نبدأ بنقل نص صريح لأحد كبار رجال الاعمال الذين أوذوا بسبب التأميمات وهو محمد أحمد فرغلي باشا لكنه بعد كل ما حدث له يؤيد سياسة التأميم:
“…. يتصور البعض خطأ أنني بحكم انتمائي الاجتماعي لابد وأن أقف ضد القطاع العام، وبحكم أنني رأسمالى لابد وأن أقف ضد مبدأ التأميم، ولقد دهش البعض أيضا عندما وجدوني أدافع عن القطاع العام بداية من عام 1974 حيث بدأت أنشر بعض مقالاتي على صفحات الأهرام، وربما زالت دهشة هؤلاء وأولئك إذا علموا أنني كتبت للرئيس عبد الناصر قبل عام 1961 أكثر من مذكرة أطالبه فيها بالتأميم، ولكن هناك فارق شاسع بين ما كنت أطالب به وما حدث بين القطاع العام كما تصورته، وبين القطاع العام في وضعه الحالي. فعندما حدث التأميم أممت كل شركة وأي شركة سواء كانت تحقق ربحاً أو لا تحقق ربحاً على الإطلاق، ومن غير المعقول أن تكون هناك شركات تخسر في ظل ملكية صاحبها لها، ثم نؤمها وننتظر منها في ظل ملكية الدولة النامية أو المتخلفة أن تحقق هذه الشركة ربحا”.
“…. وبعد التأميم أجرت الحكومة دمجا لبعض الشركات التي تعمل في مجال واحد، وفي ظل هذا المبدأ اندمجت شركات تكسب مع شركات تخسر، كما أنه لم تكن هناك كفاءات لإدارة هذه الشركات بعد إخراج أصحابها، حيث تم الاعتماد على أهل الثقة الذين لم يكن لهم أي خبرة في مجالات عمل هذه الشركات في الثمانينات”.
وردت هذه النصوص فيما نشره ملك القطن محمد أحمد فرغلي باشا من مذكرات قيمة تدارسناها في وقتها بمقال موسع في مجلة عالم الكتاب 1987 ثم في كتابنا ” فن كتابة التجربة الذاتية.. مذكرات الهواة المحترفين ” الذي صدر 1996، أي منذ ربع قرن، وفي هذه المذكرات كثير من الروايات ووجهات النظر التي لم يكن للمجتمع المصري عهد بها في ظل الإعلام المعتمد على صوت واحد، مع أن فرغلي باشا قدم ما لا يتصوره الناصريون من ترحيب رجال الأعمال الناجحين بالتأميم المنضبط.
لماذا أقر فرغلي باشا بحق الدولة في التأميم
“…. لا يستطيع أحد أن يجادل في حق دولة ما في التأميم، فهو من الحقوق السيادية، ولكن الذي يمكن أن يجادل فيه هو أسلوب التأميم، وكيفية التقويم والتعويض عن الشركات المؤممة. لقد لجأت دول رأسمالية عريقة إلى أسلوب التأميم في عهد بعض حكوماتها الاشتراكية، كان مجال نشاطها ضرورياً أو هامشياً، وعندما قررت أن تؤمم لم تفاجئ أصحاب هذه الشركات ولم تنتقم منهم بسلب أموالهم، وتقويم شركاتهم بطريقة ظالمة تعسفية، كما أنها لم تضعهم تحت الحراسة انتقاما من كدهم وتعبهم ونجاحهم وأدائهم لدورهم تجاه المجتمع. الدول العريقة عندما تؤمم الشركة تشكل لجنة لتقويمها حسب آخر سعر للأسهم في البورصة”.
لكنه يقول ان التأميم في مصر مشوب بالمظالم والتشفي في المصريين..
