الشيخ أحمد الدمنهوري (1689ـ 1778) هو شيخ الأزهر السادس والعشرون، وهو أعظم مشايخ الأزهر أفقا بلا استثناء، فقد كان طبيبا ممارسا كما كان مستوعبا ومجيدا للأصول النظرية لعلوم الهندسة، وقد ساعدته سعة الأفق على أن يبلغ القمة في علمه الفقهي حتى إنه سمي بالمذاهبي لأنه كان يعرف فقه كل مذهب من المذاهب بأفضل من علماء المذهب، وكانت سعة أفقه عونا له على إجادة الفهم والدراية على نحو ما كان يجيد القراءة والاستدعاء وعلى نحو ما شهد له به كل من عاصره.
نشأته
ولد الشيخ أحمد الدمنهوري (اسمه بالكامل: أحمد بن عبد المنعم بن يوسف بن صيام الدمنهوري) سنة 1689 في أول أعوام القرن الثاني عشر الهجري 1101 بمدينة دمنهور، وإليها يُنسب الدمنهوري. درس الشيخ أحمد الدمنهوري في كتّاب القرية، فحفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة. ثم رحل إلى القاهرة، والتحق بالأزهر صغيرا، وتلقى فيه العلوم الشرعية واللغوية على يد عدد من مشايخه، مثل الشيخ عبد الوهاب الشنواني، وعبد الرؤوف البشبيشي، وعبد الجواد المرحومي، وعبد الدائم الأجهوري، وغيرهم. تفوق الشيخ أحمد الدمنهوري في دراسة الفقه على المذاهب الأربعة، حتى أطلق عليه المذاهبي، وأجازوه فيها. وفي علم الأصول والقراءات والنحو والبلاغة والتصوف والفلسفة والمنطق، كما نال الاعتراف العلمي والمجتمعي بأستاذيته في أساسيات الطب والهندسة والفلك.
صعود نجمه
وصفته الكتابات المعاصرة لحياته بأنه كان فقيها حنفيا، عالما باللغة، وتصدّر للإمامة والإفتاء وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، وظل يتعلم ويدرس، حتى استقام له الأمر، وتمكّن في علوم الهندسة والكيمياء والفلك، وصنع الآلات، ولجأ إليه مهرة الصناع يستفيدون من علمه.
سجل بنفسه أسماء أساتذته
كان من حسن حظ تاريخ الأزهر أن الشيخ أحمد الدمنهوري نفسه أورد بعضا من سيرته في دراسة العلوم المختلفة، حيث ذكر في مخطوطة “اللطائف النورية في المنح الدمنهورية” أسماء من تلقى عنهم العلوم المختلفة، فذكر أنه أخذ دراساته الطبية عن الحكيم أحمد القرافي الحكيم بدار الشفاء وأنه قرأ عليه كتاب الموجز، واللمحة الخفيفة في أسباب الأمراض وعلاجاتها، وبعضا من قانون ابن سينا، وبعضا من كامل الصناعة، وبعضا من منظومة ابن سينا الكبرى. وقرأ على الشيخ محمد الشحيمي منظومة الحكيم. في حين قرأ على الشيخ سلامة الفيومي أشكال التأسيس في الهندسة، وبعضا في علم البيئة، ورفع الإشكال عن مساحة الأشكال في علم المساحة في علم الأعمال الرصدية (الفلك). ورسالة في علم المواليد (أي التاريخ الطبيعي: الأحياء والجيولوجيا) الممالك الطبيعية وهي الحيوانات والنباتات والمعادن. ويقول الشيخ أحمد الدمنهوري كذلك في كتابه “اللطائف النورية في المنح الدمنهورية” إنه أخذ عن أستاذه الشيخ علي الزعتري الحساب، واستخراج المجهولات (يقصد حل المعادلات الجبرية)، وما توقف عليها كالفرائض والمواريث والميقات.
معاصرته للجبرتي الكبير
كما كان من حسن حظ تاريخ الأزهر وتاريخ الشيخ الدمنهوري أنه كان معاصرا للشيخ حسن الجبرتي “الكبير” (1698ـ 1774) الذي وصفه بقوله: “هابته الأمراء، لكونه كان قوّالا للحق، أمّارا بالمعروف، سمحا بما عنده من الدنيا، وقصدته الملوك من الأطراف وهادته بهدايا فاخرة، وسائر ولاة مصر كانوا يحترمونه، وكان شهير الصيت عظيم الهيبة”. وبلغ من تقدير الأمراء المماليك له وتعظيمهم لحرمته أنه لما نشبت فتنة بين طائفة من المماليك وأتباعهم، قصده أحد أمراء الطائفتين مستنجدا به، ولم يجد بيتا آمنا يحتمي به غير بيت الشيخ الدمنهوري في بولاق، فلما طلب خصومه من الشيخ تسليمه إليهم رفض، ولم يجرؤوا على اقتحام بيت الشيخ احتراما لمنزلته.
