لاجدال في أن طاهر أبو فاشا يمثل ظاهرة متميزة في الأدب العربي المعاصر، فهو واحد من أبرز الشعراء العرب المعاصرين، وقد امتد نشاطه الأدبي علي مدي سنوات طويلة، حافلة بالعطاء المستمر الدءوب والإبداع المتميز، وقد نشرت له عدة دواوين شعرية مهمة، وقد ظل أبو فاشا يحتفظ بمكانة مرموقة علي الرغم من انجذاب الأضواء الإعلامية أو توجيهها عن قصد وإرادة ناحية شعراء مدرسة الشعر الحر أو القائلين بأهمية التحرر من العمود الشعرى!! مع هذا فقد ظل أبو فاشا حاضرا بكثافة في الوجود الأدبى، وربما كانت المساهمات الإذاعية لأبو فاشا وأشهرها إعداده الإذاعي (ثم التليفزيونى) لقصة ألف ليلة وليلة، بمثابة أحد الأسباب وراء بقاء اسمه دوما في دائرة الضوء.. ربما بأكثر مما هو متاح لأي شاعر عمودي آخر كعامر بحيري مثلاً.. ولكن الحقيقة أن هذا السبب لم يكن وحده المسئول عن بقاء أبو فاشا في الصف الأول، وإنما كانت هناك أسباب عديدة أخرى، منها أنه كان حاضرا بشخصه اللطيف و بخفة ظله ومساهماته الحقيقية، فضلاً عن علمه باللغة، وتاريخ الأدب القديم والمعاصر، وهي أمور جديرة إذا اجتمعت بأن تستحوذ علي إعجاب مواطنيه وقرائه.
لكن المفاجأة تمثلت في أن الأستاذ أبو فاشا كان هو الآخر يتجدد دائماً مع الزمن، بل ويكتب الشعر الجديد الذي يلتزم فيه التفعيلة البعيدة عن القافية، ومن هذا النوع تأتي قصائده التي يضمها هذا الديوان!
وقد خصص أبو فاشا هذا الديوان الجديد بأكمله لرثاء زوجته الراحلة السيدة «نازلي المهدى» [توفيت في سبتمبر 1979].. وفي مقدمة طويلة [بالقياس إلي حجم الديوان كله] يقدم أبو فاشا للديوان بالحديث عن ظروف كتابة هذا الديوان.
وهو يعترف في صراحة نادرة بكثير مما لا يعترف به غيره من مقارنة حاضر جاف بماض ممتع:
«… وأنا مخلوق مرح يحب الحياة، و تستهويه أسباب المرح، والمعابثات التي نهزتُ بدلوها عندما كانت الأيام مقبلة، والحياة حياة.. فلما خطت علي بثقلها الليالى، ورحلت شريكة حياتي تركتني وحيدا، وما بقي من أيامي التي أصبحت معدودة ولا معني لها غير انتظار اليوم المحتوم».
