من عجائب القدر أن يتمنى بعض الناس الإنجاب بأي ثمن في حين يشكو آخرون من كثرة الأولاد، وقد علّمنا التاريخ حقيقة مهمة في ما يتعلق بإستراتيجيات نظام الحكم، وهو أكثر أمر يهم الحاكم نفسه، الذي تقوده الفطرة (ولا نقول الغريزة) إلى الرغبة في الاستمرار مع النجاح، ومن العجيب أنه في حالات الحكم العسكري فإن وجود هامش معقول من المعارضة المسموعة هو الضمان الوحيد (ونكرر كلمة الوحيد من باب التأكيد) لاستمرار أي حاكم جاء بالدبابة، ثم صنع انتخابات مظهرية ليزيل الحرج المعنوي عمن يؤيدونه.
يعود السبب الديناميكي في هذه الحقيقة إلى ما هو معروف من الخطورة الكامنة في الحماسة للرأي أو للرؤية، فقد أثبتت التجربة الإنسانية أن أخطر ما تتعرض له الذاكرة الوطنية في أي مرحلة من المراحل هو اقتصارها على قراءة كتب التاريخ التي تصور كل نصر وطني أو قومي على أنه نهاية الدنيا، ومع أن التاريخ الإنساني لم يعرف أي نصر أنهى الدنيا أو أنهى التاريخ، فإن كتب التاريخ في كثير من الحقب العسكرية (ومنها الحقبة الناصرية على سبيل المثال) كانت تتبنى هذه الرؤية الخيالية، وكانت تتكفل بهذا الحسم المعرفي الذي يبلغ اليقين، وربما يتفوق عليه، وكانت لا تمانع في أن تقدم نموذجا فظيعا للانتصارات الحاسمة بهيئة نهائية مهما كان الإجرام فيها، وهو نموذج مذبحة القلعة التي أتمها محمد علي باشا (1769-1849)، حين دعا كل القادة الذين كانوا موجودين من قبله إلى حفل ولقاء داخل أسوار القلعة، ثم أطلق عليهم النار فأبادهم جميعا، وانتهى بذلك عصر المماليك.
من الطريف أن هذه الكتب نفسها تتحدث عن أن دخول العثمانيين مصر عام 1516 كان نهاية لعهد المماليك، ولم يسأل أحد نفسه كيف انتهى في 1811 ما كان قد انتهى في 1516؟ إن الإجابة التلقائية أو التلفيقية جاهزة وهي أن دولة المماليك انتهت في 1516 لكن المماليك أنفسهم استمروا 3 قرون حتى أبادهم محمد علي في مذبحة القلعة، ونشأت بعدهم أنواع أخرى من المماليك.
التجربة التي جذبت العسكريين العرب
على كل الأحوال، فإن محمد علي بقسوته ودكتاتوريته وفظاعته وجبروته وغطرسته ظل بمثابة المثل الأعلى الذي يراود خيال الرئيس جمال عبد الناصر (1918-1970) والعسكريين العرب الذين جعلوه مثلا أعلى في السيطرة، لكن فارق 150 سنة لم يكن في صالح الرئيس عبد الناصر رغم أنه كان من المفترض أن يكون الزمن في صالحه.
وقد كان المثقفون المصريون في السبعينيات يرددون كثيرا جملة طريفة ابتدعها الدكتور لويس عوض في النقد الساخر للتجربة الناصرية، وكانت الجملة تقول: كيف يمكن لك يا ريس عبد الناصر أن تكرر محمد علي وأنت تضع عبد الحكيم عامر (1919-1967) في موضع إبراهيم باشا الذي لم يهزم في أي معركة؟!
على أن أحدًا في المحيط الثقافي لم يكن قد ناقش الأمر بهذه الجدية الساخرة التي صاغتها تلك المقولة، وكان جزء من انعدام المناقشة راجعا إلى انتشار الخوف الذي أخذ يتضاعف مع كل من قلدوا جمال عبد الناصر الذي لم يفلح في تقليد محمد علي.
ومن الطرائف التي يتناقلها المثقفون العرب بعضهم عن بعض أن الرئيس حافظ الأسد (1930-2000) كان يقول لخلصائه من ضيوف سوريا إن الرئيس عبد الناصر هو سبب كل المصائب التي تعانيها سوريا والعالم العربي، وإنه يحاول أن يعالج تلك المصائب، فلما صعد نجم صدام حسين (1937-2006) بنى على مقولته إن كل المصائب جاءت بسبب عبد الناصر وحافظ الأسد، فلما نُقلت هذه الرواية المسلسلة إلى الرئيس مبارك ابتسم بطريقته المعهودة التي كان يقول فيها دوما إن أحدا لا يعرف من هو سبب المصيبة بالضبط، لكن المصائب موجودة بالفعل.
الهزيمة سوء حظ
يروى أن واحدًا من الذين كانوا انخدعوا وبدؤوا يأمنون على أنفسهم بعد هزيمة 1967 قال في اجتماع عال أمام الرئيس عبد الناصر إنه لو كانت هناك معارضة ما كنا قد تعرضنا لهذه الهزيمة الفادحة! وبعد أن فكر الرئيس جمال عبد الناصر بعض الوقت في ما قاله هذا السياسي المقرب منه وقتها رد عليه في نهاية الاجتماع بعد ساعتين بقوله: إنه لم يمنع أحدًا من المعارضة لكن المشكلة هي أن المعارضة لا تعرف أبعاد الصورة الحقيقية كاملة! وكان هذا الرد دليلا جديدًا على أن الهزيمة لم تتحول بعد إلى درس، إنما لا تزال في مرحلة التصوير على أنها سوء حظ فحسب.
يريدون ممارسة المعارضة التفتيشية
لكن التأمل العميق لرد الرئيس جمال عبد الناصر الذي نطق به وقد بلغ به السن مرحلة النضج العمري الذي لا ينتظر نُضجا بعده يدلنا على المعنى الجوهري في فهم العسكريين للمعارضة، فهم لا يؤمنون على الإطلاق بالتعددية ولا بالحزبية، وليسوا على استعداد لسماع خطة أخرى، وإنما هم يريدون ممارسة المعارضة بطريقة وحيدة ومحدودة، وهي التبليغ عن أية عناصر تؤيد المخالف للتوجه، والتبليغ عمن ينمي قدرته الذاتية، والتبليغ عمن يستقطب الآخرين من أجل صناعة توجه آخر غير السائد في سياسة الزعيم، وفي ما عدا هذه المعارضة التفقدية أو التفتيشية أو المتعقبة للنوايا فإن العسكر لا يؤمنون بأي جدوى للمعارضة.
ومن العجيب أن الحقيقة السياسية تقول إنه إذا كان المدنيون يحتاجون المعارضة بنسبة ما فإن العسكريين يحتاجون المعارضة 100 ضعف من هذه النسبة، ذلك لأنهم لا يدركون الأبعاد ولا يعرفون الأعماق، لكنهم مع هذا لن يتغيروا أبدًا إلا إذا اختفى المنافقون. وهذا مستحيل، فالحياة بلا نفاق هي الموت بعينه.