الرئيسية / المكتبة الصحفية / الشاعر سعد درويش وقصيدة اللحن الأخير

الشاعر سعد درويش وقصيدة اللحن الأخير

في بداية صيف 1978 أتيح لي أن أعرف الأستاذ سعد درويش مدير عام النشر في الهيئة المصرية العامة للكتاب، حيث تقدمت بكتابي للنشر في الهيئة، ومنذ عرفت هذا الرجل لم أفرط في معرفته علي الرغم من أنه كان صعب المراس فيما يبدو لبعض الناس، ولكنه كان يتمتع ـ في الحقيقة ـ بشخصية آسرة ودودة محبة متواضعة، فضلا عن رفعة خلقه ورهافة طبعه، وكان النشر في ذلك الحين يقتضي كثيرا من التردد علي الهيئة لمراجعة البروفات المتتالية ومراجعة تنفيذها علي ماكينات الجمع الآلى، ثم لمتابعة المونتاج وتوزيع صفحات الكتاب، وكان هذا كله يتم بطريقة يدوية داخل إطارات من الحديد لا تسمح بالوجود لسطر زائد علي طول الصفحة.. لا أريد أن أستطرد إلي التجربة العريضة التي أفدت منها الكثير، ولكني أردت أن أعطي إيحاء بالجو الهادئ الرتيب الذي كنت ألتقي فيه بالأستاذ سعد درويش، سواء في مبني الهيئة الجديد المعروف للناس الآن علي كورنيش النيل، أو في مكتبه القديم في «المبيضة» فيما بعد مدرسة الساليزيان دي بوسكو الإيطالية، وقد سميت هذه المنطقة من مناطق حي شبرا «المبيضة» نسبة إلي دار الصباغة التي كانت تتولي تبييض المنسوجات في ظل النهضة الصناعية الكبري التي أسسها محمد علي باشا الكبير.

وكان ما يجمع هذين المكانين بقصر العيني حيث كنت أدرس في ذلك الوقت في كلية الطب هو كورنيش النيل، وهكذا كنت أنتهز الساعات الانتقالية في جدول كلية الطب في يومين من أيام الأسبوع فيما بين الحادية عشرة والواحدة للذهاب إلي الهيئة والعودة منها عبر طريق الكورنيش الذي غيره الزمان.

وشاء القدر أن يعاني الأستاذ سعد درويش من بعض صعوبات مرضية، وكانت عنده قدرة رهيبة على الاستماع إلى آراء أكثر من عشرة من أساتذة الطب في نفس الموضوع دون أن يكل أو يمل، وكان يناقشني في رأي كل واحد منهم، وكانت هذه تجربة طيبة ثرية خضتها قبل أن أصبح طبيبا بالفعل، وتعلمت منها ما ينبغي أن يلتزم به الطبيب من دقة تامة في حديثه مع المريض، لأن المريض (على نحو ما رأيت في أولى تجاربى) لن يقف عند حدود ما قاله وإنما سيمحص كلامه أمام عشرة آخرين على الأقل، ومن السهل عندئذ على المريض أن يكتشف مدى الخلط أو التخليط الذي يقع فيه طبيبه.. وهكذا تعلمت حتى من قبل تخرجي بفترة كافية وطويلة أن أكون محددا جدا، وأن أكون في ذات الوقت متقبلا لاحتمال أن يكون ما أنطق به خطأ ولكنه يمثل الصواب في نظري بعد بذل جهدي بحدود معرفتى.

كما تعلمت من هذ التجربة ما لا أزال بحمد الله أتمتع به من أن أقول «لا أعلم» حين لا أعلم، وتعلمت أيضا أن أحاول الاستزادة من العلم بالفروع المختلفة من الطب ومن العلم والمعارف بحيث أكون قادراً لا علي الإحاطة بكل شىء ولكن علي الحكم علي الأمور بدرجة أكبر من وضوح الرؤية.

وفي غمار هذه التجربة الإنسانية والمهنية المبكرة فتح لي الرجل العظيم قلبه الذي يبدو أنه لم ينفتح لكثيرين من قبلى، ولم يبخل علي برأيه في كثيرين من أعلام الفكر والأدب، ولا أزال حتي اليوم متأثرا بكثير من آرائه الصائبة، كما أني لا أزال أحتفظ في ذاكرتي ببعض صور لبعض المواقف التي شهدتها معه.

من ذلك أنه أعطي موعدا لوزير سابق ليراجع معه رأيه في بروفات كتاب ألفه الوزير السابق، وفي الموعد المحدد تعجب الأستاذ سعد درويش من أن الوزراء أصبحوا هم أيضا يتأخرون عن موعدهم ولم تمض دقائق حتي حضر الوزير المؤلف.