مشيخة الأزهر
تولى الشيخ أحمد الدمنهوري مشيخة الجامع الأزهر سنة 1768 خلفا للشيخ عبد الرؤوف محمد السجيني.
معرفة الخليفة العثماني به ومراسلته له
كان الخليفة العثماني السلطان مصطفى الثالث (1717- 1774) يجل الشيخ أحمد الدمنهوري ويحترمه ويراسله في مسائل علمية، ولم يكن هذا غريبا على مصطفى الثالث الذي ولي الخلافة ما بين 1757 و1774 واستبقى العلامة راغب باشا (1698- 1763) ليكون صدرا أعظم للدولة حيث كان سلفه السلطان عثمان الثالث (1699- 1757) قد اختاره لهذا المنصب، وتزوج راغب باشا من شقيقة السلطان مصطفى، وهو صاحب المكتبة المعروفة باسمه، وكان شاعرا باللغات الثلاث العربية والفارسية والتركية. كان الشيخ أحمد الدمنهوري رابع شيخ للأزهر في عهد مصطفى الثالث بعد الشيخ عبد الله الشبراوي والشيخ محمد الحنفي والشيخ عبد الرؤوف السجيني. وكانت مشيخة الشيخ الدمنهوري في عهد ولاية علي بك الكبير (1728- 1773) وخليفته محمد أبو الدهب (1735- 1775)
المقارنة بينه وبين الشيخ حسن العطار
ومع أن الشيخ أحمد الدمنهوري بلغ من العلم ما بلغ فإننا نعتقد أن الشيخ حسن العطار (شيخ الأزهر الثاني والثلاثين) كان أعظم منه أثرا، حيث أسهم بقوة واقتدار في وجود مؤسسات التعليم الحديث، وساعده عصره المضطرب بالحياة والأحداث على ان يدفع بتلاميذ له إلى مدارج الرقي مثل رفاعة الطهطاوي (1801- 1872) ومحمد عياد الطنطاوي (1810- 1861) ومعاصريهما، أما الشيخ الدمنهوري فقد وجد في عهد الحضارة الهادئة التي سبقت ذروة الاضطرابات التي أحدثتها الثورة الفرنسية. وهكذا كان هو وتلاميذه من النوابغ الذين لم يشتبكوا بالمجتمع اشتباكات مثمرة في العصور التالية لها.
في كتابه “القول الأقرب في علاج لسع العقرب”
كتب الشيخ أحمد الدمنهوري في مقدمته لهذه الرسالة: “حمدا لمن تفضل علينا بالإيجاد، وبعد فهذه كلمات قليلة، مشتملة على فوائد جليلة، ومقدمة في وصف وكنية العقرب ومقصود دفع السم، يذكر فيها وصفات منها ما يحتوي الدار صيني (نبات) الذي ينفع من لسع العقرب والنعناع والثوم المطبوخ بالسمن النافع في لسع الزنبور والنحل والحية. وخاتمة فيما ينفع السموم من الطب الروحاني”.
من مؤلفاته الطبية
- «القول الصريح في علم التشريح» عن التشريح الطبي.
- «الكلام اليسير في علاج المقعدة والبواسير» عن علاج حصوات البول ومشاكل الشرج والبواسير.
- «القول الأقرب في علاج لسع العقرب».
آثاره في الفقه وعلوم الحديث وعلوم المنطق
- «الفتح الرباني بمفردات ابن حنبل الشيباني» في الفقه الحنبلي.
- «فيض المنان بالضروري من مذهب النعمان» في الفقه الحنفي.
- «نهاية التعريف بأقسام الحديث الضعيف» في مصطلح الحديث.
- «الكلام السديد في تحرير علم التوحيد».
- «إيضاح المبهم من معاني السلم» في شرح السلم المنورق في علم المنطق.
- «سبيل الرشاد إلى نفع العباد».
العلوم الطبيعية والكيميائية
- «رسالة عين الحياة في استنباط المياه» في الجيولوجيا والهيدرولوجي.
- «الدرة اليتيمة في الصنعة الكريمة».
السياسة والبلاغة
- «منهج السلوك في نصيحة الملوك».
- «حلية اللب المصون في شرح الجوهر المكنون» طُبع أكثر من مرة، وكان من الكتب التي تدرس في المعاهد الدينية.
وفاته
عاش الشيخ الدمنهوري حتى تجاوز التسعين من عمره، وتوفي في 4 أغسطس/آب 1778 (وهو ما يوافق المثبت في أدبيات ذلك العصر من أنه توفي يوم الأحد 11 رجب 1192هـ) بمنزله في بولاق، وصُلِّي عليه بالجامع الأزهر، ودُفن في البساتين.