كان الصديق الكريم الدكتور قاسم عبده قاسم (1942-2021) من أبرز المؤرخين المشتغلين بالفكر والعمل الوطني على حد سواء، وكانت إسهاماته الهادئة في قضايا الوعي من أكثر الدلائل وضوحا على قدرة المؤرخ الأكاديمي على استشراف الصواب والوصول إليه، وقد كان حريصا على الوصول إلى القراء بفكرته، ومن ثم فقد كان مهتما بالأسلوب والصياغة كما كان مهتما بالنشر والإنتاج، وكانت له تجارب كثيرة ناجحة في الحياة والمجتمع والحياة الأكاديمية والعملية. وإني لأفتقد اليوم فيه الصديق الذي لم تشب صداقته شائبة، والمحاور الذي لم تفلت منه عائبة، والأستاذ الذي لم يتوان عن بناء معرفته لنفسه، والإنسان الذي لم يتنازل عن حقه في الحرية، والمستشار الذي لم يفش سرا، ولم يغتب زميلا، ولم يصنع غليلا، ولم يحقر منافسا.
كانت حياته قصة كفاح متميزة، ذلك لأنه لم يقدر له أن يبدأ حياته الأكاديمية من وظيفة المعيد، فقد كان نظام الستينيات العقيم كفيلا بتقليل فرص النابهين في كليات الآداب في مثل هذا الأمل المشروع، ومع هذا فإنه على مدى 8 أعوام فقط من تخرجه (1967-1975)، استطاع أن يتم دراستي الماجستير والدكتوراه، وأن يحصل بمجهوده الذاتي الفذ على درجة الدكتوراه في تاريخ العصور الوسطى بمرتبة الشرف الأولى عام 1975.
وخلال 8 أعوام أخرى فقط، وتبعا لنظام الترقيات الذي وضعه قانون تنظيم الجامعات الذي كان من مفاخر عهد السادات، وكان يفتح المجال أمام الجامعات الإقليمية لتكوين هيئاتها بعيدا عن العجز والندب والساعات الإضافية، فقد استطاع أن يحصل على الأستاذية ليكون أستاذا كامل الأستاذية بعد 8 أعوام فقط من حصوله على الدكتوراه، وبعد 16 عاما فقط من تخرجه بالليسانس، سابقا بهذا معظم أنداده في الجامعات القديمة.
وقد أتاح له الجو المتفتح والمشجع في جامعتنا، جامعة الزقازيق، أن يكون نجما بارزا متحررا من كل أثقال وثارات الحياة الأكاديمية في الجامعات القديمة. وقد ارتبط اسمه منذ 1975 وحتى وفاته بجامعة الزقازيق، وكان من الذين يحرصون على وجود كلمة الزقازيق واسم جامعة الزقازيق في كل صور التعريف بنفسه، ولذلك فإن أحدا لا ينسبه من باب الخطأ إلى جامعة القاهرة التي تخرج فيها، ولا إلى جامعة أخرى كانت له صلات قوية بها. ومما يرفع من قدر هذا الإنسان النبيل أنه كان على الدوام يذكر فترة كفاحه بالعمل ضابط مراقبة جوية، حتى استطاع الحصول على الدكتوراه في 1975.
كان الدكتور قاسم عبده قاسم مهموما بالعلاقة بين الأدب والتاريخ، وقد كان من الشجاعة بحيث اشترك مع صديقه النبيل الدكتور أحمد الهواري في التصدي لتأليف كتابهما “الرواية التاريخية في الأدب العربي الحديث”، على الرغم من الغواية الظاهرة في الموضوع، وعلى الرغم مما كانا يعرفانه ويقدرانه من اتساع ميدان الحديث في مثل هذا الموضوع وتفاوت المقاربات المتاحة في تحديد هذه العلاقة والبناء عليها وبخاصة مع طغيان الأيديولوجيات. وقد كنت أداعبه بالقول إن الأدب هو من يصنع التاريخ، وأداعب أستاذنا الدكتور أحمد الهواري بالقول إن التاريخ هو من يصنع الأدب، وكان كلاهما يتقبل مني هذه المداعبة، بل يتفضلان بالقول إنها من حقي وليست من حق غيري. وقد أصدر الدكتور قاسم عبده قاسم وحده كتابه “بين الأدب والتاريخ”.
لم يكن تخصص الدكتور قاسم عبده قاسم في تاريخ العصور الوسطى مانعا له من أن يدلي بدلوه في قضايا الصراع العربي الإسرائيلي، بل إنه وجد أن عليه واجبا مهما في زاوية جوهرية تتمثل في الرابط بين الموضوعين، ولهذا كان حريصا على تحقيق الروايات الإسرائيلية للحروب الصليبية، وأصدر كتابا مهما في هذا الموضوع.
