نجح الأستاذ أحمد بهجت في أن يقدم نصا سينمائيا علي أعلي وأرفع درجة من الإبداع الفنى، وقد تمكن باقتدار شديد من أن ينتقي مجموعة متماسكة من لقطات الحياة والزمن والتاريخ من بين آلاف اللحظات الموحية في عهد زعيم عظيم ورجل دولة من الطراز الأول لم يشهد التاريخ له مثيلا في سرعة الحركة ودقة التصويب.
وقد تجلي للمشاهد في وضوح شديد أن الكاتب كان علي وعي شديد وعميق بضرورة الاقتراب من البحر الهائج والمحيط الهادر بذكاء وتحسب وحذر، وإلا فإن البديل هو الغرق.. وكان واعيا لهذا المعني كل الوعي طوال ما قدم في الفيلم، مع أن حياة كحياة السادات كانت كفيلة بأن تغري السيناريست المحترف بالمضي قدما في تصميم وتنفيذ البناء الفني لهذا العمل المرموق، وهو يظن نفسه قادرا علي السيطرة علي تسلسل الأحداث وتعاقبها وترابطها واكتمالها، فإذا بأعظم الكتاب يجدون أنفسهم بعد أشهر وربما بعد سنوات في حاجة إلي أن يكون مثل هذا الفيلم في جزءين أو ثلاثة علي الأقل .
ولكن طاقة المفكر المرموق الكامنة في عقلية أحمد بهجت هيأت له أن يلجأ إلي التأمل الهادئ العميق طالبا من التأمل الذي صادقه وتعود عليه أن يمده بالقوة الكافية ليجري طرازا رفيعا من التكثيف الفني الكفيل بأن يبلور أحداثا كثيرة في حدث واحد حتي وإن تجاوز في سبيل ذلك عنصري الزمان والمكان.
ولم يلجأ أحمد بهجت إلي مثل هذا الأسلوب ليضمن تغطية كثير من التفاصيل بأقل عدد ممكن من اللقطات فحسب، لكنه لجأ إلي هذا ليوحي للمشاهدين ولقراء التاريخ في الفيلم ـ وهم أغلبية ساحقة ـ بأن الزمان والمكان كانا يحتلان مقاما تاليا للمقام الأول الذي احتلته الروح، وليس من شك أن أحمد بهجت قد نجح وتفوق تفوقا ساحقا في تصوير الروح، حتي إنه جعل كل مَنْ تلقي العمل الفني لا يناقش إلا روح البطل في المقام الأول، سواء في هذا أكان البطل بطل الفيلم أم بطل الزمان.
وفي سبيل هذا لم يمانع الكاتب العظيم في أن يوحد في موقف واحد بين مواقف مختلفة الزمان والمكان كما ذكرنا. وعلي سبيل المثال فإن لقاء السادات بيوسف رشاد حدث في الصحراء الغربية، علي حين أن لقاءه بعبدالناصر حدث في منقباد، وقد كان اللقاءان سابقين بعقد من الزمان ـ علي الأقل ـ علي اللقاءات التي كان الزعيمان يتبادلان فيها الرأي مع زملائهما من الضباط الشبان في أمور الوطن.. ولكن أحمد بهجت تجاوز هذا كله بوعي وقدم لنا لقطة توحي بكثير مما لا مجال للخوض فيه، وإن كان الخوض فيه لن ينقطع.
وعلي صعيد آخر نجح أحمد بهجت في أن يركز كثيرا من المعاني بتجريد فني علي أرقي مستوي من التعبير، وكأنه أبي إلا أن يسجل لمشاهدي هذا الفيلم العظيم أن هذا العمل حريص علي أن يحتوي علي ما يشي بأن صناعه وأصحابه من أحفاد عظماء المصريين القدماء الذين كانوا ـ ولا يزالون بتراثهم ـ أبرع الناس علي تصوير المعاني الدقيقة والمعقدة والمتعددة بخطوط بسيطة واضحة ولكنها قادرة علي التميز والإيحاء.