وعلي هذه الوتيرة تمضي معظم قصائد هذا الديوان وأبياته التي تعبر عن شيخ فان أزعجه رحيل زوجته قبل رحيله:
«وكم كنت أود أن يكون يومي قبل يومها حتي لا أحرم من رعايتها التي توقظها معاني العطف والرحمة والحنان عندما تصل بي الحال إلي اشتداد الحاجة إلي هذه الرعاية»
ولهذا فإننا نجد هذا الديوان وهو يحمل طابعاً مختلفاً عن الطابع الذي قد يتمثل في أعمال شعرية أخري تتعلق في العادة بذات المناسبة، فتلفت إلي رثاء الزوجة وذكر مناقبها والتركيز علي ما كان يستشعره الراثي وجودها من سمو أخلاقها وحياتها وعطفها و.. إلخ، ولكننا علي صفحات هذا الديوان نجد أنفسنا وكأننا لا نقرأ إلا رثاء الشاعر لنفسه هو وقد أصبح وحيداً غريباً بعد رحيلها.. وهذا هو المعني الذي حرص أبو فاشا علي تأكيده وإبرازه في كل أبياته تقريبا، وهو يفعل هذا دون أن يعنيه أننا سنتساءل عما إذا كان قد انتبه إلي طغيان هذا المعني الذاتي علي كل صوره الشعرية في هذا الديوان، أم أنه حسبما يتصور بعضنا لم يكن راغباً في أن يطغي هذا المعني إلي هذا الحد.. وهو الحد الذي يتضح تماماً في البيت الذي جعله أبو فاشا بمثابة افتتاحية للديوان، وخصص له الصفحة الأولي من النص الشعري كله:
أيهذا النديم أفرغ كأسى قد تولي زمان تلك الكأس
وأظن أنه من هذا البيت يمكن لنا أن ندخل إلي رحاب ديوان أبو فاشا، وأن نتجاوز في فهمنا لهذا الديوان حتي نصل إلي ما أراده صاحبه، سواء أكانت هذه الإرادة علنية أم سرية، أقصد سواء أكانت واعية أم غير واعية، وربما بدا لنا أن وعي أبو فاشا لمكانة ديوانه في الشعر العربي لا ينقصه تقدير الذات للذات ولا تقديره لمكانة ديوانه وهو الذي يعد ديوانه حين يحدثنا عن هذه المكانة فيقول:
«إنه الرابع في مكتبة الشعر العربى.. فلا توجد في التراث دواوين خاصة برثاء الزوجات. صحيح أن الشعراء الذين ماتت عنهم زوجاتهم قالوا فيهن رثاء.. لكنه قصيدة أو قصيدتان، أما أن يكون الديوان خالصاً لرثاء الزوجة، فهذه ظاهرة أدبية لا نجدها في كتب التراث،لكنها ظهرت في هذا العصر علي قلة، فلم يصدر ديوان كامل في رثاء زوجة فيما نعلم إلا لثلاثة من الشعراء: عزيز أباظة وعبدالرحمن صدقي والدكتور رجب البيومى…».
وأبو فاشا بعد هذا يقول: «فأردت أن يكون ديواني هذا «دموع لا تجف» زفرات أسير بها في مواكب هذه الدموع».
ربما كان هذا هو رأي أبو فاشا الناقد، ولكن يبدو أن أبو فاشا الشاعر لم يكن من رأي ذلك الرجل!!
ذلك أننا نجد أبو فاشا ـ كما ألمحنا ـ يرثي نفسه ويأسف لحاله بعد رحيل زوجته، وهو يفعل هذا مراراً وتكراراً دون أن يرثي زوجته، وربما كان هذا في نظر البعض أبلغ من رثائه لها، وأبلغ في التعبير عن هذا الرثاء وهذا الافتقاد، ولكني لا أزال عند رأيي في أن أبو فاشا كان في الحقيقة يرثي نفسه.. وربما لا يكون ديوانه إذن هو الرابع في سلسلة هذه الدواوين، وإنما هو ديوانه الخامس فحسب!
ولنتأمل معاً: أليست هذه الأبيات التي يتحدث فيها عن أيامه الحالية رثاء للذات:
«والليالي تسير خلف الليالى
حاملات حقائب الآجال
نائم القلب غافل لا يراها
أو ليراها لكنه لا يبالى
آه.. لو يفهم الألم
آه.. لو يعرف الندم».