ومن ذلك أنه كان ينظر في كل ورقة من ورقات الكتاب أمام الضوء المنبعث من مصباح الفلوروسنت ليتأكد من أنها لا تحتوي كتابة في ظهرها.

ومن ذلك أنه كان في البروفة الثالثة يأمر بإعادة عرض الصفحات التي لم تنج بعد من الأخطاء المطبعية.

ومن ذلك أنني وجدتهم في إدارة النشر يجهزون قائمة بعناوين الأبواب أو الفصول إضافة إلي عنوان الغلاف حتي يقوم الخطاط بكتابتها، فرأيت أن أعد قائمة بفصول كتابي كلها كي يكتبها الخطاط، فلما رأي هذه القائمة وكان لابد من اعتمادها منه استبقاها علي مكتبه وطلب من موظفي الإدارة أن أمر عليه عند حضوري للمتابعة، فلما لقيته إذا به يقنعني بعكس رأيي بمثل بسيط جدا وهو أن كتب الطب الأجنبية التي أدرس فيها لا تحتوي علي أي عنوان بخط اليد، ولم أكثر من النقاش والاستناد إلي جماليات الخط العربي.. إلخ، وبعد 15 سنة بالضبط تم اختياري (برضا الطرفين) محكما بين رئيس مجلس إدارة إحدي دور النشر ومدير النشر في الدار، وكانت نقاط الخلاف كثيرة، ولكن أولاها أن مدير النشر لا يكف عن التعنت في التخلي عن بعض ذوقيات الرئيس وأولها الخطوط والعناوين الداخلية علي حين أن الرئيس كان مغرما بكثرة الخطوط اليدوية في العناوين الداخلية.. واسترجعت قصتي القديمة في لمح البصر وقصصتها فإذا بأسارير الرجلين تنفرج وإذا هما يسألانني كيف أمكن لي التوصل إلي هذا الحكم السريع الحاسم بهذه السهولة.. وكان جوابي من شقين: الشق الأول هو أنهما كانا يعرفان ذلك لذلك اختاراننى، فضحكا وهما يعرفان من طريقتي أن الشق الثاني هو السبب الحقيقى، ولم أبخل عليهما به للتو واللحظة، ولم يكن أيهما قد تعامل مع الرجل تعاملا مباشرا، لكنهما كانا يعرفان فضله.

ومن طرائف الأستاذ سعد درويش أن أحد أطبائه كتب له تقريرا عن حالته باللغة الإنجليزية ووضعه في ظرف ـ غير مغلق  ـ باسم الطبيب الذي حوله إليه، ولم يشأ أن يدلي للأستاذ سعد درويش بما في التقرير، وكان الرجل يروي لي القصة متعجبا من سذاجة الطبيب الذي إن ظن أن مريضه ـ أي سعد درويش ـ لا يعرف الإنجليزية فإنه قادر بالطبع علي أن يعطي التقرير لمن يقرؤه له ويفهمه ما فيه.. وكان يعبر عن هذا المعني باللفظ العامي الجميل «يستقرا».. ولم يكن الأستاذ سعد يعرف أو يتوقع أن بعض الأطباء يفعلون هذا حين يفضلون عدم فتح الباب للمناقشة مع المريض وهم يتصرفون وكأنهم سذج بينما هم يجدون في هذا التظاهر بالسذاجة سبيلا إلي بعض راحة البال.

نأتي بعد كل هذه اللقطات التي أردت أن أصور بها بعض ملامح شخصية الرجل إلي لقطة مؤثرة، كان يراجع معي صفحات نهاية الباب الأول من كتابي عن «محمد كامل حسين»، وكان يحب محمد كامل حسين منذ أن اشترك في العمل معه ومع العقاد في لجنة الموسوعات في مرحلة سابقة، كما أنه كان متذكرا لتفصيلات معركة محمد كامل حسين والعقاد، وكانت صفحات نهاية الباب الأول تتضمن بعض أبيات من قصيدة لأستاذ الهندسة الكبير الدكتور إبراهيم أدهم الدمرداش في رثاء محمد كامل حسين، وكعادة الشعراء شدت أبيات الشعر (المجموعة بطريقة الشعر) انتباه الرجل الشاعر فأخذ يقرأ الأبيات التي اخترتها إلي أن وصل إلي قول إبراهيم أدهم الدمرداش:

أفكاره أزواجه وبناتهü

فأخذ يردد هذا الشطر، ويعقب أن محمد كامل حسين لم يتزوج شأنه شأن العقاد، ولم يشأ أن يضيف وشأن سعد درويش الذي هو المتكلم، ولم أكن أنا أيضا  ـ وأنا المستمع ـ  أتوقع أنني سأكون مثل ثلاثتهم.