وقد أبدع الفيلم في أن يقدم كثيرا من الوقائع، بل والشخصيات بصورة فنية رفيعة المضمون وعالية التكنيك، ولنتأمل ـ علي سبيل المثال ـ الرئيس محمد نجيب وهو يقر الضباط علي بعض آرائهم وتصرفاتهم فيعتمدها، بينما هو يعارضهم في بعضها الآخر فيضع أوراقا أخري إلي اليمين دون أن يعتمدها، بل إن الأكثر من هذا أن الممثل الذي قام بدور نجيب أداه باقتدار بالغ دون أن يستعمل صوته علي الإطلاق، وهو نوع من الإعجاز الفني الذي كنا نهلل له حين يؤدي الممثل دور أخرس أو أبكم أو أصم أو كفيف، فإذا بالمخرج العظيم والفنانين العظماء الذين شاركوا في هذا الفيلم يقدمون أكثر من دور من هذا الطراز علي نحو من أروع ما يكون، وهكذا قدمت شخصية عبدالناصر وكثير من زملاء السادات ومعاصريه بتكنيك عبقري لايقلل من شخصياتهم ولكنه يستبقي للفيلم طابعه الفني بعيداً عن كتب التربية القومية .
وقد نجح الفيلم نجاحا منقطع النظير في تقديم كثير من النزعات الفكرية في آراء وتصرفات بطل الفيلم العظيم، بل إن الفيلم نجح فيما هو في الواقع أكثر وأبدع من التعبير عن الآراء وذلك حين نجح علي سبيل المثال بفضل موهبة كاتب السيناريو العظيم في أن يصور لنا السادات وقد أصبح متمتعا بالوعي الإنساني والسياسي الكامل منذ مرحلة مبكرة من حياته، ومن ثم فلم يعد متوقعا إلا أن يظل محافظا علي هذا الوعي طيلة الفيلم وطيلة حياته العريضة.
وأصبحنا منذ مرحلة مبكرة من الفيلم نطالع علي الشاشة شخصية البطل الناضج وهو يقود تصرفاته في كل مراحل حياته من خلال وعي شديد بما يفعل، وبما ينبغي عليه أن يفعل، ولا يختلف الأمر في هذا ما بين البداية والنهاية، فنري البطل الذي يحاور مورد الخضار والفاكهة لمعسكرات الإنجليز فيلعنه بصوت عال، وإن بدا ـ بوضوح ـ أنه غير مسموع للتاجر المحنك ، كما نراه في النهاية وهو يبلور لزوجته وجهة نظره في ضرورة العبور إلي 25 أبريل 1982 بدون أن تتاح لبيجين الفرصة للزعم بأن نوعا من أنواع الاضطراب السياسي أو الخلاف الحزبي قد سيطر علي مصر.
وفيما بين هذين الموقفين يجيد أحمد بهجت بحرفية فنية بالغة وغير مسبوقة وبإخلاص وطني نادر الوجود التعبير عن جوهر فكر السادات فيما يتعلق بكل المعارك الكبري التي خاضها بجسارة وشجاعة واقتدار وإيمان بخالقه جل في علاه.
وفي كل هذا فإن كاتبنا العظيم قد التزم الحياد الإيجابي في عرضه لوجهات نظر الآخرين فيما يتعلق بسياسات السادات وتوجهاته، وأفسح المجال في ذكاء فني ورحابة صدر لعرض وجهات نظر أخري لا يزال أصحابها يظنون أنها كفيلة بإدانة السادات بينما هي دالة في المقام الأول علي قصور في فهمهم، سواء أكان هذا القصور طبيعيا أم مصطنعا لأسباب قد تخفي أو قد لا تخفى.
ومع هذا فإن السيناريست العبقري قد أدار الصراع الدرامي دون أن يخشي علي البطل من طعنات الغدر المتتالية، ومن موجات أخري متوالية من الجهل أو سوء التقدير و سوء التفسير.
