كان مكرم عبيد باشا 1889- 1961 من أقرب الناس للنحاس باشا 1879- 1965 حتى تمكن منه الغرور بقدرة القصر الملكي ورئيس الديوان احمد حسنين باشا 1889- 1946 على أن يقدم له أكثر مما هو فيه من مجد فانقلب على الوفد والنحاس باشا في 1942 وبالطبع فقد كان لابد له من أن يقدم لجماهير الشعب ما يبرر هذا الانقلاب، ومن هنا جمع الاستثناءات التي حدثت على يده هو نفسه (في معظم الأحوال) في كتاب أصدره بعنوان الكتاب الأسود.
كان الاندهاش بالكتاب الأسود والإعجاب بطريقة تخبئة نصوصه ثم نشرها بالطريقة السرية أو الشبابية الجذابة كفيلا للكتاب الأسود بمستقبل أفضل، لكن الكتاب الأسود سرعان ما انقلب على مكرم على نحو ما انقلب مكرم نفسه على الوفد، ذلك أن القارئ للكتاب الأسود [حتى في عام 2020 أي بعد ثمانين عاما من نشره] يخرج بانطباع سيئ جدا وكريه عن مكرم وتربصه، وانحيازه السافر ضد الحقيقة للدرجة التي تجعله لا يجد أي حرج في أن ينتقد تصرفات ذكية كان هو وليس غيره صاحب صياغتها على النحو العملي الذي صيغت به وبخاصة فيما يتعلق بانتقاده المبالغ فيه لإجراءات اتبعتها الحكومة والمالية على وجه التحديد لإنصاف الوفديين المضارين في وظائفهم بسبب طغيان حكومات الأقلية والديكتاتوريات من طبقة صدقي باشا.
ونحن نعرف أن الوفد كان [بقيادة النحاس ومعه مكرم] حريصا على إتمام هذا الإنصاف من دون أن يربك تراتيبية الدولاب الحكومي السائر، فإذا مكرم وهو مهندس هذه التسويات يتحدث عنها وكأنها تجاوزات، مع أنه هو الذي أنجزها على النحو الذكي من أجل الوطن، ولولا أنه أنجزها هكذا حين كان مسؤولا لكان قد صعّب من استمرار جاذبية الوفد وشعبيته، وهي الجاذبية والشعبية التي كانت تزيد باضطراد، بل إنها زادت بعد انشقاق مكرم وبعد تأليف الكتاب الأسود ونشره بالطريقة السنيمائية التي نشره بها.
هل كان الملك هو المخاطب في الكتاب الأسود أم النحاس باشا؟
يستطيع أي دارس لعلم النفس أو للطب النفسي أن يكتشف بسهولة أن مكرم كان واعيا لأن الملك لا يعنيه أن يقرأ هذا الذي حضره ونسقه وكتبه، كذلك فلم يكن مكرم معنيا بأن يقرأ زعماء المعارضة أو رجالها هذا الذي كتبه، وإنما كان يعنيه في المقام الأول أن يقرأه النحاس باشا وعائلة النحاس باشا ليعبر لهم عن أنه لا يزال متمتعا بنفوذ ما وبالقدرة على الانتقام على نحو ما كان متمتعا بالقدرة على التعاون، وليثبت أنه قادر على الغدر كما كان قادراً على الولاء..
ولهذا فإن الكتاب الأسود طيلة صفحاته يدور حول هذه النقطة دوراناً مهتزاً ومريضاً بطريقة كانت كفيلة بأن تدفع القارئ (لو كان من المقتنعين بفكر الأطباء الأمريكيين في عصرنا هذا) إلى المطالبة باحتجاز مكرم عبيد باشا للعلاج من هذه الحالة النفسية قبل أن يضيع عليه ما بقي من عمره في تحسر متواصل على نحو ما حدث بالفعل مع مكرم منذ 1942 وحتى وفاته في 1961 حيث عاش تسعة عشر عاما متحسراً و حتى مات في شبه عزلة وإقصاء ونسيان من أن يجد من يمجد له دوراً أو يعترف له بفضل حتى مع بقاء الإعجاب بقدرته على تكلف البلاغة واختلاق السجع وعنايته بالتحذلق.
