الشيخ أحمد الدردير نموذج لعالم من علماء القرن الثامن عشر الميلادي (1715 ـ 1786) حظي ولا يزال يحظى بسمعة علمية وصوفية رفيعة المكانة حتى يكاد المثقف العادي يتصوره من السادة التابعين أو تابعي التابعين على أقل تقدير مع أنه قريب في الزمن من عصرنا، ومن المدهش أنه هو وليس غيره صاحب أكبر فضل على القانون الفرنسي الذي استمده نابليون بونابرت من شروحه لمتن خليل في الفقه المالكي؛ فقد جاء نابليون فوجد هذا العلم القانوني جاهزا مجهزا.
يتوازى الشيخ أحمد الدردير في مولده ووفاته مع شيخ الأزهر السابع والعشرين الشيخ أحمد موسى العروسي (1721 ـ 1793) المولود بعده بست سنوات والمتوفى بعده بثمانية أعوام، فإذا ما أضفنا إلى هذا أن الشيخ الأمير الكبير (1742 ـ 1817) مواز تمامًا لشيخ الأزهر التالي وهو الشيخ عبد الله الشرقاوي (1737 ـ 1812) أدركنا أن العلم في القرن الثامن عشر كان يسمو كثيرًا على المناصب رغم عظمة من تولوها، فها هو الدردير الذي بلغت الشروح التي ألفت لكتبه العشرات وربما المئات لم يتولّ مشيخة الأزهر، وفضلًا عن هذا فقد كان بلغة ذلك العصر قطبًا صوفيًّا صاحب مكان ومكانة ومقام.
أصبح الشيخ أحمد الدردير نموذجًا مبكرًا للعلماء المستوعبين الذين يبنون آراءهم على حسم الخلافات المثارة في المراجع التي تركها أسلافهم من الذين تناولوا قضايا العلم الذي يشتغلون به. وظهر هذا التفوق في كتابه الذي شرح به مختصر خليل، فقد كان حريصا على أن يذكر خلاصة شرحين مشهورين سابقين هما شرح الأجهوري وشرح الزرقاني وأن يختار من أقوال الأسلاف ما يعتبره أرجح من غيره بمنطقه وتقييمه العلمي والفقهي.
تلمذته للشيخ علي الصعيدي
تلقى الشيخ الدردير الفقه على عالم لم يكن يكبره كثيرا وهو الشيخ علي الصعيدي العَدوي (1700 – 1775)، وقد كان الشيخ الصعيدي يكبر الدردير بخمسة عشر عاما فقط، ولازَمه في كل دروسه حتى ظهرت نجابته ونباهته. ومن الجدير بالتكرار هنا أن شيخ الأزهر الشيخ أحمد العروسي (1721-1793) كان من الشيخ علي الصعيدي بمثابة المعيد.
أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك
ثم إن الشيخ أحمد الدردير وضع كتابه الخاص به هو نفسه وهو متن أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك، وقد انتهى من تأليفه في 1779، ثم بدأ الشيخ الدردير في شرح متنه هذا لكنه لم يصادف حظ تلميذه الشيخ الأمير الكبير الذي أتيح له أن يؤلف المستويات الثلاثة: المتن والشرح والحاشية، وإنما وقف في شرح كتابه عند فصل متقدم من كتاب الطهارة، وقد أتم الشيخ مصطفى العقباوي هذا الشرح وهو الشرح المعتمد في الفتوى عند المالكية (بما يقابل حاشية ابن عابدين عند العلماء الأحناف). وقد طبع مبكرا في 1865، ثم طبع على نطاق واسع بعد أكثر من مائة وعشرين، ثم تعددت طبعاته فأصبح لا يكاد يمضي عام من دون طباعته.
جمع بين التصوف والأشعرية
كان الشيخ الدردير هو النموذج الأمثل للجمع الصريح بين الانتماء للمذهب الأشعري والتصوف، بل إن منظومته في علم التوحيد المسماة بالخريدة السَّنِية في العقيدة السُّنِّية أصبحت من أشهر متون التوحيد عند أهل السنة والجماعة، وذلك في الوقت ذاته الذي يعتبر فيه كتابه “تحفة الإخوان في آداب أهل العرفان” من أشهر كتب التصوف.
تعيينه شيخًا للمالكية خلفًا للشيخ علي الصعيدي
لما توفي الشيخ علي الصعيدي تم تعيين الشيخ الدردير شيخًا للمالكية، وفقيهًا وناظرًا على “وَقْفِ الصعايدة” وشيخًا لـ”رواق الصعايدة” بالأزهر، فكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كلا من الراعي والرعية، ولا تأخذه في الله لومة لائم، وكانت له في السعي على الخير يد بيضاء.
أساتذته الآخرون
أثبتت الأدبيات الأزهرية المبكرة أن الشيخ الدردير قد أخذ أيضا عن عدد من الأعلام المبرزين:
- أخذ علوم الحديث عن الشيخ محمد الدفراوي والشيخ أحمد الصَّباغ.
- أخذ طريق التصوف وعلومه على الشيخ شمس الدين الحفني، وَتلقَّن الذكر والطريقة الخلوتية منه حتى صار من أكبر خلفائه.
