منذ أكثر من عشرين عاماً طلب مني اساتذتنا في اللجنة العليا للموسوعات في المجلس الأعلى للشئون الإسلامية أن أتناول أزمة الاستشراق مع الإسلام على نحو من التشخيص المباشر الذي أعرض به قضايا التقدم الطبي، أو على النحو الذي أعرض به نشأة الأمراض الجديدة.
والحقيقة أن تبسيط هذا الموضوع ليس صعباً على الرغم من كل المحاذير التي تحيط بكل لفظ وكل جملة من الجمل التي يستعرضها أي حديث عن مثل هذا الموضوع ، فإذا نحن حصلنا على الأمان من القارئ وعلى الوعد بعدم التربص فإن القارئ نفسه سيكون أكثر من يستفيد من العرض الموجز السريع المسدد (أي الموجه بدقة) إلى نقطة (أو بؤرة ) المرض على نحو ما نفعل في الحقن الموضعي للأورام أو الاستئصال للبؤر المسببة للمرض.
نبدأ بالبناء على ما نعرفه من أن كلّ منهج علمي لا يخلو من بعض العيوب الجزئية التي لا تظهر إلا عند تطبيقه في مواضع لا تتقبل هذا التطبيق ، وهذا هو جوهر أبرز ما يحدث من صدام أو شقاق بارز عند عرض آراء المستشرقين في بعض القضايا الإسلامية مع أن الحكمة المهنية (أي التي تناظر حكمة الطبيب الجراح أو المهندس الإنشائي أو المستكشف الجيولوجي … ) كفيلة بتجنب الانزلاق في هذه البؤر التي سرعان ما ترتبط (بلا أدنى مبالغة) بإهانة معتقدات ، وبتدمير علاقات، وببناء عداوات.
وعلى سبيل المثال السريع والحاسم فإننا سنشير بإيجاز إلى تجربة مهمة لثاني أهم المستشرقين إفادة للدراسات الإسلامية وهو المستشرق الهولندي فنسنك 1882 ـ 1939 الذي تولى الريادة في فهرسة كتب الحديث النبوي (التسعة) و كتب السيرة (الخمسة) وخرج منها بنتاج علمي رائع لا نزال نعتمد عيه حتى اليوم . وجد هذا المستشرق نفسه في موقف حرج لم يتحسب له حين كان ينجز عمله مندفعاً بحكم المنهج العلمي إلى أن ينقل من نتائج من سبقوه من دون أن ينظر في مدى تقبل المسلمين لآرائهم ، معتمداً على أنه سيحيل عليهم وبهذا تنتفي عنه المسئولية بفضل إسناده الآراء إلى أصحابها.. وقد كان المستشرق الهولندي فنسنك يدرس علاقة النبي عليه الصلاة والسلام بيهود المدينة، ومن ثم فقد كان يطالع نصوص القرآن الكريم ويتحقق من تعاقبها الزمني الذي يعرفه المسلمون على انه تاريخ النزول ، ويعرفون أن سورة المزمل مثلاً نزلت قبل سورة البقرة، أما المستشرقون الذين لا يؤمنون أصلاً بأن القرآن منزل والذين يبنون نظرتهم إليه على انه نص بشري محمدي او غير محمدي فإنهم مع هذا الانكار لكون النص القرآني من عند الله سبحانه و تعالى كانوا و لا يزالون يرتبون القرآن الكريم ترتيباً ينبني على ترتيب النزول حتى مع عدم اعترافهم بالنزول والإنزال.
وإذا كان الأمر كذلك، وإذا كان لا بد من تفسير الصراع أو العلاقة بالنظر إلى سببها وأثرها فلا مانع عند أي باحث من طراز فنسنك أن يصل إلى قول خطر كالذي قال به وهو أن القرآن لم يتحدث عن سيدنا إبراهيم إلا بعد خلاف النبي عليه السلام مع يهود المدينة! وقد كان هذا القول الجافي وما يحيط به من تنظير وتسويغ وتأويل كافيا لأن يسقط اعتبار فنسنك عند أصحاب القرار في مصر في عصر التنوير نفسه، وهكذا فإنه فقَدَ عضويته في مجمع اللغة العربية في بداية تكوينه فبعد أن كان واحداً من المستشرقين الخمسة الذين اختيروا ضمن العشرين المؤسسين صدر مرسوم ملكي بإحلال العالم ليتمان محله (إذا كان الشيء بالشيء يُذكر فإن المستشرقين الأربعة الآخرين الذين عينوا مع فنسنك وبقوا مع ليتمان هم بترتيب وفياتهم هم نلينو الذي توفي 1938 و فيشر الذي توفي 1949 و ماسينيون الذي توفي 1962 و جيب الذي توفي 1971.
