأجزاء من الفصل الثاني التي صرف عنها النظر وأشار إليها بنقاط.
وهكذا ندرك أن الكتاب المترجم الذي بين أيدينا يضم الفصل الأول «علاقة جوته بالأدب العربي الجاهلى»، وبعض الفصل الثاني عن «موقف جوته من الإسلام» فحسب. ولهذا فإننا ننتهز الفرصة لندعو المسئولين عن سلسلة عالم المعرفة لإصدار جزء ثان من هذا الكتاب علي نحو ما تعودنا عليه في كثير من كتب السلسلة التي صدرت في أكثر من جزء، ولا أظن أن الجزء الثاني من هذا الكتاب لا يستأهل بذل الجهد في ترجمته وتقديمه للقارئ العربي في كتاب جديد.
ولاشك في أن كل مثقف عربي يعلم تمام العلم أن جوته كان علي اطلاع علي الثقافة العربية، وأنه كان معجباً بشخصية النبي محمد صلي الله عليه وسلم، وبالدين الإسلامى، ولكننا فيما عدا أحكام عامة وسريعة لم نكن ندرك الأسباب وراء هذه العلاقة ولا تاريخها، ولا المدي الذي وصل إليه هذا الإعجاب والتعمق، ويأتي هذا الكتاب لا ليدلنا علي التاريخ التفصيلي لهذه العلاقة فحسب، ولكن ليدلنا علي الأثر الممكن والمحتمل الذي تركته هذه العلاقة في كل أعمال جوته الأدبية بل والتنفيذية (إذ كان جوته صاحب سلطة فيما يتعلق بتعيين أساتذة الجامعات ومَنْ يخلفونهم في كراسيهم وفي الإشارة بشراء المخطوطات للجامعات الألمانية.. إلخ) .
بل تصل القدرة الأكاديمية علي الإحاطة بالجوانب المختلفة لهذا الموضع إلي أن تدفع بصاحبة الدراسة إلي أن تحدثنا أيضاً عن تأثير الثقافة العربية ومكانتها في معاصري جوته من الأدباء وأساتذة الدراسات الشرقية والعربية في الجامعات العربية.
ومما يجدر ذكره أن المؤلفة نفسها كانت قد أصدرت من قبل كتاباً عن «جوته وألف ليلة وليلة» وعدداً آخر من الدراسات في ذات الموضوع، ولكن الدراسة التي بين أيدينا تتفوق علي ما سبقها بما تتميز به بالطبع من أنها تناقش جوته كله كظاهرة إنسانية وليس كمجرد أديب أو شاعر، كما أنها من ناحية أخري تناقش العالم العربي كله كثقافة وحضارة وتاريخ وليس كمجرد نص واحد أو صورة معينة منطبعة في أذهان الغربيين.
لهذا فإنه من العسير أن نعرض مثل هذه الدراسة في صفحات قليلة ولكن الأمر الأشد عسراً علي النفس أن تمضي الأيام بدون أن نحييها بمثل هذه الصفحات التي لابد منها كجهد رمزي عن امتناننا لمثل هذا العمل الأكاديمي الفذ، وعن امتناننا لترجمته ولمراجعته وامتناننا لنشره علي هذا النحو الواسع المدى.
ولا أظنني أضيف جديداً إذا قلت إن المؤلفة قد نجحت إلي أقصي حد ممكن في عرض المعالم الجوهرية للموضوع موثقة لرؤاها واستنتاجاتها بالقدر الكافي من الاقتباسات والاستشهادات، وقد كان من نتيجة التزامها بهذا المنهج أنها أصبحت ـ بحكم الدراسة التي بذلتها في وضع هذا الكتاب ـ علي إلمام واسع بالثقافة العربية والأدب العربي بل والآداب الإسلامية إلي حد أن الأخطاء (المتوقعة) التي وقعت فيها يمكن حصرها في عدد قليل لا يمثل أخطاء جوهرية.
