كان المستشار محمد سعيد العشماوي واحدا من رجال القضاء الذين وصلوا إلى أعلى مراتب السلك القضائي وعرفوا بالقدرة على الكتابة في القضايا العامة والاتصال بالمفكرين والكتاب والصحافة والتاريخ، وكان واحدا من الذين تأذت مشاعرهم الوطنية بما كان يراه من تزييف الأستاذ هيكل للتاريخ وتلاعبه بالحقائق الثابتة، وقد بذل جهده مرات عديدة في تصحيح عناصر الصورة التي قدمت للمصريين بما يخالف المنطق والواقع.
كتب المستشار محمد سعيد العشماوي أكثر من مرة (وصلت سبع مرات على حد علمنا) في موضوع تأميم القناة مبرهنا بأدلة قانونية ساطعة إلى ما يدفعه الي الحكم بنفي صفة التأميم عن قرار الرئيس جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس. وسننقل للقارئ دفوع المستشار العشماوي فيما يتعلق بالتأميم، كما ننقل ما يرتبط بها من استطراداته فيما يتعلق بالآثار التي ترتبت على القانون، ونستعرض أيضا تعقيباته على ما يتصل بهذا الموضوع في أحاديث هيكل في قناة الجزيرة 2008.
الرئيس لم يقدر عواقب قراره بسبب حسن نيته
يذهب المستشار العشماوي الى ان الرئيس عبد الناصر كان حسن النية وغير مقدر للعواقب التي تترتب على قراره: ” ….. في تصوري أن الرئيس جمال عبد الناصر كان حسن النية فيما يفعل، لكن المثل يجرى على أن الطريق إلى جهنم مرصوف بالنوايا الطيبة، وفى خلاف حدث عام 1961 بين الرئيس المصري وأمين الحزب الشيوعي للاتحاد السوفيتي نيكيتا خروتشوف وكانا حليفين، قال عن الرئيس المصري: إنه شاب مندفع وقليل الخبرة، وهو ما يلقى الضوء، من خبير وصديق، على الأسلوب الذي اتـّبع في تأميم شركة قناة السويس قبل قوله هذا بست سنوات.”
ويستعرض المستشار العشماوي دفوعه فيقول: “من 10 سنوات، حرصْت على أن أذكر في ست مرات، أن القرار الصادر من رئيس جمهورية مصر بتاريخ 26 يوليو 1952 بتأميم شركة قناة السويس، لم يؤد إلى تأميمها قانونيا وفعلياً، وإنما انتهى إلى مجرد الاستيلاء على مباني شركة قناة السويس، وعلى المجرى الملاحي للقناة”. وكان [أول] أسبابي فيما أن قرار التأميم المذكور تضمن بندا بتعويض المساهمين في شركة قناة السويس من البريطانيين، وكانت حصصهم تبلغ 44٪ من الأسهم. وقد رأى باقي المساهمين، وأكثرهم من الفرنسيين، أن في هذا القرار مصادرة قانونية (de jure) لأموالهم، كما رأى المساهمون من البريطانيين، في القرار، مصادرة واقعية (de facto) لأموالهم، ذلك لأنهم لم يعتقدوا أبداً أن أنظمة الحكم المصري سوف يدفع لهم فعلا ما نص عليه قرار التأميم من تعويض.
” ….. وقد ترتب على ما سمي تأميماً أن أضطر نظام الحكم إلى قبول أمرين كلاهما مرّ، ذلك أنه بعد العدوان الثلاثي قبـِل القرار الصادر من مجلس الأمن في 8/11/1956 بوضع قوات دولية للطوارئ، على أرض مصر وعلى حسابها، حتى ينتهي النزاع بينها وبين إسرائيل”
” ….. كما قبل نظام الحكم إعطاء حق مرور السفن الإسرائيلية في مضايق “تيران” وخليج العقبة، وهو ما كان نظام الحكم يعرف خطورته فأخفاه عن الشعب المصري والشعب العربي تماماً، لأن العلم به كان يقلب ادعاء النصر على عقبيه، ويظهر حقيقة الهزيمة”.
لخص المستشار العشماوي وجهة نظره وما يترتب عليها فقال: ” ….. ذكرتُ موجزاً لذلك ست مرات، ولم أكن أقصد تشهيراً أو تشنيعاً، وإنما كنت أهدف إلى تشكيل لجنة محايدة تتقصى الحقائق، وتطلـّع على كل الوثائق، ثم تعلن نتيجتها إلى الشعب المصري والشعب العربي، ليكون على بينة من حقيقة ما حدث فيما يقال إنه تأميم لشركة قناة السويس، وما أعقب ذلك من أحداث وقعت نتيجة لهذا القرار”.