علي كل الأحوال ظل سعد درويش وهو شاعر متمكن معجبا كل الإعجاب بهذا الشطر:

أفكاره أزواجه وبناته

ومرت الأيام وحين قدر لي أن أنشر خارج نطاق الهيئة أهديت إليه بحروف المطبعة كتابي «يرحمهم الله» وقد جعلت الإهداء علي النحو التالى:

«إلى الأستاذ الجليل سعد درويش.. في مدرسته تعلمنا أصولا في النشر، وفصولا في الوفاء».

ومرت الأيام.. وإذا بسعد درويش الذي كان ينشر لكل الناس لا ينشر ديوانه إلا بعد أن ترك وظيفته بالتقاعد.

ومرت الأيام.. وإذا بالأهرام في 6 فبرابر 1985 ينشر هذه القصيدة الرائعة لسعد درويش بعنوان «اللحن الأخير»، ومن العجيب والطريف أن الشخصية التي تتناولها الأبيات منذ البيت الأول كانت شخصية أدبية عربية معروفة زارت القاهرة وقضت بها بعض الوقت.

والقصيدة أوضح من أن تحتاج إلي أي تعليق أو شرح و إضافة أو تفسير فقد بلغت أقصي درجات الوضوح والدقة في التعبير عن المشاعر والأماني والنفسية.

ومن حسن حظي أنني احتفظت بهذه القصيدة بين أوراقي منذ نشرت منذ أكثر من ستة عشر عاما، وربما طوي ذكر هذه القصيدة النسيان عند كل مَنْ قرأوها في ذلك الوقت، بيد أني أظنها تستحق النشر والدراسة والتعليق والتخليد لا النسيان:

«لميعة» يا هــــوي كل القلــــوب      نشــــــدتك بالــهـــوي الا تغـيبى

فأنت تركت لي طيفا حميماü  يطالـــعني عـــلي كل الــــدروب

أحــن إليـــك في وطني وأهـــلى        كما حن الغريب إلي الغــــريـب

بمثلك كــنت أحـــلم في شبـــابى        فهذي أنت جـئت مــع المشــــيب

وهــــذي أنـــت ترتحلــــــين عـــنى   فهــل هـــذا من الدنيـــا نصيبى؟

فديتك.. لا تزيدي من جراحى ويكفي ما رأيـــت من النــدوب

تــري مـــــاذا يريــد الحــــب منى     وهذا العمــــر آذن بالغـــــروب؟

وفـــيك نعــــــومة وبي اشتيـــــاق     وأخشي إن ضممتك أن تذوبى

ü ü ü

«لميعة» كنت لي قـــــدرا ووعــــدا    فهل أقبلت من خلف الغيـوب؟

بأعينك الكحيــــــلات اللــــــواتى      رمين القلب بالسهم المصيب..

بصـوتك هامسا يسري حنــــونا        كمسري نسمة الفجر الرطيب..

بذاك الشعر منهمــرا خصــــــيبا       كشــــــلال تدفـــــق باللهـــــيب..

بذاك الكبر في الصدر الغضوب        بذاك الدل في الخصر اللعوب..

بتلك الخطوة النشـوى.. كظبى تحفـــــــز في مـــــراح للـــوثـــوب..

تعـــالي وانـسي العشــــاق قبـــلى      فلن تجدي ـ وإن كثروا ـ ضـــريبى

ولن تجــــدي بســاح الحــب مثــلى    ولن تجدي الذي يغشي حــــروبى

تعـــــالي وامنــحي دنيــاي معــنى     فمــا معـني الحيـــاة بــلا حــــبيب؟

ألست خلقت لي عشقا ووجدا  فمـــالك إن دعــــــوتك لم تجيبى؟

ألسـت خلقـت لي سكنا وأمــنا فمالك ما حنـــوت علي خطوبى؟

سلي عينيك هل لي من صديق سوي عينيك في اليوم العصيب؟

تعالي كالندي في الفجر يحيى زهور الشوق في روض الجديب

تعــــالي نمــــــلأ الدنيــــــا غنــــــــاء وأفراحـــا مــع الطــير الطــــــروب

تعــــالي نبتــــكر للطـــــير لحنـــــا    يــودعنـــــا به عنـــد المغــــــــــــيب!

ü  علي عادتي رجعت إلي كتابي لأتثبت من صحة نص هذا الشعر فإذا بي أكتشف أنني حفظته علي طريقتي في الحفظ الخاطئ الذي أغير فيه الألفاظ وأستبقي الوزن (أو ما هو قريب منه) وكنت قد حفظته علي هذا النحو «أفكاره أولاده وبناته» فإذا بالصواب «أفكاره أزواجه وبناته»، وقد يظن القارئ أن النص الخاطئ الذي كنت أردده أكثرشاعرية، ولكن الحقيقة أن الدكتور  الدمرداش قد ادخر «الأولاد» للشطر الثاني من البيت حيث يقول: وبنوه مرضاه وثبت الإصبع».

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com