لا يستطيع أي قارئ للتاريخ العربي المعاصر أن ينكر أن لبنان اليوم تترحم على الرئيس جمال عبد الناصر (1918-1970) وعلى قدرته الفذة في ضبط الشارع السياسي في بيروت، فرغم ما كان يضج به هذا الشارع من صحافة متعددة الأهواء والغايات ويحفل به من وجود شخصيات قادرة على الحركة والاستقطابات، فإن اسم عبد الناصر كان كفيلا بأن يقول للهرج والمرج اسكت فيسكت، وإذا كنا في مقام الثناء الصادق على الرئيس جمال عبد الناصر فليس هناك محل للقول بأن سياسته هي التي أدت إلى ردود الأفعال اللاحقة بما فيها الحرب الأهلية اللبنانية نفسها؛ ذلك أن مثل هذا القول يفتقد إلى كثير من المصداقية حتى وإن بدا موضوعيا أو علميا أو متسقا مع قوانين الطبيعة، وقوانين السياسة من باب أولى.
من الطريف أن دور الرئيس جمال عبد الناصر في بيروت قد أتاه على طبق من ذهب ولم يكن في حساباته أو في تخطيطه، لكنه بحكم حبه للزعامة وبحكم ظروفه الجيدة كان قادرا على أن يؤدي هذا الدور بذكاء وفطنة وعزة واقتدار كذلك.
تضافر عاملان مختلفان تماما في خلق الدور الناصري في بيروت، وكان الأول بعيدا تماما عن بيروت إذ تمثل في رغبة الرئيس جمال عبد الناصر في إبعاد عدد من الضباط الأقدم منه ومن مجموعته عن مواقعهم في القوات المسلحة إلى السلك الدبلوماسي عام 1955 ليمثلوا أول دفعة من الدبلوماسيين الضباط أو الضباط الدبلوماسيين، وكان هؤلاء هم اللواء عبد الحميد غالب الذي عين سفيراً في لبنان بين عامي 1955 و1967، ومحمود رياض في دمشق، وصبور في الرياض، وسيف اليزل في الخرطوم، وتواكب هذا مع تعيين السفير كمال عبد النبي سفيرا لدى باريس. يعرف القارئ أن الثاني وهو محمود رياض أصبح بعد 9 سنوات وزيرا للخارجية عام 1964، ونائبا لرئيس الوزراء عام 1971، ثم أمينا عاما للجامعة العربية عام 1972.
أما اللواء عبد الحميد غالب، فكان تأثيره في بيروت أقوى من أي سفير مصري في أي عاصمة، وأقوى من أي سفير آخر في بيروت بما في ذلك سفراء أميركا وبريطانيا وفرنسا، وكان عبد الحميد غالب -بفضل قوة الرئيس جمال عبد الناصر وقوة مصر- هو الملك المتوج في بيروت؛ فالكل يلبي أوامره، ويخطب وده، ويتجه حسب إرشاداته. وبلغة التاريخ، فقد كان هناك الرجل الذي وجد قبل الدور!
العامل الثاني لم يكن الرئيس جمال عبد الناصر يتصوره على النحو الذي حدث به؛ ذلك أنه بإعلان وحدة مصر وسوريا في 22 فبراير/شباط 1958 سارع أصحاب الولاء الغربي في بيروت الذين تعودوا على صك المصطلحات ومعالجة الإستراتيجيات ببلاغة اللغة -سواء في ذلك اللغة العربية أو أي لغة أجنبية أخرى، فاللغات كلها عند التعبير شيء واحد- إلى تحذير الغرب من أن الرئيس جمال عبد الناصر الذي يمكن أن يكون هتلر الجديد أصبح على حدود حلف شمال الأطلسي “ناتو” (NATO)، إشارة منهم إلى الحدود البرية بين سوريا وتركيا، والحدود البحرية بين لبنان و”لبنان الغربية” أي قبرص التي كانت في ذلك الوقت بمثابة قاعدة للبريطانيين ومن ثم لحلف الناتو، وتصادف أن كان في بيروت زعيم مسيحي ماروني تميز عن كل أقرانه من المارون بأنه ماروني “إنجليزي” وليس مارونيا فرنسيا، وذلك على نحو ما فصلنا القول في كتابنا المنشور “سوريا ولبنان قبل الناصرية والنصيرية” كان هذا الزعيم هو كميل شمعون (1900-1987)، ولم يجتمع الرئيسان جمال عبد الناصر وأنور السادات على كراهية شخص كما اجتمعا على كراهيته، وقد طلب هذا الزعيم الماروني “الإنجليزي” ذو الشخصية القوية والفريدة عون الغرب صراحة وبإلحاح واستغاثة، لأنه أصبح محاطا من كل ناحية بعبد الناصر أو هتلر الجديد، وهكذا وجد الرئيس جمال عبد الناصر نفسه أمام كل هذه الافتراءات من حيث لم يكن يتصور وجودها من الأساس، لكن الحقيقة -التي لا يجادل فيها أحد مهما كان كارها للرئيس جمال عبد الناصر- أن ناصر وهو الزعيم الشاب الحقيقي كان على قدر المسؤولية، وواجه شمعون وأمثال شمعون بكل حسم وحزم، وانتصر لشعب لبنان ضد المليشيا والمافيا على حد سواء وضمن للمواطن اللبناني كثيرا من الأمن والسعادة والاحترام والعروبة.
ولا شك في أن أداء الرئيس جمال عبد الناصر في لبنان من النقاط المضيئة في تاريخه، والتي كان كل عربي مخلص يتمنى -ولا يزال- أن يتواصل دور مصر فيها، وهو دور بدأ في التراجع في عهد عبد الناصر نفسه بسبب هزيمة 1967، ثم بدأ في التراجع أكثر بعد نصر أكتوبر/تشرين الأول 1973 حيث أصبح الرئيس السوري حافظ الأسد 1930-2000 بحاجة ماسة إلى إثبات ذاته وتحقيق أي نجاح في لبنان بأكثر مما يمكن أن يسمح لمصر بشخصيتها أن تكون هناك إلا بمذابح لمصر والمصريين! وهو ما كان الرئيس يرفضه مهما كان الثمن!