“…. المؤلم في معظم عمليات التأميم التي تمت في مصر أنها جاءت مشوبة بالأخطاء والمظالم التي قلت إنها لا تقع في الدول المتقدمة. …. وقع التأميم على مصريين وأجانب لكن كانت هناك تفرقة في المعاملة، فلقد عوض الأجانب تعويضا مجزيا، وحصلوا على معظم حقوقهم، ولم يوضعوا تحت الحراسة، بينما لم يحصل المصريون إلا على مبالغ تافهة، والكثير منهم عُوقب بالوضع تحت الحراسة، وكان على هؤلاء المصريين أن يذهبوا ليحصلوا على مستحقاتهم القليلة في طوابير طويلة، وكأنهم يتلقون برا أو إحسانا من الحكومة. ولقد كان القائمون على الحراسة يفعلون ذلك تشفيا وانتقاما من مجموعة من مواطنيهم الناجحين النابهين، وكان هذا ذنبهم الوحيد …. كان موقف الحكومة من الأجانب عادلا ورحيما نتيجة لضغط حكومات هؤلاء الأجانب، وأتذكر جيدا أنني التقيت بصديق لبناني أممت أملاكه مثلى حيث قال لي: الحمد لله أنني احتفظت بجنسيتي اللبنانية، وإلا لكنت في هذا الوضع المهين الذي تعانونه أنتم المصريين”.
إشكالية تأميم شركات البترول والدواء
كان الرئيس جمال عبد الناصر قد وافق على ألا تتضمن قوائم التأميم شركات البترول كما وافق على وجود ثلاث شركات أدوية برأس مال أجنبي غربي 60 % ورأس مال خاص 40 %، وكان لهذا الاستثناء أسباب معروفة فعلى سبيل المثال فان شركة فايرز للأدوية كانت تصرف 20 مليون جنيه سنويا للأبحاث، أما شركات البترول فكانت تحجم عن العمل خوفا من قوانين التأميم..
وفي عام 1963أعلنت وزارة الصناعة عن توصل الدكتور عزيز صدقي إلى اتفاقية مع الحكومة الأمريكية تنص على أن الاستثمار الذي يتم في مصر تضمنه الحكومة الأمريكية، وقد عارض الرئيس جمال عبد الناصر الاتفاقية أولا ثم أقتنع بها بعد مناقشة دارت حول أهمية استخراج البترول لبناء اقتصادنا القومي. كانت الشركات الأمريكية تتقاسم مع الحكومة المصرية نصف الأموال التي صرفت في البحث ثم تستمر في الحصول على 25% من الإنتاج إلى أن ينضب.
كما أعلنت وزارة الصناعة عن أنها اتفقت مع الاتحاد السوفييتي على القيام بعمليات التنقيب عن البترول في منطقة سيوة بالصحراء الغربية، بشروط تختلف عن شروط الشركات الأمريكية، وذلك في صورة قروض تصرف على البحث حتى إذا ما تم العثور على البترول انسحبت الخبرة السوفييتية تماما، ولم يعد لها أي نوع من المشاركة في الإنتاج إلا بقدر ما دفعته من أموال في البحث.
رجال الصناعة يعترفون بفشل تجربة تأميم الصناعة
وننقل عن مذكرات أحد اقطاب الصناعة المصرية في القطاع العام، وهو المهندس عادل جزارين رأيه الواضح في التأميم حيث قال: “والآن وقد مضي أكثر من أربعين عاما على قرار تأميم الصناعة، فقد أصبح من المؤكد أن هذا القرار كانت له آثار سلبية على الصناعة المصرية، وكان من العوامل الأساسية في تدهور العديد من الشركات الصناعية الناجحة، والتي تبحث الدولة الآن عن إعادة خصخصتها”.
عادل جزارين يصور كواليس التأميم المفاجئ للصناعة الوطنية
ونلخص هنا حديث المهندس عادل جزارين عن ساعة صفر التأميم في 1961 وما تدلنا عليه هذه الذكريات من وطنية بعض المصريين من رجال الأعمال الذين أممت شركاتهم وما تدلنا عيه أيضا من حماقة المسئولين من كبار رجال الحكم في الحقبة الناصرية.