تدلنا المؤلفة في بداية دراساتها علي سبب إعجاب جوته بالعرب وافتتانه بهم علي نحو ما توصلت إليه من دراساتها العميقة والمتوسعة فتري أن العرب كانوا بالنسبة له أمة تبني مجدها علي تراث موروث وتمسك بعادات تعارفت عليها منذ القدم، وأنهم ـ أي العرب ـ يحرصون علي الفخر بالنفس والاعتداد بالنسب والاعتزاز بطرائق حياة الآباء فضلاً عن أصالة قريحتهم الشعرية وتذوقهم للغة وقدرتهم علي التصور والتخيل وارتباط شعرهم بالطيبة وبالحماسة والحمية والظرف إلي جانب الحب العارم والبر والإحسان وكرم الضيافة بالإضافة إلي سمات متناقضة كالتمسك الكامل بالدين من ناحية والروح المستنفرة الوثابة التي لا تأبه بالمسالمة حتي تأخذ الثأر من ناحية أخرى.. أو المبالغة وذرابة اللسان والفخر بالحماسة من ناحية، والحلم والحنكة وسداد الرأي والقدرة علي صياغة الحكمة بالعبارة الموجزة والتسليم بالقدر من ناحية أخرى.
وتعرض لنا المؤلفة علي سبيل المثال وجهة نظرها في السبب الذي دفع جوته إلي أن يترجم إلي الألمانية قصيدة «تأبط شرا» اللامية المشهورة وتري المؤلفة أن هذا الشاعر كان قد حرَّك في صدر جوته وتراً مشابهاً له علاقة بما ذكره في سيرة حياته «شعر وحقيقة» عن تحدي الآلام، وأن هذا السبب هو نفسه الذي دفعه إلي كتابة مجموعته الشعرية «نفخات مُدجنة» ومجموعات شعرية أخري تدل كلها علي عودة الروح النضالية من جديد إلي جوته في شيخوخته.
ولا يقف الدور الذي أخصب به الشعراء العرب شاعرية جوته علي التوافق في نمط التفكير والسلوك أو الطبع الذي لمسه الشاعر الألماني لدي الشعراء العرب، ففي كثير من الحالات كان احتجاجه علي ما يقرؤه ويطالعه هو الذي يحرك قريحته الشعرية.
وفيما يتعلق بألف ليلة وليلة علي سبيل المثال تري المؤلفة أن جوته قد استدعي – في الكثير من أشعاره – شهرزاد وعبّر عن بواعث معينة علي لسانها، وأنه كان يقارن نفسه (بوصفه شاعراً وروائياً) بشهرزاد، وكان يقوم بهذا بوعي تام وبصورة مستمرة، بل تعتقد المؤلفة أن هذه المقارنة تكشف عن جوانب شاعريته التي كانت تبدو لدارسيه وللمعجبين به غاية في التعقيد، كما تفسر لنا ولعه ـ ولع جوته ـ بنوع معين من أنواع التركيب والتداخل في سرد الأقاصيص، وتمضي المؤلفة إلي القول بأن مفتاح فهم روايته «سنوات تجوال فلهلم مايستر» يكمن في أن جوته كان ينهج نهج شهرزاد.
كذلك تري المؤلفة أن ما يبدو لنا من إهمال في البناء الشكلي في رواية «سنوات التجوال» لم يكن أبداً بسبب ما قد يرافق الشيخوخة من كسل وتقاعس كما قد يعتقد بعض النقاد ، وإنما هي طريقة السرد لأقاصيص مختلفة بصورة متداخلة وتقديمها علي شكل «باقة من الزهور المتشابكة» وأن ألف ليلة وليلة هي التي أرشدت جوته إلي أسلوب السرد هذا، بل إن المؤلفة تمضي حتي تثبت لنا نصاً كتبه جوته في رسالة إلي أحد أصدقائه ( مؤرخة في 27 يناير 1829) يقول فيه إن طريقته في كتابة «سنوات التجوال» كانت تقوم «علي طريقة السلطانة شهر زاد»، وهكذا تبدو القضية التي أثارتها المؤلفة، وقد حسمت تماماً لصالح فكرتها التي عرضتها بمنتهي الوضوح منذ البداية
وتنبهنا المؤلفة العظيمة إلي أن جوته كان يري أن جوهر السرد وروعته يكمنان فيما يسببانه من «حب استطلاع قد يستثار إلي حد جامح ومن ثم ينبغي علي القاص أن يسعي إلي تعليق السرد للاستثارة كما يتعين عليه الاستثارة بانتباه السامع عن طريق شده بكل الأساليب الفنية الممكنة».