تصويره فقدانه وزارة التموين على أنه نهاية العالم
يندهش القارئ لمكرم حين يجد تصويره لبداية خلافه مع النحاس باشا متمثلاً في أنه فقد ما كان متمتعا به عند تشكيل وزارة 4 فبراير 1942 حيث كان وزيراً للمالية كالعادة (والتموين معها) وذلك بعد أن تقرر العدول عن تخصيص الوزارات الثلاث المستحدثة وهي التموين والوقاية الوطنية، بيد أن الوزارة كانت قد عادت ورأت أن إلغاء الوزارات سيربك أعمالا كثيرة، ومن ثم فقد توصلت إلى حل وسط هو الإبقاء على الوزارة مع عدم تخصيص وزراء مستقلين بها، أي أنه لم يعد هناك حاجة لإلغاء الوزارة والديوان والإدارات والكيان، وإنما اكتفى بإلغاء الوزير، وهكذا ظل مكرم وزيراً للمالية والتموين معاً، لكن الأمور فيما يبدو اقتضت إخراج التموين من حوزته بعد أن بدأ يساوم بها، فعُين وزير جديد للتموين و هو رجل فاضل (أحمد حمزة باشا)، وعندئذ جن جنون مكرم كما يتضح من النصوص التي أوردها في الكتاب الأسود والتي سنوردها بالتفصيل وهي نصوص متعارضة، وصلت في انعدام كياستها إلى حد التقليل من قيمة الوزير الجديد ووصفه بأنه يحتاج إلى (تعليم) على يد مكرم نفسه!!
وبالطبع فإن مكرم حسب ما توحي تعبيراته وصياغاته كاد يجن من فقدان وزارة من الوزارتين، ثم استقرت نفسه على حالة قريبة من الجنون، ثم بلغت به هذه الحالة من جنون الفقد إلى درجة فقدان الوزارة الأصلية وهي المالية ثم فقدان المكانة الأهم وهي مكانة سكرتير عام الوفد، ثم المكانة الجوهرية وهي عضويته في الوفد نفسه وعضوية مجلس النواب.. وكان هذا كله نتيجة نزق متجدد ومتواصل لم يتوقف مكرم عبيد باشا في طريق تكراره له لحظة واحدة ليراجع فيه نفسه.
أما انتقادات مكرم عبيد للأشخاص الموهوبين الذين كرمتهم وزارة الوفد، وكان هو نفسه للحق مشاركا في هذا التكريم فيكشف عن إصابة مكرم عبيد بداء الذئبة الحمراء وما يعتري الجسد المصاب به من التدمير الذاتي، وما بالك وهو يهاجم عددا من أبطال الرياضة ورموز الوطنية ونجوم الشعر والسياسة والمحاماة والعمل الوطني بهذه الطريقة السخيفة.
مكرم يساءل نفسه: هل أنا حقًّا قد جُرِّدْتُ من كل سلطان؟
“ولكن هل أنا حقًّا قد جُرِّدْتُ من كل سلطان ، أو بعض السلطان، في الوزارة الأخيرة فلهذا غضبْتُ وحنقْتُ؟ لعلَّ الردَّ البسيط على هذه السخافة أني إذا كنت قد غضِبت لنفسي أو لسلطتي لخرجتُ من الوزارة أو أصررت على خروجي منها في كل مرة أتيحت لي فيها الاستقالة وقدمتُها فعلًا … أو لخرجت من الوزارة بعد تعيين وزير آخر للتموين احتجاجًا على انتقاص سلطتي! وعلى البواعث المخزية التي دَعَتْ إلى هذا التعيين، وسيأتي تفصيلها، ولكن الأمر كان على النقيض من ذلك، فقد ثَبَتَ للناس من الوثائق الرسمية أن النحَّاس باشا هو الذي أخرجني من الوزارة بعد أن ارتضيت العدول عن الاستقالة عقب أزمة الاستثناءات، وقَبِلْتُ البقاء في الوزارة طوعًا للرغبة السامية التي بدت من جلالتكم للتوفيق بينه وبيني، ولكنَّه رَفَضَ وأصرَّ على رَفْضه، فهو إذن الذي غضِب لنفسه لا أنا، وهو الذي أراد أن يتخلَّص مني ليخلو له الجو فيستغلَّ الحُكْم كما يشاء أو يُرَخِّص كما يشاء، ويستثني كما يشاء، إلا أن يشاء الله غير ما يشاء! هذا هو المنطق الحق، وللمنطق دلالته وحكمه. ولكني لا أقنع به وحده، وللوقائع منطق قد يكون أسمع قيلًا، وأقطع دليلًا، من كل منطق نظري.
