نبدأ بأن نشير إلى أهم ما يقبض صدرنا من الملك فؤاد، وهو أنه ذلك الملك الذي حكم بسببه على الأستاذ عباس محمود العقاد بالسجن، ونفذ الحكم، ولا شك في أن شعور الانقباض تجاه الملك بسبب هذا الموقف يتملّكنا ويُسيطر علينا، لكننا بما تربينا عليه من حب العدل مهما كان من أمر الخلاف نكتب كتابنا هذا على نحو ما كتبنا أيضا بموضوعية شديدة عمّن افتخروا بالديكتاتورية والتسلط من دون أن نكلف أنفسنا الشطط في الدفاع عنهم.
زعامة سعد باشا
لا جدال في أن الملك احمد فؤاد كان ملكا متميزا بين ملوك الدنيا المعاصرين له، و بين حكام مصر السابقين واللاحقين، لكنه مع هذا لا يزال يفتقد إلى المتشيعين له فلا ترى في التاريخ من يعلي من قدره ولا من يراه الأفضل على سبيل الإطلاق، و السبب في هذا معروف للعامة والخاصة ، وهو زعامة سعد زغلول باشا المطلقة الكاسحة ، و طبيعة هذه الزعامة ، وهو في البداية والنهاية رجل من أبناء الشعب المدنيين اللذين ليسوا من ذوي الدبابات ، وقد غطت زعامته وحضورها و تجلياتها تماما على وجود الملك بل وعلى تاريخ الملكية كذلك ، لكن الساسة المعاصرين المتأثرين بسيطرة العسكريين على مقدرات الأمور لا يقرون بهذا السبب المرتبط بالوطنية وحكم الشعب لنفسه ، وهم مضطرون الى الإنكار بدلا من الإقرار لان الإقرار كفيل بأن ينسف مصداقيتهم في أمور كثيرة ، فيكفي لنسف هذه المزاعم كلها أن نتحدث عن أثر هذه الزعامة على نحو ما يتحدث أبناء الشعب بالرواية عما سمعوه من الآباء و الأجداد ، ومن الجدير بالذكر ان الملك فؤاد ولد في سنه 1868 و عاش من باب الطرافة 68 عاما ومن الطريف هنا أن سعد زغلول عاش هو الاخر 68 عاما وقد كان سعد زغلول اكبر من الملك فؤاد بتسع سنوات و توفى قبله بتسع سنوات.
كان الملك فؤاد سياسيا منجزا ذا رؤية في مناطق محددة، وهكذا بقيت نظرة العامة كما بقيت رؤية أصحاب الدراسات العلمية في موضع يتخطى هذه التوجهات التقليدية للبحث التاريخي حيث الملك، ببساطة شديدة، شخصية مستبدة صادفت الحظ في الاستنارة والسلطة معا فأصبح ملكا محظوظا ومستبدا مستنيرا وواكب نهضة شعب لم تكن من صنعه لكنه كان على مستواها.
تعلم الملك فؤاد في إيطاليا و تربي في إيطاليا وخدم في الجيش الإيطالي و لهذا فقد كان وهو أمير يقوم بتقديم محاضرات في الفروسية و الرماية في الجامعة المصرية باعتباره أستاذا ذا تجربة من نوعية أساتذة الكوليج دي فرانس وهي جزئية لم يتطرق اليها احد ممن كتبوا عنه من قبل، ولهذا فانه كان يستطيع لو أراد أن يمارس الحياة الأكاديمية ويشارك فيها باقتدار لأنه كان قد أجاد التعلم والتثقف والتحضر، و ألمّ باللغات الاوربية الماما جيدا ، وتعود على الاطلاع و المذاكرة والمناقشة و المراجعة والتعبير و الاستزادة وعرف معاني الحولية و المرجعية والموثوقية والصدقية …الخ .
حياته المبكرة في المنفى
غاب الملك فؤاد 13 عاما عن أرض مصر منذ صحب والده في رحلة النفي 1879 وهو في الحادية عشرة من عمره وإلى أن عاد 1892 وهو في الرابعة والعشرين من عمره، وكان الخديو قد أعلن عزمه على الرحيل إلى إسطنبول، لكنه سرعان ما علم أن الملك أمبرتو 1844- 1900 ملك إيطاليا قد قرر استضافته في مقر لائق وكريم في مدينة نابولي فاتجه إليها في آخر شهر يونيو 1879. و من الجدير بالذكر ان الملك أمبرتو هو والد آخر ملوك إيطاليا الملك فكتور عمانويل الثالث 1869- 1947 (المولود بعد الملك فؤاد بسنة) والذي استضافته مصر بعد سقوط الملكية الإيطالية حيث عاش ومات و دفن في الإسكندرية، وبقي مدفونا فيها حتى 2017.
قصة ترشيحه لعرش ألبانيا
روى عبد الرحمن عزام باشا في مذكراته أنه هو الذي اقترح ترشيح الملك فؤاد لعرش ألبانيا، وذلك استجابة لرغبة مسلمي ألبانيا في أن يكون ملكهم مسلماً، وقد كان الألبان يفكرون بالفعل في أن يدخل الأمير فؤاد (أو الأمير المسلم الذي يرشح لشغل هذا العرش) العاصمة تيرانا على رأس عشرين الفا من الألبان الثائرين ويعلن استقلال البلاد معتمداً على تأييد إيطاليا التي كانت أوثق البلاد علاقة بألبانيا في ذلك الوقت، لكن دول التحالف الاوربية غلبت الاعتبارات المتعصبة و البيروقراطية و الحسابات قصيرة النظر التي لم تخل من العداوة الفجة للمسلمين ، و هكذا اختارت أميرا ألمانيا لحكم ألبانيا في مارس 1914 ، و قد ووجه هذا الأمير الألماني بمقاومة شديدة فاضطر إلى الهرب من ألبانيا بعد قيام الحرب العالمية الأولى بستة أشهر.