« يوم 21 يوليو سنة 1962 كنت بالمنزل حينما دق جرس التليفون حوالي الساعة السابعة مساء، وكان المتحدث هو سكرتير الدكتور عزيز صدقي وزير الصناعة، الذي دعاني لحضور اجتماع مهم بمكتب السيد الوزير الساعة التاسعة من مساء اليوم نفسه، وقد دهشت لهذا الاجتماع الطارئ، والذي لم أعرف له سببا، وذهبت إلى مكتب الوزير في الوقت المحدد حيث وجدت حشدا من القيادات الصناعية من رؤساء ومديري الشركات الصناعية للقطاع العام، ولم يعرف أحد منهم سبب الاجتماع”.
“وفي تمام التاسعة بدأ الاجتماع، حيث أخطرنا السيد الدكتور عزيز صدقي أن هناك قرارا جمهوريا في سبيل صدوره الآن بتأميم جميع الشركات الاقتصادية وتحويل ملكيتها إلى الدولة، وأن القرار واجب التنفيذ فور صدوره، وأنه قد جمعنا لتكليف كل منا باتخاذ اللازم لتنفيذ هذا القرار في الشركة التي سيكلف بها، وأن علينا أن نتوجه بعد الاجتماع إلى مقر كل شركة لتشميع الخزانة والتحفظ على المستندات المهمة الموجودة هناك، وانتهي الاجتماع حوالي الساعة العاشرة مساء”.
تجربته في تسلم شركة المشروعات الهندسية
استرجع عادل جزارين ذكرياته عن الدور الذي قام به في تسلم وإدارة إحدى الشركات على نحو لا يوحي للنفوس السوية الا بالألم:
«وجاء تكليفي بإدارة شركة المشروعات الهندسية، وهي شركة كانت تعمل في صناعة المنشآت المعدنية، ولديها مصنع في شبرا الخيمة، ويمتلكها المهندس عمر سيف الدين، وتقع إدارتها في شارع قصر النيل، اتصلت فور انتهاء الاجتماع بالسيد أحمد شوقي المدير المالي لشركة النصر للسيارات وطلبت منه مقابلتي فورا للذهاب معي إلى مقر الشركة في قصر النيل للاستفادة بخبرته المالية، وتقابلت معه وذهبنا إلى مقر الشركة حيث وصلنا إليها حوالي منتصف الليل”.
مضمون اقتراح فرغلي بالتأميم عام 1960
أذكر فحوى المذكرة التي أرسلتها إلى الرئيس عبد الناصر عام 1960 أقترح عليه فيها الأخذ بمبدأ التأميم:
- أن تؤمم الشركات الضخمة التي تحقق ربحا خلال السنوات الثلاث السابقة على سنة التأميم، كما يكون مجال نشاطها مناسبا.
- أن تمتلك الحكومة 51% فقط من أسهم الشركة والمساهمون 49% من أسهمها، وأن تدفع الحكومة 51% بسندات الخزانة لصاحب الشركة.
- أن ينتخب المساهمون رئيس وأعضاء مجلس الإدارة من خلال جمعية عمومية، ويكون للحكومة حق الاعتراض.
حسن عباس زكي أخذ بفكرته فلما أقيل ضاعت الفكرة
“…. وعندما لم يصلني رد من الرئيس عبد الناصر، أرسلت بفكرتي إلى … وزير الاقتصاد حسن عباس زكي في الإسكندرية عرضت عليه تأميم شركة فرغلي للتجارة والأعمال المالية بالشروط السابقة. والأستاذ حسن عباس زكي من الوزراء القلائل الذين كان لهم اهتمام عميق بالقطن، كما كان يتمتع بثقافة واسعة في مجال تصدير الأقطان، ويعتبر من الكفاءات المصرية النادرة في المجال الاقتصادي عامة. وعندما حدث التأميم سنة 1961 كان قطاع القطن هو القطاع الوحيد الذي أممته الحكومة بنسبة 51%، والفضل في الأخذ باقتراحي في هذا المجال يعود إلى حسن عباس زكي الذي اقتنع بوجهة نظري، وأقنع الرئيس عبد الناصر بها. لكن لم يمر أكثر من ستة شهور على التأميم حتى خرج السيد حسن عباس زكي وأممت الحكومة قطاع القطن بنسبة 100 % مثل كل القطاعات الأخرى.