” وحسبي للتدليل على أن النحاس باشا أولاني عند تشكيل وزارته الأخيرة [المقصود هو وزارة النحاس باشا الخامسة في فبراير 1942] سُلْطة أوسع من أية سلطة لي في أية وزارة سابقة أن أَذْكُر الوقائع الآتية:
ـ عَهِدَ إليَّ بوزارتَي المالية والتموين، وهما محور الوزارة ونقطة ارتكازها في أي وقت، ومن باب أولى في الوقت الحاضر والحربُ ناشبةٌ على الأبواب.
– كنت مستشارَه في اختيار أشخاص الوزراء، حتى إني اعترضت، لأسباب لا تمس شخصه، على إدخال نسيب له في الوزارة، هو حضرة صاحب المعالي الدكتور عبد الواحد الوكيل بك، فقبل مني اعتراضي وسَلَّمَ بوجاهته.
– كنت أنا الذي أَشَرْتُ وألححتُ بوجوب الحصول على خطاب من سعادة السفير البريطاني كشرط أساسي لقبول تشكيل الوزارة احتفاظًا بكرامة العرش المصري والاستقلال المصري، وأراد النحاس باشا تأخير هذا المسعى إلى ما بعد تمام التشكيل، فرفَضْتُ دخول الوزارة إذا لم يَصْدُر التصريح البريطاني أولًا وقبل كل شيء، وقد تم ذلك فعلًا واشتركت مع موظفَيْنِ كبيرَيْنِ من السفارة في تحرير الخطابَيْن الرسميَّيْن المتبادَلَيْن بين الحكومتين، وحضر اجتماعَنا رفعة النحاس باشا وأحد حضرات الوزراء.
– ألححتُ في وجوبِ حَظْر المحسوبية والاستثناءات حظرًا تامًّا؛ حتى لا يعود الناس فيأخذوا علينا ما كان محلَّ نقد ومؤاخذة في سنة ١٩٣٧، وأصررت على أن نُضَمِّن خطابَ تشكيل الوزارة عهدًا صريحًا منَّا بِمَنْع الاستثناءات، وفعلًا قَطَعْنَا على أنفسنا هذا العهد الرسمي في وثيقةِ تشكيل الوزارة التي رُفِعَتْ إلى مقامكم السامي، فنصَّت على أن الوزارة، تيسيرًا لعوامل الطمأنينة والعدل والمساواة، ستعمل من غير ما ميلٍ أو محاباة أو محسوبية أو مراعاة للوجوه إلا وجه ربك ذي الجلال.
– عَهِدَ إلى لجنةٍ من الوزراء وَضْع خطاب تشكيل الوزارة الذي تضمَّن برنامجها، فكان من نصيبي وَضْع هذا الخطاب وتحريره.
اعترافه غير المباشر بقبوله إغواء رجال الملك
ويصل مكرم عبيد باشا بعد هذا إلى أن يطرح على الملك سؤالا يريد أن “يثبت به الحالة” كما يقول القانونيون وهي أنه أي مكرم باشا كان يتمتع بكل هذه الثقة والنفوذ فترك كل هذا من أجل الإغواء الموحى الذي قدم له باسم الملك:
” فأين أين يا مولاي ما زعمه النحاس باشا أو زعموه له من الحد من سلطتي، وقد كِدْتُ أنوء بما حَمَّلَني إياه من أعباء ومسئولياتٍ لا يَدْخل بعضها في حدود مهمتي؟!”