تحولت مصر من دولة لا تعاني من أية ديون بل وتملك ديونا بالإسترليني على بريطانيا نفسها إلى دولة في مرحلة الإفلاس على نحو ما صرح بهذا النظام نفسه في مجلس الامة في 18 يوليو 1965، فلما انفردت جريدة الجمهورية بحسن نية بنشر هذا الخبر صودرت وأحرق أعدادها المطبوعة ، وعزل رئيس تحريرها من منصبه للأبد ، ولم يحدث هذا الإفلاس بالطبع بين يوم وليلة ولكنه حدث بالتراكم و انتقلت الموازنات بالتدريج من الفائض الضخم إلى الفائض المعقول إلى الفائض البسيط ثم إلى العجز وكانت النتيجة أن الرئيس عبد الناصر لجأ إلى الاستدانة و الديون.
ومن الحق أن نقول ان ظروف مصر الاقتصادية كانت مساعدة للرئيس عبد الناصر في طموحاته إلى حد كبير وكذلك فقد كانت الظروف الدولية في عصر الحرب الباردة مساعدة له في مغامراته، لكن سوء التصرف في الاقتصاد والإدارة بدد قيمة وعائد كل رصيد متاح، وكل مساعدة ممكنة ، و في ظل الحرب الباردة كان المعسكران الغربي والشرقي يتسابقان على تقديم المعونات والقروض على حد سواء على نحو ما يتضح من قراءة الأرقام التي ذكرها الدكتور علي الجريتلي في كتابه “التاريخ الاقتصادي لمصر”:
- القروض الأمريكية كانت تسدد بالعملة المحلية على 30 عاماً وبفائدة 4% فقط
- القروض السوفييتية كانت تقدم بسعر فائدة لا يتجاوز 2.5 %
ومن الحق أيضا أن نقول إنه لولا الحرب الباردة ما قدمت هذه المعونات ولا القروض وهو ما اثبتته الأيام بعد ذلك حين بدأت سياسة الولايات المتحدة الامريكية تميل إلى الانحياز السافر ضده من قبل نهاية الحرب الباردة.
نموذج يلخص لعناصر الثروة المبددة
كان الأستاذ محمد شوكت التوني المحامي وعضو مجلس النواب السعدي يلخص في مقالاته هذه العناصر بأسلوب صحفي و بطريقة إجمالية تكاد تقترب من الحقيقة فيقول إنها كانت تشمل:
- 450 مليون جنيه دينا لمصر علي بريطانيا (حصيلة النقد المصري الذي كانت تنفقه القوات المسلحة للحلفاء في مصر بضمان الخزانتين البريطانية والأمريكية).
- 350 مليون جنيه دينا علي الولايات المتحدة (هذه الأرقام مستمدة من تقارير البنك الأهلي 1949، 1950، 1951).
- 850 مليون جنيه نقد أجنبي.
- 1600 ودائع البنوك والشركات وشركات التأمين، التي أممت كلها (هذه الأرقام مستمدة من تقارير البنك الأهلي 1949، 1950، 1951).
- الغطاء الذهبي الذي كان يحفظ للجنيه المصري قيمته ومكانته في العالم حتي سنة 1956!.
الاضطرار غير المعلن الى الاستدانة شبه السرية
من العجيب أن هناك نصا مخيفاً ومخفياً كتبه صاحبه وقال فيه إن ديون الرئيس عبد الناصر لم تكن أقل خطورة من ديون الخديو إسماعيل، ومع هذا فإن أحداً حتى الآن لن يستطيع أن يتصور هذه الحقيقة التي أثبتها الباحث الاقتصادي هانسن ونقلها عنه بعض الناصريين واليساريين على استحياء.
لقد نقل الدكتور جلال امين من كتاب خالد اكرام الصادر عن البنك الدولي في 1980 هذه العبارة التي لخص بها هانسن تقييمه لديون عبد الناصر و قال فيها إن مصر بدأت منذ 1964/1965 تلجأ إلى الاقتراض قصير الأمد بأسعار فائدة كان من شأنها أن تصيب الخديو إسماعيل نفسه بالدهشة!!.