ومع كل هذا فقد احتفظ المؤلف الفذ لكل الشخصيات والجماعات السياسية والطوائف والتوجهات الفكرية بوجهات نظرها في نسيج الفيلم دون أن يلون هذه الوجهات لمصلحة البطل، ودون أن يلونها كذلك لمصلحة أصحابها. ومع هذا فإن (بكرة) الفيلم تمضي علي نحو ما مضت (بكرة) الحياة من قبل، فإذا بنا نكتشف أن الله قد أنعم علي السادات ببصر حديد [علي حد التعبير القرآني الجميل] وفكر ثاقب ورؤية قادرة علي الاستشراف الفذ، وعلي التوغل في ذات الوقت فيما هو حادث وواقع وكائن. ولم يكن من الممكن أن تصاغ صورة البطل علي هذا النحو في الوعي وفيما وراء الوعي لولا أن قيض الله لهذا الفيلم هذا الكاتب المخضرم والمفكر المتواضع الذي كان في وسعه أن يصل إلي الحقيقة وأن يصوغ التعبير عنها علي هذا النحو الرائع البديع.
ولا يخلو الفيلم مع كل هذا الزخم من أن يصور العواطف الإنسانية علي أروع ما يكون التصوير. فنحن نري صورا دقيقة ورائعة للتعبير عن الحب والوجد والافتتان والبغض والحيرة والحذر والترقب والفرحة والجسارة والتطلع والتصنع بل والتنطع إذا لزم الأمر، ونري تصويرا دقيقا للمشاعر الإنسانية الصرفة المرتبطة بالأبوة والأخوة والزوجية والزمالة والشراكة والرئاسة.
كما نري صورا أخري يندر الوصول إليها علي الشاشة بهذا القدر من اكتمال النجاح في تصوير الدهاء والتخطيط والصبر والتخابث والمكر والمصانعة والغضب والتسامح والسخرية من العدو والفرحة بالانتصار عليه.
بل نري في هذا الفيلم المعجز صورا أخري جسدها ممثل قدير وهو يجيد الخروج من شخصية الفاعل إلي شخصية المنكر للفعل نفسه دون أن يضحي في ذات الوقت بإقناعنا بأنه يمثل شخصية المنكر لما فعل، وكأنه ـ أي كأن أحمد زكي العبقري ـ حريص علي أن يذكرنا في نفس اللحظة بأنه يجيد التقمص وبأنه أيضا وفي ذات الوقت يرينا أنه يتقمص.. وكأنما لم يكن ينقصه في هذه المواقف إلا ما استقر الوجدان الشعبي علي التعبير عنه بغمزة من عينه للمشاهدين ليؤكد لهم فيها أنه يمثل شيئا غير الحقيقة، لكنه تنازل عن هذه الغمزة لأنه أدرك أنه علي شاشة السينما، وليس علي خشبة المسرح.
وقد تكرر كل هذا الاقتدار مع تنويع اللحن في القضيتين اللتين زجتا بالسادات في السجن ودفعتا به إلي التحقيق والمحاكمة، وإذا نحن لا نحس أننا أمام موقف يتكرر وإنما أمام إبداع إنساني يتجدد ويتنامى، ونحن قد نري كل هذا مرة واثنتين وثلاثا ونتذكر أننا قرأناه من قبل مرارا وتكرارا وسمعناه مرات ومرات ولكننا لا نزال نتعجب من أن ينعم الله علي شخص واحد بأن تنضوي فيه وتنصهر وتنسبك وتختلط وتمتزج كل هذه الصفات الصعبة والمعارك الأسطورية، بل نعجب من أن تتسع حياة بشر معاصر لكل هذه الشخصيات والملاحم وتتفاعل فيه مع أنه فرد واحد أو بطل واحد.. ولعل هذا ما جعل كثيرا من أصحاب دور العرض السينمائي يجتهدون عن عمد في إعلاناتهم الداخلية عن الفيلم ويغيرون من العنوان الفرعي الذي صدرت به الافيشات وهو «قصة أمة» إلي عناوين أخري تبدو متناظرة في عدد الكلمات والصياغة ولكن لكل منها مدلولات مختلفة تماما، وإن كانت تصب جميعا في وعاء الحقيقة الذي عرضه الفيلم، وقد آثر صاحب إحدي دور السينما الاسكندرية أن يكتب في إعلانات قماشية عريضة إنها «قصة رجل»، وكتب الثاني إنها «قصة حب»، وكتب الثالث في سينما مقابلة إنها «قصة حياة»، وكتب الرابع في سينما ليست بعيدة عن هذه الدور الثلاثة إنها «قصة الحب والبطولة والوطنية».