من السلطنة للملكة
لم تكن مصر حين تولى احمد فؤاد أمرها مملكة، وإنما كانت مع التجاوز في اشتقاق المصطلح السياسي سلطنة ، إذ أنه بنشوب الحرب العالمية الأولى 1914 فرض الإنجليز سلطتهم العسكرية المباشرة على كيان مصر بوضع هذا الكيان المصري العظيم تحت ما يسمى الحماية الإنجليزية و بذلك انتهت بقوة سلاح البريطانيين مظاهر الانتماء المصري إلى الدولة العثمانية ، وسرعان ما تأكد هذا الوضع القسري حين خسر العثمانيون الحرب العالمية الأولى ومن ثم أصبحت مصر في وضع يتطلب من أهلها أن يؤكدوا كيانها باستقلالها والاعتراف بها دولة ذات وجود مستقل وسيادة و أن يحصلوا على هذا الاستقلال المكون لشخصيتها بين الدول ، وكان هذا بوضوح شديد هو جوهر ثورة الشعب العظيمة في 1919. و في تلك المرحلة القلقة جاء أحمد فؤاد في البداية سلطانا خلفا لأخيه السلطان حسين 1853- 1917 ، ثم أصبح بفضل الشعب وكفاحه في ثورة 1919 ( وليس بفضل أي سبب آخر) ملكا في مارس 1922 و أعلن الدستور في 1923 وأجريت الانتخابات وتشكل البرلمان الأول ، وحكمت وزارة الشعب الأولى برئاسة سعد زغلول باشا منذ مطلع 1924 و استمر الملك يحكم حتى وفاته 1936 أي انه حكم قرابة 19 عاما، و هو وقت ليس بالقليل في ذلك العصر
علاقته بأقطاب الفكر في عصره
كان عصر الملك فؤاد باعتباره عصر ثورة وطنية قد شهد انتعاشًا كبيرًا في الفكر والثقافة والأدب والفن، وقد كان الملك فؤاد نفسه يعرف و يدرك أنه بوضعه الجديد أصبح مطالبًا بأن يكون على مستوى المسئولية الأدبية المتوافقة و المتواكبة مع مواجهة هذه النهضة، ومن حسن الحظ أنه كان كذلك ونحن نعرف بالفطرة أن الملك (أوتوقراطيًّا كان أو دستوريًّا) يستطيع أن يسهم في النهضة من النواحي الملكية، فهو مثلًا الذي يعطي أو يمنح الأوسمة أو القلادات أو الألقاب التي تتوج إنتاج الفنانين والأدباء، وهنا نستطيع أن نلمح أن الملك فؤاد قد مارس أوتوقراطيته بأقصى درجة ممكنة لملك أوتوقراطي (ولا نقول لملك دستوري لأنه كان بطبعه وإرثه قد تجاوز هذه الحدود).
طرافة موقفه من مدير الجامعة ووكيلها
لما تأسست الجامعة المصرية الحكومية في 1925 كان من الطبيعي أن يكون مديرها هو أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد 1872- 1963، وكان نظام الجامعة يقضي أن يكون وكيلها هو أحد العمداء وليس أستاذًا متفرغًا للوكالة، وهكذا أصبح علي باشا إبراهيم 1880 – 1947 عميد كلية الطب وكيلًا للجامعة مع أحمد لطفي السيد، ومديرًا بالنيابة في الفترات التي ترك فيها أحمد لطفي السيد الجامعة لتولي الوزارة أو بالاستقالة الاحتجاجية … إلخ. وهكذا ظل أحمد لطفي السيد مديرًا من 1925 وحتى 1940 ثم أصبح علي إبراهيم مديرًا من 1940 وحتى وفاته 1947 وهو مدير للجامعة، لكن الملك فؤاد مع احترامه للوضع العلمي والبروتوكولي لم يكن يخفي رأيه الصريح غير المستريح تماما لأحمد لطفي السيد على أكثر من نحو، وظهر إبداؤه لرأيه الذي لم يكن يخفيه على أكثر من نحو، ومن ذلك أنه منح علي إبراهيم رتبة الباشوية قبل أحمد لطفي السيد، فكان مدير الجامعة بدرجة بك والوكيل بدرجة باشا.
رثاء الأستاذ مصطفى صادق الرافعي
من أفضل كلمات الرثاء التي قيلت في الملك فؤاد ما كتبه الأستاذ مصطفي الرافعي 1880- 1937، والذي كان يحمل لقب شاعر الملك عل نحو ما ذكرناه في حديثنا عنه في مدونة سابقة، وقد كتب هذا الرثاء بطريقة أقرب ما تكون إلى قصيدة النثر:
مات الملكُ العظيم، فرأى الناسُ من ذهولهم كأنما زيدت في الموت زيادة
وكأن يوماً ليس من الدنيا وقع في الدنيا فترك الحياة في غير معناها
وكأن العيونَ انفتحت فجأةً على شكل محزن من هذا الوجود.