اغتياله فتح عين للعالم العربي
حين اغتيل العالم المصري الدكتور يحيي المشد في الرابع عشر من شهر يونيو 1980 قبل ثلاث سنوات، فتح العالم العربي أو كان يجب أن يفتح عينيه على عدد من الحقائق المهمة.
أولاها: هو مدى الأمن الذي تكفله الأنظمة العربية للعلماء العاملين في المجالات الحيوية والاستراتيجية، وقد أثبت حادث الاغتيال بصورة واضحة أن إجراءات الأمن هذه لا تبلغ عشر معشار ما تبذل الأنظمة العربية في حماية رجال السياسة والحكم، وقد تقوم الإدارات العربية بتوفير سبل الراحة والرفاهية لهؤلاء العلماء، وهو أمر مشكور، لكن الأخطر منه أن تهيئ لهم، بل للأنظمة نفسها بهذه الإجراءات، سبل الأمن الحيوي بحماية العقول.
ثانيتها: هي أهمية العنصر البشري في التقدم العلمي، وليس من سبيل التكرار القول بأن الأهم من الكمبيوتر هو العقل الذي يوجهه، والأخطر من القنبلة النووية هو العقل الذي وراءها، ولعلنا ننتبه إلي مغزى تعليق المخابرات الغربية بعد الحادث حين قال رئيسها: إن اغتيال العالم المصري سوف يؤدي إلي تأخير البرنامج النووي العراقي لمدة عامين علي الأقل، فقد كان الدكتور المشد واحدا من العلماء العرب القلائل المتمكنين في العلوم النووية إلي الحد الذي يمكنه من توجيه مثل هذا البرنامج القومي والإشراف عليه.
ومثل هذه الكفاءات العلمية العالية لا يتاح لوطنها أن تظفر بها إلا بعد إعداد علمي وعمل طويل في الداخل والخارج.
نشأته العلمية ومناصبه
تخرج الدكتور يحيي أمين المشد في قسم الكهرباء بكلية هندسة الإسكندرية سنة 1952، وابتعثته الدولة إلي الاتحاد السوفييتي لدراسة هندسة المفاعلات النووية عام 1956 مع بداية التعاون مع الكتلة الشرقية، وعاد الدكتور المشد مؤهلا للعمل في هذا المجال الحيوي والاستراتيجي، فأسند إليه القيام ببعض الأعباء والبحوث في قسم المفاعلات النووية بهيئة الطاقة النووية في بلده مصر، وعاد الدكتور المشد إلي الخارج مرة أخرى حيث قضي عاما كاملا في النرويج (1963 ـ 1964)، عاد بعده لينضم إلي أسرة هيئة التدريس في كليته التي تخرج فيها، حيث عمل أستاذا مساعدا، فأستاذا بكلية هندسة الإسكندرية، وفي هذه الفترة أشرف الدكتور المشد علي ثلاثين رسالة علمية للدكتوراة، ونشر باسمه خمسين بحثا علميا تركزت معظمها علي تصميم المفاعلات النووية، ومجال التحكم في المعاملات النووية، واستخدام الحسابات الإلكترونية في تصميم المفاعلات النووية.
المؤتمرات العالمية
شارك الدكتور المشد في كثير من المؤتمرات العالمية في مجال تخصصة، وفي أوائل السبعينيات سافر الدكتور المشد إلى العراق لحضور مؤتمر العلوم النووية الأول، وهناك وجد أن الحكومة العراقية لديها المعلومات الكاملة عنه وعن أبحاثه، وأنها ترغب في التعاقد معه للمساعدة في البرنامج النووي القومي للعراق.
المشروع النووي العراقي
كانت العراق قد بدأت تجني ثمار ارتفاع أسعار البترول، وعلى الرغم من الاحتياطي البترولي الضخم الذي ثبت وجوده في أرض العراق، فإنها كنت تسعي إلى توليد الكهرباء من الطاقة النووية كمصدر متجدد للطاقة، ووافق الدكتور المشد على العمل مع حكومة العراق، ووافقت جامعته المصرية على إعارته لكلية التكنولوجيا ببغداد حيث كان يقضي بعض وقته في البحوث والتدريب، ويقضي الشطر الأكبر في الإشراف على مشروع العراق النووي.
