علمنا التاريخ أنه لا يمكن لنا أن نعرف من هو الفائز النهائي بالسلطة في الانقلابات العسكرية منذ بداية الانقلاب، وإنما تكشف عنه الأيام بعد صراعات مكتومة، وقد لا نعرف اسمه ولا رسمه إلا بعد شهور أو سنة أو سنتين، حينما ينتهي الصراع بين القادة إلى النتيجة الحتمية، وهي انتصار أحدهم فقط وخسارة الباقين كل شيء.
وعلمنا التاريخ كذلك أن الباقين سرعان ما يُصورون فاشلين وغير أكفاء وربما خونة، وذلك لسبب بسيط وهو أن المنتصر في لعبة الدم يجني مع السلطة صفات العظمة والكفاءة والوطنية والإخلاص، بينما يوصف الآخرون بما هو عكس ذلك.
وعلمنا التاريخ أيضا أن القدرة على التآمر هي المحدد الأول للفائز الذي يتغدى بالآخرين ثم يتعشى بمن حلوا محلهم من الآخرين التالين لهم، ثم يأتي المنافقون ليقولوا إنه هو الذي أنقذ البلاد والعباد وقضى على رؤوس الفساد والإفساد.
الخرطوم
ننتقل للحظة الراهنة في عالمنا العربي، وهي لحظة كوميدية بامتياز: فحتى هذه اللحظة، فإن انقلاب السودان لم يحدد من هو الذي سيفوز في لعبة الكراسي الموسيقية التي لا تزال تعزف أنغامها، هل هو البرهان الذي حاز لقب المشير كما أنه يحوز من البداية اسم عبد الفتاح بكل ما يوحي به، وهكذا فإنه يؤمن عن يقين بأنه حاز الشرفين، ونال الحسنيين؟ أم أنه الجنرال حميدتي الذي أنقذ الانقلاب وأنقذ رجاله المتمردين من عيوب وصعوبات شكليات “البيادة” الكفيلة بالفشل في العمل السري من وراء ستار، ولهذا فإنه قادر على الفوز في اللحظة المناسبة؟
أم أنه الجنرال “إكس” (X) الحقيقي الرابض خلف الخطوط الآن، والذي يترك الرجلين يخطئان فيحرقان أوراقهما ويجهدان أنفسهما، ويكتسبان الرفض من الخارج والداخل، ثم يأتي هو حين يكونان قد أجهدا تماما، فيبدو أنه غير مثقل بالماضي الحافل بالأخطاء، فيصبح وجها مقبولا، فيفوز بالرئاسة والسلطة والسمعة، ويقول المنافقون الجاهزون إنه هو الذي فجّر الثّورة بينما ركبها المشير البرهان، أو بينما ركبها حميدتي، تبعا لمن يكون مبعدا في ذلك الوقت تحت الحراسة الإجبارية في بيت في ضواحي الخرطوم! مثل ما حدث مع محمد نجيب الذي حبسه الرئيس جمال عبد الناصر في بيت المرج، وكتب المفكرون أنه ركب الثورة أو الانقلاب فأصبح -ويا للعار على من كتبوا- رئيسا للجمهورية في يونيو/حزيران 1953، وقبلها رئيسا للوزراء في سبتمبر/أيلول 1952، وقبلها قائدا للقوات المسلحة في يوليو/تموز 1952.
قرطاج
من المؤكد أن اللعبة تتم وفقا لهذه القواعد نفسها في تونس الخضراء، مع اختفاء “الجنرال إكس” تماما من الصورة، ذلك لأن الرئيس التونسي قيس سعيّد -بسذاجته المختلطة بالخباثة المكشوفة، وبنرجسيته المختلطة بالتقمص الضعيف- يقوم بدور محدد لم يكن هو من وضعه، وإنما هو دور تقليدي يريد العسكريون في البنتاغون أن يكون موجودا، ولا يريدون أن يؤدوه على هذا النحو المكشوف من خلال مندوبيهم أو من خلال العسكر الموالي لهم، بل إن الرئيس قيس سعيّد يقوم وحده وفي غيبة من العقل والتعقل والفهم، بالدور الجماعي الذي قام به الدكتور محمد مصطفى البرادعي وعمرو موسى وحمدين صباحي ويونس مخيون، وبقية الذين كانوا يحلمون بالسلطة.
ومع أن الرئيس قيس يؤدي الدور القديم والمحفوظ بطريقة غير مكتملة، فإنه يؤديه وهو يوصل رسالة -مع أنها تدينه من حيث لم يفهم- وهي: أن المدنيين لا يستحقون الديمقراطية، كما أنهم ليسوا أهلا للدكتاتورية. وكأنه يقول: أنا الذي أدعى قيس، لا أزيد عن نمر من ورق، لكنني في البداية والنهاية: أحتمي بالسلاح وأطيع المدرعة وأقدس الدبابة، ومن ثم فإن المحصلة النهائية لكل هذه “الأكروبات” التي أؤديها، هي أن يأتي “الجنرال إكس” فيستولي على كل شيء، وهو يعلن أنه مضطر لهذا هو والجيش، بعد أن تعطلت السياسة وأفلست الخزانة وكثرت المظاهرات وثبتت المؤامرات، بينما يعرف الناس جميعا بكل وضوح من المتآمر الحقيقي.