وتري المؤلفة أن جوته قد انتهج هذا الأسلوب في مؤلفه «أحاديث مهاجرين ألمان».
وعلي نفس النمط فإن سيرته «شعر وحقيقة» قدمت للقراء في شكل مسلسلات تفصل بينها فترات زمنية متباعدة.
وتثبت لنا المؤلفة أن جوته كان حريصاً في ثلاث رسائل من رسائله علي أن يسمي هذه المؤلفات «الألف ليلة وليلة العجيبة من حياتى».
وهكذا يتأكد للقارئ ما بدا له في الأفق عند بدء مطالعته لهذا الكتاب أن هذه الأستاذة الدارسة كانت بمثابة الوحيدة القادرة علي أن تقدم هذه الدراسة الموثقة بحكم دراستها العميقة والواعية للنصوص الأدبية التي تركها جوته، وكذلك بحكم دراستها المستفيضة لنصوص رسائله ومذكراته بل ولسجل الكتب المستعارة في مكتبته والمتبادلة مع أصدقائه.. إلخ) فإذا بنا نراها وهي تعايش جوته ـ من أجلنا أو من أجل دراستها ـ يوماً بيوم وسطراً بسطر وخلجة بخلجة.
وفيما يتعلق بالموضوع (بعد الشكل) تثبت المؤلفة أن جوته قد استلهم كثيراً مادة وموضوعات ملموسة من ألف ليلة وليلة، في أعمال أدبية كثيرة ابتداء من عمله الدرامي المبكر «نزوة العاشق» وانتهاء بآخر أعماله وهو «القسم الثاني من فاوست» وتصل المؤلفة إلي القول بأن جوته قد استعار مجموعات متكاملة من الموضوعات الأساسية ومن المشاهد من ألف ليلة وليلة، وعلي سبيل المثال فقد استعار في مسرحيته المبكرة «نزوة العاشق» الاسم العربي لبطلته «أمينة» والمعالم الكلية لهذه الشخصية التي تلاحقها الغيرة، وهكذا يتطابق المغزي الذي يسود هذه المسرحية مع مغزي القصة التي في ألف ليلة وليلة حيث يُدفع رجل جامح الغيرة للندم علي شكه وسلوكه الأناني الفظ.
وتري المؤلفة أن هذا ينطبق أيضاً علي حكاية «باريس الجديدة» و«ميلوسينية الجديدة»، وهي تؤكد كذلك أن جوته قد استعان في الجزء الأخير من روايته «الأنساب المختارة» بقصة «أبو الحسن وشمس النهار» من مجموعة قصص ألف ليلة وليلة كما استفاد في «الأقصوصة» من حكاية «الأمير أحمد والجنية باريبانو».
وتعتقد المؤلفة أن جوته وهو يكتب الجزء الثاني من فاوست قد وجد في ألف ليلة وليلة الحلول لمشكلات فنية كانت غاية في التعقيد والإشكال وهي تعتقد أن طبعة برسلاو (ألف ليلة وليلة… قصص عربية تنقل لأول مرة كاملة ومزيدة عن مخطوطة تونسية من قبل، برسلاو، 1825) التي أرسل ناشرها نسخة منها إلي جوته وقت صدورها قد ألهمت جوته فيما يتعلق بفاوست إلهاماً شبيهاً بالإلهام الذي تركته ترجمة المستشرق النمساوي «هامر» لديوان حافظ علي «الديوان الشرقى» لجوته.