كانت الجهات الحكومية العراقية في البداية تعرض أوراق وتقارير المشروع على الدكتور المشد للاستفادة برأيه في اتخاذ قراراتها بشأن المشروع، ولكن كفاية الدكتور المشد وإخلاصه دفعت بالحكومة العراقية إلى أن تترك له مهمة الاتصال بالجانب الفرنسي رأسا والاتفاق باسم العراق على كل الخطوات الفنية في المشروع الاستراتيجي الكبير.
ولهذا كان الدكتور المشد في عامه الأخير كثير السفر إلى باريس لإنهاء مأموريات تتعلق بالجوانب التكنولوجية في المشروع أولا بأول.
شعوره القومي القوي جعله يُضحى بمنصبه الجامعي
انقضت أربع سنوات علي الدكتور المشد وهو يعمل في العراق، وكإجراء إداري في الجامعات المصرية طلب إليه أن يعود وإلا فستضطر الجامعة لإنهاء خدمته، لكن تحمس الدكتور المشد للمشروع ولإدخال مثله لأول مرة في دولة عربية، جعله يضحي بمنصبه الجامعي في مصر ويقبل إنهاء خدمته ليستمر في الإشراف على المشروع.
وصدر قرار إنهاء خدمته في أول سبتمبر 1979، وهذا يجرنا إلي الحقيقة الثالثة في هذا الصدد، وهي تلك التي تتعلق بمسألة الانتماء القومي، فلولا شعور الدكتور المشد بأهمية الدور الذي يقوم به للقطر الشقيق لكانت خسارة العراق للعالم الكبير قد حدثت قبل اغتياله بزمن طويل بابتعاده (علي أية صورة من الصور) في وسط الطريق وتخليه عن مهمته القومية، ولكن الشعور القومي القوي هو الذي دفع الدكتور المشد إلي أن يبقي هو وأسرته في العراق، هذا الإخلاص القومي لن يتأتى للعراق ولا لغيرها من دولنا العربية من غير العرب، وحتي فيما بين هؤلاء العرب فإننا ما لم نكف عن الصراعات البغيضة التي يفتح الجيل الجديد أعينهم عليها فسوف نفاجأ بجيل لا يقدر هذه النزعة مثل هذا التقدير الذي كانت تحظي به في عقلية الدكتور المشد ووجدانه.
المشروع العراقي النووي والمخابرات الغربية
حاولت العراق أن تستورد الخبرة أو المفاعلات الغربية، لم تنجح في تعاملاتها إلا مع الجانب الفرنسي الذي كان في حاجة إلى البترول، وتم الاتفاق على تزويد العراق بمفاعلين فرنسيين من نوع «أوزورويس» و«إيزيس» سميا في العراق «تموز 1» و«تموز 2»، وتبلغ طاقة المفاعل الأول 70 ميجاوات، على حين يخصص الثاني لأغراض التدريس والبحث العلمي.
وكانت أعين المخابرات الغربية بالمرصاد للمشروع النووي، هاجمت أكثر من منزل من منازل الفرنسيين العاملين في المشروع على أرض فرنسا، ثم استطاعت في السادس من أبريل 1979 أن تنسف المفاعل العراقي في ميناء فرنسي بطريقة فنية تنم عن أن عددا من الفنيين قد يكونون من الفرنسيين اليهود قد شاركوا في التخطيط للعملية إذ تم نسف أغلف المفاعل بما يضمن تدميره من دون إحداث إصابات تؤذي المحطة الفرنسية، وتثير نوعا من الرعب والقلق ذي المغزى الاجتماعي.
كان هدف المخابرات الغربية واضحا، إنها لابد من أن تدمر البرنامج النووي العراقي بأي وسيلة، وقبل الحادث بأسابيع قليلة أعلن رئيس المخابرات االغربية أن العراق سوف يكون قادرا على امتلاك سلاح نووي قبل نهاية العام (يقصد 1980)، ولابد لإسرائيل أن تحول دون ذلك، فهل كان هذا من قبيل المصادفة؟
اغتياله
ثم كان حادث اغتيال الدكتور المشد، وقد عجز البوليس الفرنسي بعد بحث طويل عن الوصول إلى الجاني الحقيقي، ومع هذا فإنه لم يخف أن يعلن أن الدافع السياسي هو العامل المرجح الأول وراء هذه العملية.
وقد حاول الجناة يومها أن يصوروا أن في الأمر قضية سرقة فبعثروا أثاث الحجرة التي كان يقيم فيها العالم الكبير في فندق الميريديان بباريس، فلما فتش البوليس الجثة وجد المال كما هو.