بدايات التبديد المعلن
بدأ الرئيس عبد الناصر يبدَّد الثروة في سداد استحقاقات حقيقية و عاجلة لا تقبل التأجيل و لا الجدولة لأنها كانت مترتبة بطريقة مباشرة وفورية على سياساته و قراراته [الجبارة ] او متوافقة مع طموحه وصورته البطولية أو ممهدة لما يرنو إليه من المجد .
تعويضات حملة أسهم قناة السويس
وهي تعويضات التزم بها النظام الناصري [بموجب قرار التأميم نفسه ] تجاه حملة أسهم قناة السويس الذين اممت اسهمهم ، وعلى سبيل الإجمال فقد بلغت تعويضات مساهمي شركة قناة السويس 37.5 مليون جنيه إسترليني بالإضافة الى التنازل عن كل الأصول والأموال المملوكة للشركة في خارج مصر .
تعويضات الفرنسيين والبريطانيين
وهي تعويضات التزم بها النظام الناصري تجاه الفرنسيين والبريطانيين اللذين أممت الحكومة الناصرية ممتلكاتهم بعد تأميم قناة السويس ، وقد جاء هذا التأميم الانفعالي ليكون من قبيل التأميم المصاحب للتأميم ، وعلى سبيل الإجمال فقد بلغت تعويضات البريطانيين الذين أممت ممتلكاتهم 25 مليون جنيه إسترليني.
تعويضات الطليان واليونان
وهي تعويضات التزم بها النظام الناصري تجاه الطليان واليونان الذين عوملوا معاملة البريطانيين والفرنسيين في التأميم على نحو تلقائي أو روتيني أو انفعالي.
تعويضات السودان
اقتضى مشروع السد العالي إغراق مساحات كبيرة من الأراضي في مصر والسودان، وعلى حين لاتزال مشكلة النوبة من المشكلات الملحة و المتجددة في مصر فإن مصر التزمت بدفع تعويضات الجزء السوداني من النوبة ، وعلى سبيل الإجمال فقد بلغت تعويضات السودان بسبب السد العالي15 مليون جنيه إسترليني.
الإنفاق على صورة الزعيم في سوريا
وبعيدا عن القوانين الدولية الملزمة بالتعويض عن التأميم فإن مما لا يختلف اثنان فيه أن إنفاق الرئيس عبد الناصر على صورته في سوريا فقد فاق قدرة الموازنة على التحمل.
الإنفاق على صورة الزعيم في اليمن : مليون جنيه يوميا
كذلك فإن إنفاق الرئيس عبد الناصر على تورطه المتجدد في اليمن فاق كل ما هو ممكن من خيال ، حتى إنه هو نفسه و القيادات القريبة منه كانوا يصرحون بكل وضوح أن تكلفة و جودنا في اليمن تصل إلى مليون جنيه مع كل صباح .
بدايات الاقتراض في عهد الناصري
بدا الشروع في توقيع اتفاقات القروض من دون استخدام فعلي أو فوري لهذه القروض في العام المالي 1958/ 1959 :
- قرض من الاتحاد السوفييتي لتمويل مجمع الحديد والصلب بحلوان قيمته 170 مليون دولار.
- قرض مع الاتحاد السوفييتي لبناء السد العالي97 قيمته مليون دولار
- اتفاق تعاون مع المانيا الغربية قيمته 124مليون دولار.
المعونات التي تلقاها النظام الناصري
طبقا لكتاب الدكتور علي الجريتلي الذي لم ينشر إلا بعد لأي و في عام 1974، فإن المعونات التي تلقاها نظام الرئيس جمال عبد الناصر تشمل :
- 750 مليون دولار هي قيمة المساعدات الغذائية المقدمة من الولايات المتحدة الأمريكية.
- 1250 مليون دولار هي قيمة المساعدات من الاتحاد السوفييتي والكتل الشرقية وبعض الدول الغربية
كان قطع المعونة الأمريكية هو السبب الرئيسي في نظر أستاذ اقتصاد بارز هو د. جلال امين لاتجاه مصر منذ 1964 إلى الاقتراض بسعر الفائدة الباهظ ، ومن المذهل أن نقرأ بالتفصيل ما يتضمنه جوهر دفاع جلال امين مع تحفظ مبدئي بأن المعونة لم تقطع عمليا الا في فبراير 1967 و لم تبدأ خطوات قطعها الا في 1965.