يتمثل هذا الدرس في معرفة حقيقة لم يكن الانقلابيون يتصورونها، كما أن بعضهم لم يلمسها بعد بحكم بعدهم عن الثقافة الاجتماعية والسياسية، وتتمثل هذه الحقيقة في أن الشيوعيين العرب أشرس كثيرا جدا من الإسلاميين؛ فالإسلاميون يتمتعون بسلامة النية وحسن الطوية وقلة التشكك في العسكر وسلوكهم، ولهذا يسهل على الانقلابيين العسكريين الغدر بهم في الخطط والنوايا والممارسة والقرار، أما الشيوعيون فإنهم يبنون قاعدتهم الفكرية على القاعدة القائلة إن الشك هو دلالة الوجود، وربما هو محور الوجود، ودستورهم في هذا قول ديكارت (1596-1650):
أنا أشك إذاً أنا موجود
وهكذا فإنهم يظهرون للعسكر أنهم صدقوهم بينما هم يأخذون الحذر منهم بخطوات باطنية ماكرة لا يعرفها العسكر، وذلك من قبيل وضعهم العسكر في الصورة وعدم الدفاع عنهم، وهم -أي الشيوعيين- لا يكلفون أنفسهم تهدئة الجماهير ولا تهدئة المخاوف من العسكر، وإنما هم على العكس يعملون على تأجيج هذه المخاوف ويزيدون الشكوك ويضاعفون الريبة من خلال أحاديثهم في القنوات غير الرسمية التي يحبذون الحديث من خلالها بالنميمة المحبوكة والتفسيرات الباطنية واستدعاء الماضي وتوظيف الإشاعات واللعب على الخلافات، كما أنهم يجيدون استغلال ما يقع فيه بعض العسكريين من حالات فقدان العقل التي تصاحب السكر في الحفلات شبه الدبلوماسية أو تصاحب اللذة في مجتمعات البحث عن اللذة التي لا يمانعون في أن يشاركوا في تمهيدها للعسكريين وأن يدفعوهم إليها.
وعلى وجه الإجمال، فإن الشيوعيين في حالة السودان يذكرون بكل انتباه أنهم هم وليس غيرهم من لعبوا أدوارًا ناجحة من قبيل نجاحهم الكامل في انقلاب 1971 بقيادة هاشم العطا (1936-1971)، ولم يمكن التغلب عليهم إلا من خلال ما يمكن وصفه بأنه تحالف دولي نفذ أهم خطواته الرئيس الليبي معمر القذافي (1942-2011) مع موافقة الرئيس السادات، وذلك من أجل تأييد الرئيس جعفر نميري (1930-2009) في الانتصار على انقلاب 1971 الذي أفشله العقيد القذافي شخصيا بعد نجاحه، وهكذا بقي انقلاب 1969 في السلطة متمسكا بالطابع التوافقي الذي عرف به بعد ذلك ، ولم يحدث فشل الشيوعيين إلا بسبب وقوف القذافي والمخابرات الغربية (وبضوء أخضر من السوفيات أنفسهم) في صف الرئيس جعفر النميري ضد هاشم العطا.
يحاول العسكريون الآن بكل وسيلة أن يتقربوا من الإسلاميين في الخرطوم وفي غيرها، وقد ينجحون إذا ساعدهم الغرب، لكنهم في الوقت نفسه سيفتحون على أنفسهم أبواب توازنات خطرة في ليبيا وتونس ومصر واليمن وإثيوبيا والصومال وإريتريا وتشاد ومالي؛ ذلك أن الغربيين جاهزون بملفات اتهام معتمدة سلفا ضد الإسلاميين في كل هذه المناطق، وهي ملفات لا تستهدف تحقيق التنمية ولا السلام، وإنما تستهدف تكرار التقسيم والزعزعة، من أجل خلق حالة من “البلقنة” على نحو ما هو معروف في بلاد البلقان، حتى إذا انخرط العسكر السودانيون في معارك الزعزعة التي ستفرض عليهم من دون أن يعرفوا من أين أتت رياحها فسيعيدون تجربة انقلاب إبراهيم عبود (1900-1983) حين أعلن عجزه عن الاستمرار على النحو الذي تصوره قادته في البداية والنهاية.
سيكتشف العسكر السودانيون أن عليهم الاعتراف بأن قائدهم عمر البشير كان قد وصل إلى أقصى نقاط المهارة في التوازنات الجيوسياسية قصيرة النظر، وأن واجبهم التكتيكي كان هو الوقوف بجانب عمر البشير وبجانب الشعب معًا ضد تلويحات الخارج، لكن النفوذ المتولد عن الدعم الخارجي اللاأخلاقي جعلهم ينتشون بما لم يكن مبررا للانتشاء، وجعلهم يلجؤون بسرعة إلى الشيوعيين ليمثلوا لهم واجهة تقدم ما يرضي الغرب من البعد المفتعل عن الإسلام في غلاف عسكري ضرب مصداقية العسكر السودانيين في مقتل، ولم ينقذهم من هذا المقتل ما يقدمه لهم شمال وادي النيل بإلحاح وتركيز من نصح باهت أو دعم إعلامي مكشوف؛ ذلك أن الشيوعيين قدموا للجماهير السودانية (من مسلمين ومسيحيين) خدمة العمر كله بأن كشفوا لهم أن العسكر السودانيين مع التطبيع أولا، ومع إرضاء الكيان الموجود على أرض عربية على حساب ثوابت الوطن ثانيا، وضد الإسلام والهوية والقومية العربية ثالثا.
ولو أن الإسلاميين بذلوا أقصى ما في وسعهم من الإعلام ومهاراته ما استطاعوا أن يثبتوا للسودانيين هذا الذي أثبته الشيوعيون في سرعة بالغة وبمهارة معهودة من اليسار في كشف أوراق العسكريين.
لكن المدهش في الموضوع كله أن العسكر السودانيين لم يستوعبوا حتى الآن ما فعله بهم الشيوعيون من كشف أوراقهم وتعبئة الرأي العام ضدهم في الداخل والخارج، وهم لا يزالون يؤملون أن يتكرر نجاح مثل نجاح النميري، وأن يتكرر حكم النميري والميري أو البشير والمشير، وهم من أجل الاستمرار في السلطة مستعدون للتنازل عن السودان كله باستثناء القصر الرئاسي في الخرطوم.