تفنيده لروايات هيكل عن 1956 وضجره من اكاذيبه
ننتقل إلى فقرات عديدة من النص البديع الذي كتبه المستشار محمد سعيد العشماوي ونشره في 2008 حيث تحدث بكل وضوح عن ضجره الشديد من أكاذيب الأستاذ هيكل مذكرا القارئ بأن الاكذوبة لا تصحح ، وان الاستثمار في الكذب يقود إلى إعادة استثماره ؛ ومتعجبا بحاسته المعرفية من أن يكون هذا هو حال الأمة ؛ ومع أنه لا يظهر أية عناية بتشخيص المرض فإنه يجيد وصف ظواهره المرضية الواضحة وهو في هذه المفارقة أقرب ما يكون إلى أستاذ الطب الإكلينيكي حين يوجه تلاميذه إلى ما كان من الواجب عليهم أن يكتشفوه من أعراض المريض وعلاماته من دون أن يشغل باله في حلقة الدرس الاكلينيكي بتسجيل التشخيص أو كتابة العلاج وانما هو معني في المقام الاول والاخير بالفحص الاكلينيكي وحده وما يمكن لدارس الطب ولممارس الطب أن يصل اليه بالسماع والنظر والفحص والتقليب والمناظرة.
الأخطاء التي لا يمكن الدفاع عنها
يبدأ المستشار العشماوي في تعداد هذه الأخطاء فيقول: “….. إضافة إلى هذا الأسلوب الذي يجعل الحديث لغوا بغير طائل، فإن المتحدث وقع في أخطاء كثيرة، يقصر المجال عن بيانها كلها وتتبعها جميعاً، ومن ثم نتخير منها ما يلي:
- “فهو يقول إن التأميم لم يكن بالبساطة التي جاءت في أغنية عبد الحليم حافظ “قلنا حانبنى وأدى إحنا بنينا السد العالي” لكنه يعرف تماماً أن نظام الحكم الذي كان يشارك فيه أو يشير عليه هو الذي صورّ التأميم على النحو الذي ورد في تلك الأغنية، وأن إذاعاته الرسمية كان تذيع هذه الأغنية صباح مساء كل يوم، حتى وقـَر في أذهان الشعب أن التأميم كان فعلاً بالبساطة التي وردت في الأغنية.
- “فماذا فعل هو وقد كان إلى جوار أنظمة الحكم، شريكا أو مشيراً؟
- “ولماذا لم يقل ما قاله عن التأميم والأغنية من قبل، أو ينبه إلى ضرورة فكّ الارتباط بين ما حدث في الواقع وما صوّرته الأغنية؟
- ” إن نظام الحكم أراد، ولمدد طويلة استمرت حتى أغلق مضايق تيران، إقناع الشعب بمفهوم ومضمون الأغنية؛ وهذه جناية السياسة على الفن، وجناية الفن على الحقيقة.
العشماوي يتعجب من العوامل الحاكمة لنفسية هيكل
يستعرض المستشار العشماوي ما رواه هيكل عن سيناريو معرفة البريطانيين بالقرار متعجبا من الصفات النفسية الحاكمة لسلوكه في حديثه: ” ويقول إن إيدن رئيس وزراء بريطانيا تلقى نبأ التأميم وهو يجلس إلى مائدة عشاء في مقر الرياسة (10 داوننج ستريت) مع ملك العراق السابق وصحبه، ثم يضيف دون ضرورة أو لزوم: إنه (أي المتحدث) يعرف هذه القاعة (أي قاعة الطعام) وأنه تناول فيها الطعام عشرات المرات. وقاعة الطعام في مبنى رياسة مجلس وزراء بريطانيا مخصصة للمناسبات الرسمية وليست مفتوحة للجمهور يتناول فيها الطعام من يشاء، وتناول المتحدث الطعام فيها عشرات المرات أمر مُبالغ فيه، فضلا عن أنه لا يتصل بموضوع التأميم. يضاف إلى ذلك أنه لا يُزيد المتحدث شيئاً أن يتناول الطعام في القاعة المخصصة لذلك بمبنى رياسة وزراء بريطانيا مرة أو مرتين أو عشرات المرات كما ذكر؛ كما لا ينقصه شيء ألا يعرف هذه القاعة إطلاقا ولم يتناول فيها الطعام قط” .