بعد هذا المثل الشارح الواضح ، نعود إلى موضوعنا لنتأمل جذوره فقد كان اثنان من رواد المستشرقين سببا في كل ما شوه الاستشراق من حيث هو علم (وهذا رأي شخصي لم يقرنا عليه العلماء الكبار بعد) ومن حيث هو نشاط إنساني ذو علاقة بطرفين بشريين أحدهما الدارس وثانيهما المدروس ، هذان المستشرقان هما نولدكه. 1836-1930 جولدتسيهر 1850 ـ 1921 و قد كان هذان المستشرقان اللذان كثر النقل عنهما بحكم نحتهما لأفكارهما وإبرازها في صورة واضحة منحوتة قابلة للنقل والبناء عليها قد استساغا (ولا نقول استسهلا) أن يبذلا جهدها الفائق في العثور على أي أسباب مادية تكفل القول بالتأثير.. وغاب عنهما (بقصد أو من دون قصد، وبمعرفة أو بغير معرفة) أن عقلنا البشري ليس كفيلاً تماماً بالوصول إلى العلاقات مما هو ظاهر للعيان، وبالطبع فلم يكن عصر هذين المستشرقين قد شهد مثلاً الميكروسكوب الإلكتروني الذي يجعلنا نعرف الآن ما كان يستحيل على أجدادنا من الأطباء معرفته، ومن ثم فإنهم كانوا في بحثهم عن السببية يقفون بالتقديس عند التوافق او الترافق الظاهر على نحو ما فعل هذان المستشرقان وغيرهما ، وقد ورطا نفسيهما فيما ظناه علما حقيقيا بنوا مفردات على استنتاجات قاتلة أسرفوا من أجلها في تلمس الأشياء الخارجية المؤثرة على ما يرونه من تاريخ الفكر وفكر التاريخ.. وهكذا فقد كان من المستحيل على جولد تشهير وأمثاله أن يمضيا أي خطوة مع التقدم العلمي الحديث بسبب هذا الإصرار على تلمس الأسباب الظاهرة والإفراط في البناء عليها.
إذا ذكرنا مثل هذه الحقيقة لأي أستاذ طب ممارس لمهنة الطب وللبحث العلمي معاً فإنه يقول في لمح البصر إن مكان أبحاث جولدتسيهر والمستشرقين من أمثاله يجب ألا تدرس في الفلسفة وإنما في تاريخ الفلسفة، ولا يجوز أن تدرس في علوم الأديان وإنما في تاريخ علوم الأديان،.. وهكذا.
لكن هذا المعنى الواضح في ممارسة الطب وعلوم الحياة لم ينتقل حتى الآن إلى دراسة الفلسفة والعلوم الفلسفية ولهذا كان أساتذتنا يقولون لنا إننا باعتبارنا من أهل الطب والبحث العلمي محظوظون بالنجاة من هذا الإجهاد الذي يعانونه، والحق ان هذا صحيح إلى حد بعيد ، لكن هناك عنصراً آخر لا يقل أهمية وهو أن بعض المستشرقين نجحوا نجاحاً باهراً في تجنب مزالق الأسلوب المادي التاريخي الذي غدى جولدتسيهر بعناصر عدوانه المستمرة للإسلام .
كان السبب في النجاح الباهر الذي لقيه مستشرقون آخرون لم يمضوا على نهج نولدكه و جولدتسيهر هو أنهم رزقوا حظاً من الاستبطان والقدرة على قراءة ما وراء النص من المذاهب الظاهرة والأفكار السطحية، ومن إحقاق الحق أن نقول إن هذا الحظ وحده لا يكفي، ولا يمكن له ان يعيش إلا إذا غداه العلم باللغة، وهذه قضية أخرى لا ينبغي أن تشغلنا الآن عن أن نذكر اسم مستشرق امتاز بهذه الرؤية فنال قدراً كبيراً من الهداية في أحكامه وهو لوي ماسينيون 1883 ـ 1962 الذي استطاع على سبيل المثال أن يفهم أوليات التصوف الإسلامي على نحو ما يفهمها بعض من المسلمين غير المنتمين تنظيميا للتصوف وهو فهم يميل الى ارتباط المعنى الإسلامي الأول للتصوف بالمعنى الذي يقفز عليه الدارسون للفلسفة ولتاريخ الفرق، وهو معنى الزهد المجرد الذي هو في رأينا أول المعاني المدركة بالسليقة عن التصوف. وعلى كل الأحوال فإننا نستطيع أن نقول إن كثرة التفلسف في غياب المعطيات العلمية كانت هي السبب الحقيقي والجوهري فيما أصاب الاستشراق من شطط تطور في بعض الأحيان إلى أكثر درجات العداوة للإسلام أو لفهم الإسلام.
إذا ما استوعبنا هذين النموذجين البارزين من نماذج المقاربة الاستشراقية فإننا نستطيع أن نفهم جوهر أزمة بعض المستشرقين مع الإسلام وأن نبني عليها مقاربتنا لآرائهم مهما كانت فجة ، فهي آراء ناشئة عن قصور الوسائل مهما ارتبطت بالعداء أو النوايا الخبيثة , ومن الانصاف ان نقولا اثبات قصور الوسائل أجدى بكثير من التدليل على خبث المقصد .
ومع احترامنا لأساتذتنا الذين يقولون بالفلسفة الحديثة والفلسفة القديمة فإن الفلسفة أصبحت الآن في حاجة إلى إعادة كتابة سواء سميت إعادة الكتابة بالفلسفة الأحدث أو فلسفة عصر الخلية، كما نقول في بيولوجيا الخلية أو فلنقل كما يقولون في أفلام السينما التي لم يستقروا بعد على اسم لها : فلسفة 2022.