كان من نعم الله علي أنني نشرت كتابي عن الشهيد عبد المنعم رياض منذ 1984، أي منذ 38 عاما، منذ ذلك الحين ارتبطت بتاريخ هذا الرجل في كل مستوياته، وتوليت إحياء ذكراه في ما يقارب 10 مستويات رسمية بالإضافة إلى المستويات الشعبية، ولما صدر كتابي الموسع عنه منذ سنوات أحسست بالوفاء لابن بار من أبناء الأمة الذين ضربوا أروع المثل في حياتهم واستشهادهم.
ولد الشهيد عبد المنعم محمد رياض عبد الله في 21 أكتوبر/تشرين الأول 1919 في بلدة سبرباي، وهي بلدة بالقرب من طنطا عاصمة الغربية، ولكنها من حيث التقسيم الإداري تتبع مركز المحمودية (مديرية البحيرة)، وهي موطن أسرة والدته السيدة عائشة محمد الخولي، وكان والده حين ولد يعمل في السودان، وكان المعتاد أن تنتقل الزوجة إلى بيت أهلها عندما يغيب الزوج لفترات طويلة.
كان عبد الله طه (جد عبد المنعم رياض) موظفا في الدائرة السنية بالفيوم، أما الأميرالاي محمد رياض (والد الشهيد) فقد كان واحدا من الرعيل الأول للعسكريين المصريين في العصر الحديث، عرف بتفانيه في عمله وحرصه الشديد على كرامته الشخصية وقدراته العسكرية الممتازة، وأستاذيته القديرة في المدرسة (الكلية) الحربية إلى الدرجة التي جعلت تلاميذه فيها يفخرون بأنهم تخرجوا على يديه.
وقد شارك الوالد في الحملة المصرية البريطانية على أعالي النيل، وخدم في ملكال عاصمة محافظة أعالي النيل، وكرمه السير ريجنالد وينغيت الحاكم المصري العام للسودان في ذلك الوقت، ثم المندوب السامي البريطاني في مصر.
عاش عبد المنعم رياض حياة عسكرية صارمة، وتدرج في مواقع القيادة في القوات المسلحة بطريقة سوية، وقد واتاه حظه ليصل إلى مواقع متقدمة ورتب متقدمة، وذلك بحكم قيام ثورة 1952 وتخلصها السريع والمتسارع من أبناء الدفعات السابقة عليها، وقد كانت النتيجة أن أبناء دفعة عبد المنعم رياض في فبراير/شباط 1938 والدفعات الثلاث التالية لها (دفعة الرئيس جمال عبد الناصر في أغسطس/آب 1938، ودفعة عبد اللطيف البغدادي في فبراير/شباط 1939، ودفعة المشير عبد الحكيم عامر في 15 أبريل/نيسان 1939) وصلوا إلى مواقع القيادة في العام التالي لقيام الثورة وبقوا فيها إلى حرب أكتوبر 1973.
أصبح عبد المنعم رياض بمثابة قائد الدفاع المضاد للطائرات منذ 1954، وهكذا أصبح من قادة الدفاع الجوي المبكرين وإن لم يكن الدفاع الجوي قد عرف بهذا الاسم في ذلك الوقت.
كان رياض من الضباط المعروفين بالانضباط المطلق، ولهذا السبب فإن أحدا من قادة الضباط الأحرار -على حد علمنا وعلى حد ما هو متاح في الأدبيات السياسية والتاريخية- لم يفكر في مفاتحته في الانضمام إليهم، وذلك على الرغم من أن دفعته كانت من أكثر الدفعات التي تضم الضباط الأحرار بين أفرادها، بل كان منهم أنور السادات وحسين الشافعي وزكريا محيي الدين الذين وصلوا إلى أعلى المراكز في ظل حكم الثورة.
كان عبد المنعم رياض عندما قامت الثورة في 1952 يتدرج بخطوات واثقة في الكادر العسكري، مؤهلا نفسه ليكون قرب أحد قادة القوات المسلحة البارزين، فقد كان بأسبقيته ودراساته وتفوقه قد أصبح على الطريق العريض إلى هذه المكانة، ويمكن القول بدون تزيّد إن قيام الثورة قد عطل مسيرة رياض العسكرية التي كانت كفيلة له بأفضل بكثير مما وصل إليه في عهد الثورة.
ومع هذا، فإن ولاء عبد المنعم رياض لوطنه وجيشه كان فوق كل اعتبار، وقد روّض نفسه على أن يخدم وطنه في كل الظروف ومع كل المصاعب، خاصة المصاعب النفسية التي تؤذي أمثاله من المتميزين في ظل حكم ثورة أو انقلاب عسكري يتيح لطائفة معينة مزايا على حساب أصحاب الحق الأصلي.
تمتع رياض بشخصية آسرة، كانت الثقافة خير معين له على أن يكون مقنعا ومحبوبا، وكان حسمه يزيد ثقة المرؤوسين به وفخر المتعاملين معه بمعرفتهم به، وكان رجلا ممتعا قادرا على أن يشيع البهجة في أي مكان يحل فيه، وكان محاورا ومستمعا ومتحدثا جيدا.
