العلامة محمد أمين بن عابدين، المشهور في كل نص وكل حديث بأنه ابن عابدين (1784-1836)، واحد من كبار علماء الحنفية في القرن 13 الهجري، وعرف بحاشيته التي ظلت -ولا تزال- ركنًا من أركان تدريس المذهب الحنفي، وأتمها ابنه محمد علاء الدين (1828-1889). ووصف بأنه كان ورعًا دينًا عفيفًا عالمًا عاملًا صالحًا، كما أنه كان من المتصوفة العاملين الجامعين بين العلم والتصوف، وكان أداؤه يتمتع بالأصالة التي تظهر في تعليقاته الفقهية المتعددة وقدرته على التواصل مع النصوص السابقة. ومع أنه لم يؤسس مدرسته في رحاب معهد كبير كالأزهر الشريف فقد أثمرت رموزا مرموقة من أهل العلم والقدرة على التدريس والتأليف وتكوين الرأي.
النسب الكامل لعائلته
والده هو عمر بن عبد العزيز بن أحمد بن عبد الرحيم بن صلاح الدين (وهو أول مَنْ اشتهر بعابدين) نجم الدين بن محمد كمال بن تقي الدين (المدرس في بلد الله الأمين) بن مصطفي بن حسين بن رحمة الله بن أحمد بن علي بن أحمد بن محمود بن عبد الله عز الدين بن قاسم بن حسن بن إسماعيل (وهو أول مَنْ جاء دمشق من هذه العائلة وولي نقابة الأشراف سنة 330 هـ وترجم له ابن عساكر في تاريخه) بن حسين المنتوف (وفي نسخة بخط السيد مرتضي الزبيدي: المفتون) بن أحمد صاحب الشام بن إسماعيل بن محمد بن الإمام إسماعيل الأعرج بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين السبط.
نشأته وتأريخ أحمد باشا تيمور لحياته
ولد العلامة ابن عابدين في دمشق، ونشأ في رعاية والده في بيت علم شهير، وحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب وهو صغير جدًّا، ويروي أن نبوغه في العلم يعود إلي سبب طريف؛ فقد كان يجلس في محل تجارة والده يقرأ القرآن، فمر رجل لا يعرفه فسمعه وهو يقرأ فزجره وقال له: لا يجوز لك أن تقرأ هذه القراءة، لأن المحل محل تجارة، والناس لا يستمعون قراءتك فيرتكبون الإثم بسببك، ولأن قراءتك فيها لحن، فقام ابن عابدين وسأل عن أقرأ أهل العصر في زمنه، فدله الناس على الشيخ سعيد الحموي (1742-1820)، فذهب إليه وطلب منه أن يعلمه أحكام القراءة بالتجويد، وكان لم يبلغ الحلم، فحفظ متون التجويد والقراءات: الميدانية، والجزرية، والشاطبية، ثم بدأ دراسته الدينية بفقه الإمام الشافعي، ثم حضر على السيد محمد شاكر العقاد (1744-1807) الحديث والتفسير.
وكتب أحمد تيمور باشا (1871-1930) عن ابن عابدين فصلا جميلا موثقا في كتابه “أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث”.
تحوله من شافعي إلى حنفي
ألزمه أستاذه السيد محمد شاكر العقاد بالتحول عن مذهب الشافعي إلى مذهب أبي حنيفة، فتحول وقرأ عليه الفقه وأصوله، وأخذ كذلك عن الشيخ الأمير المصري (1742-1817)، كما أجازه محدث الديار الشامية الشيخ محمد الكزبري (1727-1806)، وواصل الدرس والاستماع والفهم حتى صار علامة زمانه.
تلاميذه
أصبح ابن عابدين رأس عائلة من العلماء من أبنائه وأحفاده، وأخذ عنه الشيخ عبد الغني الميداني (1807-1881)، والشيخ حسن البيطار (1791-1856)، وأحمد أفندي الإسلامبولي (المتوفى نحو 1857).
مزاياه البارزة في التأليف
تنبئ مؤلفات ابن عابدين عن فهم عميق للفقه، ولقضاياه المشكلة، وتناولت رسائله العلمية البحث في قضايا المعاملات (وما يناظر الاقتصاد وقوانينه والقانون التجاري في مصطلحاتنا المعاصرة) بما تتضمنه من مسائل النقود والشركات وما إليها، كما تناولت قضايا الأحوال الشخصية، والحضانة، والنفقة، وأصول الإجراءات القضائية، ومبادئ القانون والقانون المدني… إلخ. كما عني بتحقيق أصول التصوف والأدعية وتحقيق مسائل التوحيد، وعلوم التفسير والأصول، وكثير من قضايا علم الكلام. وعلى صعيد ثالث فقد شملت مؤلفاته علوم النحو والصحة والحساب.
آثاره
- “رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار”، ويعرف هذا الكتاب باسمه الأشهر: “حاشية ابن عابدين”، وأولها يا من تنزهت ذاته عن الأشباه والنظائر… إلخ، وبهامشه الدر المختار المذكور تأليف علاء الدين الحصكفي، وطبع الكتاب مرات كثيرة في بولاق: 1855 و1869 و1882 و1905 و1913، وبالمطبعة الميمنية 1889 التي ما زالت تتداول حتى الآن، ولهذه الحاشية تكملة مسماة “قرة عيون الأخيار” لولده علاء الدين.
- “الإبانة عن أخذ الأجرة عن الحضانة”، دمشق، 1883.
- “إتحاف الذكي النبيه بجواب ما يقول الفقيه”، دمشق، 1883 .
- “إجابة الغوث ببيان حال النقب والنجباء والأبدال والأوتاد والغوث”.
- “أجوبة محققة عن أسئلة مفرقة”، دمشق، 1884.
- “أعلام الإعلام بأحكام الإقرار العام”، دمشق، 1883.
- “الأقوال الواضحة الجلية في مسألة نقض القسمة ومسألة الدرجة الجعلية”، دمشق، 1883.
- “بغية الناسك في أدعية المناسك”.
- “تحبير التحرير في إبطال القضاء بالفسخ بالغبن الفاحش بلا تقرير”، دمشق، 1883.
- “تحرير العبارة فيمن هو أولى بالإجارة”، دمشق، 1883.
- “تحرير النقول في نفقة الفروع والأصول”، 1883.
- “تنبيه ذوي الأفهام على أحكام التبليغ خلف الإمام”، 1883.
- “تنبيه ذوي الألهام على بطلان الحكم بنقض الدعوى بعد الإبراء العام”.
- “تنبيه الغافل الوسنان على أحكام هلال رمضان”، 1883.
- “تنبيه الوقود على مسائل النقود”، من رخص وغلاء وكساد وانقطاع، 1883.
- “تنبيه الولاة والحكام على أحكام شاتم خير الأنام أو أحد أصحابه الكرام”، 1883.
وطبعت رسائل ابن عابدين في مجموعة تشتمل على 32 رسالة في الآستانة سنة 1908 برعاية محمد هاشم الكتبي، كما طبعت الرسائل منفردة في دمشق.
وفاته
توفي العلامة ابن عابدين عام 1836 بدمشق، ودفن في مقبرة باب الصغير.