وكان حريصا مع تقدم خبراته واطلاعه، على أن يعيد التفكير في المسلمات الحاكمة لصورة الحرب الصليبية. وأذكر أنه منذ 30 عاما أصدر كتابه الصريح “ماهية الحروب الصليبية” الذي نشرته سلسلة عالم المعرفة، وذلك بعد أن كان قد أصدر قبله بـ6 سنوات في 1984، كتابه “التاريخ الوسيط.. قصة حضارة البداية والنهاية”.
وبعد 10 سنوات من صدور كتابه عن ماهية الحروب الصليبية، عاد في 2001 ليتأمل هذه الحروب من خلال كتابه الذي سماه “الحملة الصليبية الأولى.. نصوص ووثائق”. وبعد ما يقرب من 10 سنوات أخرى، قام بترجمة كتاب تاريخ أكسفورد عن تلك الحروب، ولما بدأت سلسلة الكتاب المسموع كان هو الذي تولى تسجيل كتابه المسموع عن الحروب الصليبية، وكتابه المسموع عن تاريخ مصر من الفتح الإسلامي حتى الحروب الصليبية، في الوقت الذي سجلت فيه كتابي المسموع عن الرئيس السادات وعصره.
أما اهتمامه الثالث بالفن أو المنهج في كتابة التاريخ وبفن كتابة التاريخ، فقد عاش معه على مدى سنوات طويلة، وقد بدأ الكتابة في هذين الموضوعين بتوجس محسوب، فأصدر في 1986 كتابه الذي أشرنا إليه “بين الأدب والتاريخ”و ثم أصدر كتابه “بين التاريخ والفلكلور” في 1993. وفي 2001، كان أكثر جسارة حين أصدر كتابه الماتع “فكرة التاريخ عند المسلمين.. قراءة في التراث التاريخي العربي”، وقد قبل أن يترجم كتاب “ما التاريخ الآن؟” للمجلس الأعلى للثقافة. وبعدها قدم للمكتبة العربية كتابيه الأكثر إحاطة: “قراءة التاريخ” و”إعادة قراءة التاريخ”، كما قبل مرة أخرى أن يترجم كتابه “نظرات جديدة على الكتابة التاريخية” الذي صدر عن المركز القومي للترجمة، بعد استقلاله عن المجلس الأعلى للثقافة، وصدرت ترجمته لكتاب تناقضات المؤرخين عن المركز نفسه. وكنت أداعبه بالقول إنه يريد أن يتقمص دور أستاذ المؤرخين، فيرد المداعبة بذكاء ويقول إنه لم يصادف أستاذا في الطب يمنعه من هذا .
لكن الأهم من هذه الميادين الثلاثة تمثل في اهتمام الدكتور قاسم عبده قاسم الأكثر حضورا في ترجماته ومؤلفاته بالتاريخ الاجتماعي، معبرا عن رؤيته الاجتماعية بوضوح. وقد كان رحمه الله يتلمس كل ما يدل على مظاهر تاريخ المجتمع أو يشي به من النصوص المتاحة في كتابات المؤرخين عن تلك الفترة، وكان يعود للتاريخ الاجتماعي من آن لآخر ولو على سبيل الترجمة، كما فعل في ترجمة كتاب “الدين والعلم والتعليم في العصر العباسي”، ومن قبل في كتابه “التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للدولة العثمانية”، و”الفقر والإحسان في عصر سلاطين المماليك”.
وعلى سبيل الإجمال، فقد كان الدكتور قاسم عبده قاسم نجما من نجوم المجتمع التاريخي بآرائه وأفكاره وتوجهاته، وإجادته للتعبير عن الانحياز المبرر للهوية وللمجتمع وللقيم الجميلة. وكان في مقارباته للقضايا الوطنية قادراً على إحقاق الحق دون مجاملة، وكان لاذعاً في سخريته من الباطل والمبطلين والمزورين، لكنه كان يغفر لمن يتجاوزون عن عدم معرفة ويتسامح مع من يقصرون عن عدم مقدرة. وكان حريصا بقدر ظروفه على أن يكون في صف الحق، وقد مارس الأعمال المتصلة بالإنتاج والنشر فكان كالعهد به متواضعا أمينا مهذبا حريصا على صورته، وعلى القيم، وكان في تطلعاته نموذجا للرضا عن قناعة، والقناعة عن رضا، والتحرر من قيود التبعية التي لا مبرر لها، والبحث عن المتنفس بدلا من لعن الظلام.
وقد ربطته بالكويت وأساتذة جامعتها التي عمل أستاذاً فيها لبعض الوقت، درجات قصوى من الاحترام المتبادل، فكان كما يقال في التعبير التراثي وكأنه بقية من السلف المتميز الذين أسسوا جامعة الكويت في الستينيات.