- حضر دروس الشيخين الملَّوِي والجَوْهري.
صفاته العلمية
لقب الدردير بشيخ أهل الإسلام وبركة الأنام لتفوقه فيما كان يسميه أهل عصره العلوم العقلية والنقلية، وقد كان حسب تعبيرات ذلك العصر صوفيا زاهدا، قوَّالا للحق، زجّارا للخلق عن المنكرات والمعاصي، لا يهاب واليًا ولا سلطانًا ولا وجيهًا من الناس، وكان سليم الباطن مهذب النفس كريم الأخلاق.
القصة المشهورة: من مدَّ رجلَيه لا يمكنه أن يَمُدَّ يديه
من أشهر المواقف التي تنسب له أن أحد ولاة مصر أراد فور تعيينه أن يكون الأزهر أول مكان يزوره، فلمَّا دخل ورأى الإمام الدردير جالسًا مادًّا قدميه في الجامع الأزهر وهو يقرأ وردَهُ من القرآن غضب؛ لأنه لم يقم لاستقباله والترحيب به، وقام أحد حاشيته بتهدئة خاطره فقال له: إنه مسكين ضعيف العقل ولا يفهم إلا كتبه يا مولانا الوالي، فأرسل إليه الوالي صرة نقود فرفض الشيخ الدردير قبولها وقال لرسول الوالي: “قل لسيدك من مدَّ رجلَيه فلا يمكنه أن يَمُدَّ يديه”.
أبرز تلاميذه وشراح متونه
- الشيخ أحمد بن محمد الصاوي (1761- 1825).
- الشيخ مصطفى العقباوي (المتوفى 1806) الذي أكمل شرح أقرب المسالك.
- الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي.
- الشيخ أبو الفلاح صالح بن محمد بن صالح السباعي.
- الشيخ أبو الربيع سليمان بن محمد الفيومي.
التمييز بين كتبه المشهورة في الفقه
- أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك. متن في فقه المالكية فرغ من تأليفه سنة 1779، وطبع بالقاهرة على نطاق واسع عام 1903 ثم تعددت طبعاته بعد ذلك.
- الشرح الصغير على أقرب المسالك. وصل فيه إلى باب الجنابة ثم أكمله تلميذه الشيخ مصطفى العقباوي، وهذا الشرح هو الذي أقرَّه المالكية في الفتوى، واعتبروه مرجع المذهب المالكي، وجرت الفتاوى على مذهب الإمام مالك بالاستناد إلى الأقوال المعتمدة فيه، كما اعتمدوه في تلقين المذهب للطلاب، وقد طبع في مطبعة بولاق بالقاهرة سنة 1865.
- شرح على رسالة الشيخ البيلي في مسألة “كل صلاة بطلت على الإمام بطلت على المأموم”.
- شرح مختصر خليل، الذي هو عمدة الفقه المالكي، أورد فيه خلاصة ما ذكره الأجهوري والزرقاني، واقتصر فيه على الراجح من الأقوال.
- شرح على منظومة للشيخ أحمد البيلي في المستثنيات.
في علوم المتشابهات والقراءات
- رسالة في متشابهات القرآن.
- رسالة أفرد فيها طريق حفص.
مؤلفاته في علم التوحيد
- نظم الخريدة السَّنِيَّة في العقيدة السُّنِّيَّة (في علم التوحيد) وشرح نظمه.
- التوجه الأَسْنَى بنظم الأسماء الحسنى. وتسمى بمنظومة الدردير أو منظومة الأسماء الحسنى للدردير.
- شرح مقدمة نظم التوحيد للسيد محمد كمال البكري.
- شرح على رسالة في التوحيد من كلام العلامة الدمرداش.
- تحفة السير والسلوك إلى ملك الملوك.
- العقد الفريد في إيضاح السؤال عن التوحيد.
في التصوف
- تحفة الإخوان في آداب أهل العرفان في التصوف.
- شرح على ورد الأذكار للشيخ كريم الدين الخلوتي.
- رسالة في شرح قول الوفائية “يا مولاي يا واحد، يا مولاي يا دائم، يا عليُّ يا حكيم”.
في التفسير
- شرح على رسالة قاضي مصر عبد الله أفندي المعروف بططر زاده في قوله سبحانه وتعالى {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} الآية.
في السيرة المطهرة
- شرحٌ على الشمائل المحمدية، ولم يتمه.
- رسالة في المولد النبوي الشريف.
- رسالة في صلوات شريفة اسمها (المورد البارق في الصلاة على أفضل الخلائق).
في علوم البلاغة
- رسالة في المعاني والبيان.
- رسالة في الاستعارات الثلاث.
في مناهج البحث
- شرحٌ على آداب البحث والتأليف.
- مجموعٌ ذكر فيه أسانيد الشيوخ الذين أخذ عنهم العلم.
وفاته
توفي الشيخ أحمد الدردير في 27 ديسمبر 1786 فكفاه الله شهود الهجمة الفرنسية على مصر 1798 وشر عصر محمد علي على نحو ما كُفي معاصره شيخ الأزهر الشيخ أحمد العروسي هذين الشرين.