[من قصيدة قلت للكأس]
كذلك يبدع أبو فاشا في موضع آخر معبراً تعبيراً غير مسبوق عن افتقاد النفس الشريك الذي أصبح لا يراه بينما هو لا يري سواه.. ذلك الأنيس الذي افتقد به شاعرنا الأنس والأنيس،فإذا هو يقول في قصيدة «رويدك ياعينى»:
«رأيت الليالي آسيات جوارحا
فما لليالينا تصيب ولا تأسو
ولو كان جرح الجسم هان احتماله
ولكنه جرحٌ تكابده النفسُ
فوارحما للقلب.. كيف اصطباره
وآه علي عهد تولي به الأمس
وآه علي مَنْ لا يرانى، ولا أرى
سواه، ومَنْ يحنو علي ولا يقسو
لقد مال صفو العيش بعد رحيله
وأصبحت وحدي لا أنيس له ولا أنس».
ونحن نهتز تأثراً حين نجد المعني ذاته وقد اكتسي بقوة تعبيرية هائلة في موضع ثالث يختزل فيه الشاعر الموقف الذي يحياه إلي أنه أصبح في صورة القول بلا فعل، ومن ثم فإنه أصبح لا يعيش:
«إذا ما مضي أمسي فكيف أعيش
وقد صار قولا لا يضاجعه الفعل».
[من قصيدة «يقولون لى»]
هل نستطيع أن نتجاهل قيمة استعارة الفعل «يضاجعه» لهذه الجملة.. أليس هذا هو ذات المعني الذي يبرز من ذات القصيدة، بعد بيتين أو ثلاثة حين يقول شاعرنا أبو فاشا:
«فدعني أعش فرداً ببيداء وحدة
عواصفها كثر، وأنسامها قُل».
هل يفتقد أبو فاشا إذن جزءا من نفسه علي سبيل الإجمال وهو يفتقد المعيشة التي كان قد تعودها وتعود عليها، ويصبح في مواجهة معيشة جديدة طابعها صحراوي جاف ملىء بالعواصف ومفتقد في ذات الوقت للأنسام؟
هل يكفينا تصوير الحياة الجديدة ومقارنتها بالحياة القديمة لكي يكون هذا التصوير مهما أوتي من قوة علي الإيحاء تعبيراً عن رثاء شاعر لشريكة حياته؟
أليس لنا أن نتعجب من أن أبو فاشا مع هذا الشعور بالوحشة لا يذكر لنا ولا يصور كثيراً ولا قليلاً من شمائل هذه السيدة العظيمة إلا فيما ندر، وكأنه يظن رثاء الزوجة شيئاً آخر غير الرثاء الذي نعرفه، ربما لا يكون في هذا النمط ما يقلل من قيمة هذا الديوان ولا شاعريته ولا شاعرية صاحبه، بل ربما يكون هذا الاختلاف البين أدعي إلي البحث في قيمته الشعرية والنفسية من حيث نجاحه في تصوير وتجسيد الزاوية التي ركز عليها وقد بدت واضحة في عرضنا أو استعراضنا أو انتقائنا لما اقتطفناه من أبيات الديوان.
لنمض إذن مع صفحات هذا الديوان ومع صاحب الديوان وهو لا يزال عند رأيه في انتهاج هذا المنهج المتفرد في رثاء الراحلة العزيزة عليه، والتعبير عن هذا الافتقاد بافتقاد الذات، وكأنما يمنعه الحياء الشرقي من أن يصور زوجته علي نحو ما ينبغي أن تصور ملهمة رحلت، أو راعية فارقت، وإذا هو يكتفي بأن يصور ما يعانيه نتيجة غيابها الذي جعله يفتقد كثيراً من مقومات حياته هو نفسها، ولم لا؟ وقد كانت زوجته الراحلة تمثل له ما يتنفسه في الفجر، وما غرسه في الماضى، وما ناله من نعمة الله فيها، وهو يناجيها ويناديها فيقول:
«يا نسمة الفجر التي نشقتها
ياجنة الحب التي غرستها
يانعمة الله التي فقدتها
ورحت بعدها أعاتب الزمان
ولا عتاب للزمان
فهذه حكمة الأقدار
وليس لي في ذلك اختيار
ولا اصطبار».