وتتتبع المؤلفة اهتمام جوته منذ مرحلة مبكرة بالأقطار العربية وتعلم اللغة العربية، وتكشف لنا عن أنه كان حريصاً في شبابه علي الاتصال بالأستاذ ميشائيليس أستاذ العهد القديم واللغة العربية في جامعة جوتنجن، كما تدلنا المؤلفة من خلال سجل الإعارات في مكتبة فايمار علي أن جوته قد استعار ولأكثر من مرة كتاب نيبور «صور وصفية لبلاد العرب»، وكذلك كتابه «رحلة وصفية لبلاد العرب ولما يحيط بها من بلدان» وتؤكد الدراسة علي أن جوته كان منذ شبابه وطيلة حياته مولعاً ولعاً شديداً بأدب الرحلات وأنه أكد فيما كتب من «تعليقات وأبحاث تعين علي فهم الديوان الشرقي للمؤلف الغربى» علي أنه استمد أنفع المعلومات من أوصاف الرحلات ومن سائر الوثائق المشابهة التي اقتطفها الرحالة الغربيون الذين تجولوا في الشرق… وإن كانوا قد قاموا بذلك مواجهين الصعوبات والأخطار ونقلوها إلينا لنتعلم منها دروساً رائعة».
وتدلنا المؤلفة علي أن سنوات الدراسة في ليبزج لم تكن هي العامل الأكثر أهمية في إيقاظ اهتمام جوته بالثقافة العربية، إذ أنها تعتقد أنه كانت لسنوات الدراسة اللاحقة في مدينة ستراسبورج أهمية أكبر، إذ تحقق له فيها اللقاء الخصب مع «هردر» الواسع الاطلاع والدقيق المعرفة بالأدب العالمى.
وتعتقد المؤلفة أن «هردر» هو الذي وجه جوته لدراسة القرآن الكريم والشعر العربى، وقد كان هردر الذي يكبر جوته بخمس سنوات قد أشاد بلغة العرب وأشعارهم في كتابيه «شذرات»، و«الغابة النقدية الصغيرة» اللذين نشرهما قبل لقائه بجوته، ثم في كتابه «أفكار» الذي نشره في أربعة أجزاء فيما بين 1784 وحتي 1791 والذي يلمس القارئ فيه صدي إكبار كل من جوته وهردر للشعر العربي القديم بل وإعجاب هردر بالعرب أنفسهم إلي الحد الذي تعبر عنه عبارة هردر في هذا الكتاب التي يقول فيها: «ولا يوجد شعب شجع الشعر وارتقي به إلي تلك المنزلة التي ارتقي به إليها العرب في عصورهم الزاهية».
وتروي المؤلفة أن جوته قد أقام صداقة حميمة مع الأستاذ آيشهورن وأن جوته كان يقدر هذا العالم الجليل ويري فيه عالماً دقيقاً في مجال اللغتين العربية والعبرية، كما أنه عاصر نشره لكتابه «الذخيرة في أدب الكتاب المقدس وأدب المشرق» ونشره لكتاب رايسكة «رسائل حول المسكوكات العربية» وتذكر الدراسة أيضا أن آيشهورن لم يهد جوته نسخاً من دراساته فحسب ولكنه أهداه (1777) نسخة من كتاب وليم جونز: «شرح القصائد الآسيوية السبع».
وتدلنا الدراسة القيمة التي يتضمنها هذا الكتاب علي آراء جوته المبكرة في المعوقات التي تواجه الدراسات العربية الفنية في الغرب والتي نوجزها في عدة معوقات لخصها جوته في هيمنة المعيار الكلاسيكي المطلق القائم علي الأسس الجمالية السائدة في الأدبين اليوناني واللاتيني وكذلك في الميل الواضح للانتقاص من قيمة الفن الشعري الشرقى، وتستخرج المؤلفة من نصوص مختلفة كتبها جوته ما تدلل به علي جوهر ما أعرب به عن شعوره بأن العالم الانجليزي العظيم جونز «صاحب شرح القصائد الآسيوية السبع» كان يحس بالألم الشديد من هذا الانتقاص.