تجاوزه في حق زوجة رئيس الوزراء البريطاني
ينتقد المستشار العشماوي سلوك هيكل في الحديث المتجاوز (للأخلاق) عن حرم رئيس الوزراء البريطاني: “….. وهو يعرّض بزوج (زوجة) إيدن، إذ يقول إنه تزوجها لأنها ابنة أخ تشرشل، رغم ما كان يدور حولها من إشاعات، ثم يضيف (لا داعي لذكرها). وهو أسلوب لا يليق أن يصدر من متحدث جاد محترم، خاصة وأنه لا يتصل بالسياق ولا يرتبط بالموضوع، بحيث كان يختلف وجه النظر فيه لو لم يُلـّمح إلى هذه الإشاعات”.
استخفافه بالجوانب القانونية في الموضوع
ينتقد المستشار العشماوي سلوك هيكل في الحديث باستخفاف عن الجوانب القانونية في موضوع التأميم: ” وهو يقول (إحنا ما أخدناش بالنا من اتفاقية القسطنطينية) دون أن يعترف أن الاطلاع على كل أوراق الملف الخاص بشركة قناة السويس كان ضرورة لابد منها قبل اتخاذ أي قرار. وهذا الملف موجود بالضرورة في وزارة الخارجية المصرية. فضلا عن أن أيا من القانونيين، ومنهم الدكتور حلمي بهجت بدوي، الذي ذكر اسمه وظهرت على الشاشة صورته، كان يعرف ذلك ولا شك (وهذه الاتفاقية منشورة الآن على كل مواقع البحث الإلكتروني)، وكان يلزم للمتحدث أن يكون على علم بها يوم كان صحفيا في دار أخبار اليوم حين صدر قرار الأمم المتحدة رقم 9 بتاريخ 1/9/ 1951، وهو يُلزم مصر فتح المرور في قناة السويس أمام السفن الإسرائيلية بناء على اتفاقية القسطنطينية الموقعة من السلطة العثمانية التي كانت تحتل مصر بتاريخ 2/3/1888″.
انتقاده لحديثه عن اللجان بتعميم وبلا توقيت
ويتعجب المستشار العشماوي من طريقة هيكل في الحديث بتعميم عن اللجان التي كانت تنعقد لمعالجة الموضوع: ” … يقول إن لجانا قانونية وإدارية كانت تنعقد في وقت واحد، دون أن يذكر تواريخ اجتماع هذه اللجان ليعرف المستمع والمشاهد إن كان ذلك قد حدث قبل قرار التأميم أم بعده؟ وذكر التواريخ مهمّ جداً في التوثيق والتحقيق والتدقيق. كما أنه يقول إن بعض أعضاء مجلس قيادة الانقلاب (الذي سمي بالحركة المباركة ثم سمي ثورة الجيش، ولم يُذكر تعبير ثورة الشعب إلا في مقدمة دستور 1956) قد اعترض على هذا القرار، دون أن يذكر أسماء المعترضين وبماذا اعترضوا، وهل كانت اعتراضاتهم قبل اتخاذ القرار أم كان ذلك عصر يوم 26 يوليو 1956.
تناقض ما ذكره عن علاقة التأميم بتمويل السد العالي
يكشف المستشار العشماوي التناقض فيما ذكره هيكل عن علاقة التأميم بتمويل السد العالي مشيرا الى اضطراب ما رواه ويرويه هيكل في هذه الجزئية: ” ….. يقول إن وزير العدل والدكتور الشرباصي [يقصد: المهندس أحمد عبده الشرباصي وزير الأشغال] كانا يفضلان ألا يكون التأميم مرتبطا بسحب تمويل إنشاء السد العالي، فمتى حدث ذلك منهما، مع أن الرئيس المصري كان قد ذكره في خطاب التأميم؟ وإذا كان المتحدث قد كتب عن ذلك، فهو لم يذكر متى كتب وبأي مناسبة كانت الكتابة؟ وهو لم ينتبه إلى أن ذلك كان يتعارض مع الخطاب الذي ألقاه الرئيس المصري وأعلن فيه قرار التأميم؟ أليس في هذا صورة واضحة عن التضارب الذي اكتنف مسألة التأميم بحيث يُسقط صدقية (مصداقية) كل قول عنه وأي حديث فيه؟”
تعليقنا على إقحام الرئيس لموضوع تمويل السد في التأميم
من الجدير بالذكر أن ننبه إلى ما منّ الله به علينا من فهم دوافع الرئيس عبد الناصر إلى إقحام موضوع تأميم السد في تأميم القناة مع افتقاد أي علاقة قانونية أو سياسية لهذا الربط، على نحو ما قال الوزيران البارزان والمستشار العشماوي، وهو أنه كان يغازل المعسكر الشرقي ويظهر للاتحاد السوفييتي استعداده التام لإعلان عدائه لأمريكا إذا ما ضمن موقفا سوفيتيا منحازاً بشدة اليه، وهو ما لم يحدث الا في ظروف مختلفة بعد 1967.