كان عبد المنعم رياض صاحب شخصية متكاملة أوتيت حظها من المعرفة العامة ومن المعرفة المتخصصة، ومضت في حياتها متدرجة من خطوة إلى التي تليها، وقد رزق معرفة أبناء مهنته وحبهم، كما رزق تقدير أبناء المهن الأخرى وصداقتهم.
كان إباؤه سمة غالبة على سلوكه، لكنه لم يكن بعيدا عن العطف والحب ورعاية الآخرين، كان سلوكه نموذجا للسلوك القويم دون ادعاء ودون ابتعاد عن الناس.
وكان رياض يقف مع المظلوم إلى أن يأخذ له حقه، ويقف ضد الظالم بيده وقلبه وكل شجاعته، كان في معاملاته وتعاملاته حريصا ما استطاع على القيم الإنسانية.
ولعل خلاصة القول في صفاته أنه كان مثالا لاستقامة الخلق وكفاءة الرجل الفني وأمانة المسؤول القوي وتقدير الرؤساء واحترام المرؤوسين، فضلا عما امتاز به من سلامة التفكير وعمق البحث ودقة الفهم وكفاءة الأداء.
أما على مستوى الأستاذية فقد كان رياض أستاذا متمكنا ومعلما قديرا، كان يقنع تلاميذه ومرؤوسيه لأنه يعلم ولأنه يعرف كيف يعلم، ولأنه يملك القدرة على الإقناع، ولأنه كان في عمله أستاذا بالسليقة، ولأن أستاذيته كانت واضحة الأصول والفصول.
كانت لعبد المنعم رياض شخصية تتميز بالذكاء والأصالة والابتكار، ولم يكن يذعن للعرف السائد، إنما كان يحاول دوما أن يضع من التقاليد ما يتفق والمصلحة العامة، وحين تولى مسؤولية مدرسة المدفعية المضادة للطائرات أسس تقليدا جديدا لاختيار المدرسين، فبينما كان التقليد المعمول به هو اختيار هؤلاء من بين أوائل الفرق التعليمية كان رياض يؤمن بأنه ليس كل من يتفوق في الدراسة يمكن أن يكون مدرسا صالحا “فالتفوق في الدراسة أساسه أن تأخذ من العلم، والامتياز في التدريس قوامه أن تعطي من العلم”.
وعلى هذا الأساس، قرر عبد المنعم رياض فترة شهرين لكل مدرس جديد يعين في المدرسة يوضع فيها تحت الاختبار كمدرس، ثم ينظر بعدها في مدى صلاحيته للتدريس، وكان رياض حريصا على أن يحضر هو وأكبر عدد من المدرسين القدامى المحاضرات التي يلقيها الضابط الجديد، وكان إذا حضر ظل صامتا طوال المحاضرة يسجل ملاحظاته، أحيانا في ورقة في يديه وأحيانا في رأسه، ثم كان يستطلع آراء زملائه المدرسين ويعقد اجتماعا (أو مؤتمرا بلغة القوات المسلحة) صغيرا يوجه فيه المدرسين الجدد عاملا على تكوينهم وتأهيلهم، فإذا انتهت فترة الشهرين كان قرار رياض بعد دراسة واحتكاك باستبقاء المدرس أو إعادته إلى وحدته.
وقبل ذلك، كان عبد المنعم رياض وهو مدرس في مدرسة المدفعية يلقي محاضراته باللغة الإنجليزية، وكان يعرف أن تلامذته يلقون بعض الجهد في ذلك، ولم يكن يفعل ذلك اعتزازا بإتقانه هذه اللغة، ولكنه كان حريصا على أن يزود طلابه بالثقافة التكتيكية باللغة التي يستطيعون أن يرجعوا فيها إلى مصادر العلم ومراجعه، أو بعبارة أخرى لم يكن رياض يجعل من درسه نهاية للمقتصد فحسب، وإنما كان يجعل منه أيضا بداية للمجتهد.
كانت لعبد المنعم رياض على المستوى الشخصي قدرات فنية وتقنية على درجة عالية من النضج والكفاءة، ومن ذلك ما حدث حين أوفد إلى جنيف (1953) على رأس لجنة لوضع مواصفات تسلم صفقة من المدافع المضادة للطائرات كانت الحكومة المصرية قد تعاقدت عليها (1951) مع مصانع سبانو سويزا السويسرية، وحين اجتمع رياض بالموردين ذكر لهم أن الطيران الحديث قد تطور تطورا كبيرا في السنوات الثلاث الأخيرة، وكانت تلك الحقبة قد شهدت التوسع في استخدام النفاثات بحيث أصبحت وسيلة تغذية هذا النوع من المدافع بالطلقات غير مواكبة للسرعة التي وصلت إليها الطائرات الحديثة، وأبدى الموردون عدم اقتناعهم بوجهة نظر رياض، خاصة أن حلف الأطلنطي كان قد تعاقد معهم على المدفع ذاته.
ونشطت المناقشات العلمية حول هذه النقطة، واستطاع رياض مع قدر من المثابرة أن يحملهم على الاقتناع برأيه، خاصة بعدما استشهد لهم بالحسابات الفنية الدقيقة.
وهكذا، عدل الجانب الغربي عن رأيه وشكل لجنة علمية من بين مهندسيه بالاشتراك مع عبد المنعم رياض لتتولى تطوير المدفع.