ولست أشك أن آخرين غير هؤلاء قد بلوروا وجهات نظرهم في عبارات أكثر وأبدع بكثير مما أتصور نفسي قادرا علي كتابته ولكنني مع كل هذا لازلت مشدوها من عبارة بسيطة قالتها سيدة مصرية لبناتها وهن يخرجن من السينما مبلورة لهم في تواضع رأيها في الفيلم إذ قالت دون إدعاء إنها وجيلها يعرفون كل ما في هذا الفيلم وأن الفيلم لم يأت في واقع الأمر بجديد .. وظني أن هذه العبارة هي أكبر مديح يحصل عليه صدق هذا الفيلم العظيم حين يتبلور الفن عن حقيقة عميقة خالدة بغير زيادة أو تزيد .
ولست أظن هذا الفيلم إلا فائزا بجائزة أحسن فيلم أجنبي في جوائز الأوسكار لو أن أصحابه انتبهوا مبكرا إلي ترجمته واشتراكه في تلك المسابقة قبل الأوان، فقد نجح مخرج هذا الفيلم في أن يقدم طرازا جديدا وبديعا ومعلما للحديث السينمائي عن الشخصيات التاريخية، وقد فاق بهذا العمل العظيم أحدث الأفلام السينمائية التي قدمت في هذا المجال وهو الفيلم الأمريكي الذي قدم عن حياة الرئيس نيكسون، ولو أن مواطنينا ممن يحملون القلم كانوا يتمتعون بالثقة بالنفس لقارنوا نجاح المخرج الأمريكي بنجاح محمد خان، ولكن بعضهم انتصر للعقد الدونية فظن أنه كان علي محمد خان أن يحاكي المخرج الأمريكي مع أن الحياة التي صاغها محمد خان في هذا العمل الفني العظيم لم تدن منها حياة أخرى، وقد رزق صاحبها التوفيق في كل شىء حتي في قراراته الأخيرة التي يري الشعب الواعي أنه افتدي وطنه بها بعدما كان ظن أن بإمكانه أن يسيطر بشخصه علي توجهات مضطربة فإذا به بشجاعة يمضي في طريق الشهادة حتي ينالها محافظا لوطنه علي كل ذرة من ترابه.
بل إن التوفيق الذي أنعم الله به علي هذا الرجل قد امتد إلي هذا الفيلم الذي خرج إلي الحياة بعد عشرين عاما من رحيله، فإذا به بكل سهولة ويسر يعيد أقزاما كثيرين إلي أحجامهم وجحورهم ويرفع من ثقة الشعب بنفسه، بل ويجعل بعضهم يتوارى عن الحياة والحركة علي الرغم من محاولة الفيلم إنصافه ، ويضاعف الفيلم من ثقة مصر بما اختاره الله لها وأنعم به عليها في عهدي السادات ومبارك .
ولا يملك المرء بعد أن ينتهي من هذا الفيلم إلا أن يدعو الله أن يقي الوطن شرور بعض ابنائه الذين يأبون الحق والعدل والجمال والصدق .