[من قصيدة «هذه الغربة»]
علي هذا النحو يعبر أبو فاشا عن أيامه التي انقضت منذ عام تسعة وسبعين (1979) الذي شهد رحيل زوجته، وهو يتحدث عن هذه الأيام في لوعة وحنين إلي الفترة الممتدة التي سبقت هذا الرحيل وذلك الافتقاد، وهو حين يصور الفارق بين هذين الزمنين المتعاقبين، نجده قد أجاد التعبير بقوة عن جوهر الضياع الذي أصبح يعانيه بعد فقد شريكة حياته.
وهو حين يصف أيامه الخالية يعبر عن حنان دافق وحب مقيم لهذه الأيام بكل ما احتوته من أوقات اليوم المختلفة، سواء في ذلك ضحاها أو أصيلها، وبكل ما فيها من نسمات حانية وظل ظليل، وهو يعبر عن اشتياقه إلي عودة هذه الأيام وجوها البديع الذي قدر له أن يعيش فيه علي نحو ما عاش في تلك الفترة، وهو لا يجد حرجاً ـ أي حرج ـ في أن يكثر من التعبير عن هذه الرغبة وهذا الحنين علي الرغم من أن قلبه عليل ومتيم بوادي الراحلين:
«ربوع بها ألقي الربيع رحاله
وطاب له فيها ضحي وأصيل
تحس كأن الظل فيهن نسمة
وكل نسيم فوقهن ظليل
أحن لوادي الراحلين ومَنْ به
وقلبي بوادي الراحلين عليل».
[من قصيدة حنين]
وحين يتحدث أبو فاشا عن الحب الذي كان بينه وبين زوجته الراحلة، تطالعنا أفكار غريبة عن الشعراء.. ولكنها ليست غريبة عن أفكار الشبان:
«كانت تحبنى
ولم أكن ذيالك الفتي الوسيم
أو الذي بمثله أمثالها يهيم
لكنها
تجاوزت كل الذي تراه عينها
لأنها
لم تر غير ما رآه قلبها
إذ نظرت لما وراء الظاهر».
[من قصيدة: «وكانت تحبنى»]
هل يري أبو فاشا في نفسه فيما وراء الظاهر ما لا يبدو من ظاهره؟
وما هو هذا الذي كان فيما وراء الظاهر؟
يمضي القارئ مع طاهر أبو فاشا ليكتشف أن الشاعر كان يقدر في نفسه شاعريته، ومن ثم فقد كانت زوجته هي الأخري ـ في نظره أو فكره ـ تقدر فيه هذه الشاعرية، ولهذا فقد رأت بقلبها هذه الشاعرية حين نظرت إلي ما وراء الظاهر:
«حيث التقت في داخلي بالشاعر
في عالم يفهق بالمعانى».
وربما نتعجل ونظلم أبو فاشا الذي يوظف أبياته في رثاء زوجته لما يبدو وكأنه الفخر بنفسه ولكن حقيقة الأمر أنه كان يرثي فيها قدرتها علي اكتشاف الجانب الخالد من شخصيته، علي أن هذا لا يحول بيننا وبين أن ندرك جوهر الحقيقة في تقدير عميق يضفيه الشاعر علي هذه السيدة التي تمكنت من أن تتخطي حجب الظاهر حتي استطاعت تقدير الشاعرية والالتقاء بها.. وهي نعمة لا تصل إليها ـ بالطبع ـ كثيرات من السيدات ولا الفتيات بالطبع!!
ولست أظن ديوان أبو فاشا بكل ما فيه، قابلاً لهذا الاستعراض السريع الذي قدمته عنه، فهذا ديوان يصعب علي قارئه أن يتركه بعد الانتهاء من قراءته الأولي من دون أن يشرع في قراءة ثانية، ويشق عليه أن يشرع في هذه القراءة من دون أن يكملها وهو يعيش هذه اللحظات الشجية مع هذا الشاعر المُجيد.