كذلك تذكر الدراسة أن جوته قد ارتبط طيلة ثلاثين عاماً بأواصر صداقة حميمة وعائلية بباولوس أستاذ اللغات الشرقية الذي ساعده جوته نفسه علي أن يخلف آيشهورن في كرسي أستاذية اللغات الشرقية في جامعة «ينا»، وأن باولوس علي الرغم من دراسته للاهوت البروتستانتي ابتداء من 1796، إلا أنه لم يكن لاهوتياً متزمتاً بل كان من أنصار الاتجاه العقلاني ومن ثم فإنه كان علي انسجام تام مع موقف جوته الفلسفي المتأثر بأفكار اسبنوزا، وتدلل المؤلفة علي هذا الاستنتاج بما تنقله لنا من مفكرات جوته اليومية التي ترجع تواريخها إلي عام 1801.
وتروي المؤلفة في كتابها القيم أنه لاتزال هناك مجموعة كبيرة من الصحائف التي تعود إلي الفترة الواقعة ما بين عامي 1814 و1819 مكتوبة بخط جوته وهو يحاول تعلم الخط العربي بينما كان عمره يتراوح بين الخامسة والستين والسبعين عاماً، وتبلغ المؤلفة في استنتاجاتها الحد الذي يدفعها إلي القول بأن اتصال جوته باللغة العربية عن طريق رؤية المخطوطات قد أثار لديه إدراكاً حدسياً لماهية اللغة العربية وجوهرها، وأن هذا الإدراك يستحق أن يقف المرء عنده بالتأمل الكافي لأنه ينطوي علي جرأة وأصالة، فجوته «يزعم» أنه من المحتمل ألا توجد لغة ينسجم فيها الفكر والكلمة والحرف بأصالة عريقة كما هي الحال في العربية!! (وردت هذه العبارة في رسالة من جوته إلي شلوسر في يناير 1815 كما ذكرت المؤلفة) وتبدي المؤلفة عجزها عن فهم مدلول هذا النص الذي كتبه جوته، ولكنها تحاول شرح ما يكمن وراء هذه العبارة المدهشة علي حد تعبيرها علي مدي فقرات طوال.
ويصل الأمر بجوته إلي أن يقول «إن كل مَنْ يتكلمون العربية واللغات الوطيدة الصلة بها يولدون شعراء وينشأون كذلك» وتحاول المؤلفة دراسة مقصد جوته من وراء مثل هذا التقرير دون أن تدعي أنها بلغت أحكاماً قاطعة تثق من صوابها، ولكنها علي كل حال تقدم نصوص جوته محاطة بكل ما يعين علي فهمها في الوقت الذي كُتبت فيه.
وتدلنا المؤلفة علي أن جوته قد اكتشف قبل غيره خاصة «حضور البديهة» التي تميزت بها الأمة العربية، وقد كتب جوته نفسه في ملحق الديوان الشرقي أن حضور البديهة هذا يدل عليه ما اعتاده العرب من التمثل بآيات القرآن الكريم وبقصائد مشاهير الشعراء، وبناء علي هذه «المرونة العقلية» يذهب جوته إلي أن الأمة العربية في مجموعها تتمتع بحضور البديهة، وأن الطابع الأعلي للشعر عندهم هو ما يسميه الألمان بالروح Geist وفي هذا يقول جوته ما نصه:
«إن هؤلاء الشعراء تحضرهم كل الأشياء ويربطون بسهولة بين أشد الأشياء بعداً وتبايناً، ولهذا فإنهم يقتربون مما نسميه بالذكاء أو روح الدعابة، ومع ذلك فإن هذه المزايا ليست مقصورة علي الشعراء وحدهم فالأمة كلها تتميز بالفطنة، والدعابة كما يُستنتج من الحكايات والنوادر التي لا حصر لها».