ثم ادعت إحدى النزيلات في الدور نفسه أنها سمعت صوت صراخ حريمي في ذلك المساء، وذلك لتحويل التفكير في القضية إلي الجانب العاطفي، لكن ثبت بعد ذلك من التحقيق مع تلك الفتاة التي حاولت إغراء الدكتور المشد في تلك الليلة أنه لم يستجب لإغرائها، وأغلق الباب خلفه، وبينما بقيت هي تنتظر نزيلا آخر لإغرائه سمعت صوت الضربة التي أنزلها القاتل على رأس الدكتور المشد ووجدته يفر هاربا، وأغرب ما في الموضوع أن هذه الفتاة لم تمض عليها مدة طويلة حتى فوجئ بها البوليس قتيلة صرعتها عربة مسرعة كانت تتعقبها خرجت من أحد النوادي الليلية.
أنظمة المخابرات العربية ضعيفة
وربما يقودنا هذا إلى الحقيقة الرابعة من حقائق هذا المقال، وهي: هل يا تري تتمتع مخابرات أي نظام من أنظمتنا العربية في باريس بمثل هذه الحرية في الحركة التي تمكن من الاغتيال، ثم من اغتيال الشهود بمثل هذا الجو من الغموض والحبكة الجيدة؟
*
والسؤال الأعمق من هذا: هل تفكر مخابرات الأنظمة العربية في مثل هذا الاتجاه الاستراتيجي من القضاء على الرءوس المدبرة في المشاريع الحيوية والاستراتيجية الكبري? أم أن كل همها متجه إلى تصفية الخصوم والمعارضين السياسيين؟
والطريف في هذه النقطة بالذات أن كتابا صدر بعد هذا الحادث لاثنين من الصحفيين المعروفين بعلاقتهم بالمخابرات الغربية هما فايستمان وكروزتي حاولا فيه باصطناع الطريقة العلمية مناقشة الفروض التي قد تكون وراء الجاني في هذه القضية، فقالا في معرض نفي التهمة عن المخابرات الإسرائيلية: «إن الأسلوب الذي تم به الاغتيال، وهو تحطيم الرأس، أسلوب متخلف لا يلجأ إليه الإسرائيليون»، هكذا بالنص، كأن الإسرائيليين المتحضرين لا يتخلصون من أعدائهم إلا على طريقة صابرا والشاتيلا (!!)
مَنْ يحمي العلماء أمثال الدكتور المشد؟
والحقيقة الأخيرة في هذا الموضوع هي أنه يجب علينا أن نفكر في مثل هذه الأمور على النحو التالي:
إذا كانت استراتيجية الأعداء تركز علي أن وجود أساتذة وعلماء من نوعية يحيي المشد في برنامج مثل البرنامج النووي العراقي يجعل العراق قادرا علي امتلاك إمكان إنتاج الأسلحة النووية بالرغم من التأكيدات التي حصلت عليها كل من الوكالة الدولية للطاقة النووية، والشركات الفرنسية المشاركة، والولايات المتحدة الأمريكية نفسها، إلا أن سياستنا على الجانب الآخر يجب أن تركز بصفة أساسية على أن يكون هناك أكثر من صف من علمائنا في مثل هذه المجالات، وأن يكون في كل صف من هذه الصفوف العدد الكافي والكفء لمثل هذه المسئوليات الخطيرة.
وصحيح أن هناك اليوم حوالي مائتي عالم مصري في هذا المجال يعملون في مصر، وفي البلاد العربية، وفي الولايات المتحدة والدول الغربية، وحتى في البرازيل، لكن مَنْ يضمن للجيل القادم منهم الأمان؟ الأمان على حياته، خصوصا أن يحيي المشد لم يكن أول مصري يتعرض لمثل هذا، لكن سبقته الدكتورة سميرة موسي في أمريكا سنة 1952 في حادث سيارة، والدكتور نبيل البلقيني في تشيكوسلوفاكيا عام 1975 حين استدعي بتليفون فخرج ولم يعد حتى الآن.
مَنْ يحمي العلماء من أعداء الأنظمة التي يعملون بها ومن بعض هذه الأنظمة نفسها التي قد لا تجازي مثل هؤلاء إلا بجزاء سنمار?!
من كتاب يرحمهم الله ، الطبعة الأولى ، دار الأطباء ، 1985