كان الأستاذ فهمي عبد اللطيف رحمه الله من أول مَنْ شرفت بمعرفتهم من أهل الصحافة، فكان ذلك من حظي، إذ انطبعت في ذهني عن الصحافة تلك الصورة التي يمثلها الرجل بين أهل الصحافة، طيبة القلب ودقة العبارة، وحلاوة الروح، وخفة الظل، وتواضع العظمة، وقدرة القلم، وبشاشة اللقاء، ومتعة الحديث، وكرم الأريحية، ونقاء الفطرة.
معتز بـ شرقاويته معتز بأزهريته
لم يكن من الصعب علىّ ساعتئذ، ولا أظنه من الصعب على الذين يقرأون للأستاذ فهمي عبد اللطيف أن يدركوا أن الرجل أزهري، معتز بأزهريته، وبما اكتسب فيها من علم، وأن الرجل فلاح، معتز بقريته، وبما اكتسب فيها من قيم، وأن الرجل إنسان معتز بإنسانيته، وبما اكتسب فيها من تجارب، وأن الرجل شرقاوي معتز بشرقاويته، وما فيها من كرم.
كانت كل هذه السمات ظاهرة واضحة في كتاباته لا تخفي ولا يخفيها حتي لو ظن المبتدئ أنه كان أحري به أن يصوغ ما كتب بغير ما صاغ، أو أن يؤثر موضوعا لم يكتب فيه علي ما كتب بالفعل، أو أن يتخذ وجها من الوجوه يتفق مع المكانة التي بلغها بين أهل الصحافة بحكم كفاءته وخبرته الطويلة، وهي المكانة التي يبلغها الواحد من أنداده فيتخذ لها من القناعات والاقتناعات غير ما اتخذ من قبل، لكن الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف كان في الواقع مثالا حيا لأولئك الذين عبر عنهم أحد النقاد الفرنسيين ذائعي الصيت بقوله: «أن تكون أنت نفسك.. هو الطريق الوحيد لأن تحرك المشاعر».
رجل يُحب ما يعمل
ثم كنت أقرأ له، بعدما عرفته، كما كنت أقرأ له قبلها، فما أظن أنه قد اعتراني لحظة من اللحظات، الظن بأن الرجل يكتب شيئا لا يحب هو أن يكتب، مع أن هذا قد يبدو غريبا في الحكم على رجل كان عليه أن يكتب كل يوم كلمة صحيفة الأخبار، أي الكلمة الرسمية، ولكني أؤكد لكم أيها السادة أن الرجل كان في ذلك الأداء يمثل النوع الآخر، النوع النادر بيننا اليوم، من الذين يفهمون السعادة على أنها أن تحب ما تعمل، لا أن تعمل ما تحب فحسب.
باحث عن الحقيقة
لم يكن الإنسان فهمي عبد اللطيف كأغلب أهل الصحافة تتناولهم الأغراض قبل أن يستميلهم الجوهر، ولكنه كان من الباحثين عن الحقائق في تأن وعلى مهل، ومن الكاتبين عن الحقائق مهما تكن الظروف، كان له قلم، وكان مداد هذا القلم سيالا، ولكنه لم يكن يسيل لما يسيل له اللعاب، كان نقيا، ولكنه مع هذا لم يكن يحبس نفسه عن معترك الحياة، ولهذا لم تكن الحياة تحبس عنه بعض مباهجها ومفارحها.
مُحب للغة
أما حبه للعربية فقد كان يأخذ عليه مجامع نفسه، لم يكن يطيق الخطأ فيها، ولا اللحن بها، وكان إذا سمع اللحن اهتز من تأذيه له، وإذا قرأ عجب للناس كيف تفوتهم هذه الأخطاء، فلما شاع الخطأ كان ينتظر الأمل في الصفوة، فكان إذا رأى الخطأ يقع فيه واحد من أهل الصفوة، قال حتى فلان يخطئ!
*
وكان يعرض للأخطاء الشائعة في التعبير، وفي الأسلوب، وفي النحو، وفي الصرف من حين لآخر، فكنت تجد الأصالة في تأصيله، وتحس من أسلوبه أنك تقرأ الحواشي المحترمة، مع أنك في الصفحة الثانية عشرة من أخبار الأربعاء التي يقرؤها مئات الألوف، وكان يلاقي فيما يبدي من آراء كثيرا من عنت الذين يزعجهم أن ينصرف الناس عن الخطأ الشائع حتي ولو كان الصواب سهلا، وكان يلاقي أيضا ذلك النوع من الاستغراب بيديه أصحاب النفوس التي تعتبر كل تدقيق أو اهتمام بالدقائق تضييعا للوقت، وكان يلاقي مع هذا وذاك ذلك الضرب من الاستنكاف الذي بيديه أولئك الذين آثروا الاسترخاء الذي يدعوهم إليه اليأس، وكان يلاقي مع كل هذا نوعا من التقدير أقرب إلي العطف علي القوي، وهو ما كان يبديه أصدقاؤه الذين يدركون أنه واقع بين هاتيك الطوائف الثلاث، وكان محمد فهمي عبد اللطيف رحمه الله في كل تلك الأحوال سعيدا، راضيا، شرح الصدر والنفس والفؤاد، قرير العين والبال والجوارح، مؤمن أن عليه أن يؤدي واجبه، وأنه ليس عليه إدراك النجاح.
حظي بتقدير العقاد
كان الأستاذ العقاد قيمة كبري عند الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف، ويبدو أن الأستاذ فهمي كان يحظى كثيرا بتقدير من العقاد، ولا أظن أن تولي الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف كتاب يوميات الأخبار في يوم الأربعاء الذي كان الأستاذ العقاد يكتب فيه كان من قبيل الصدفة، وكان محمد فهمي عبد اللطيف رحمه الله مرجعا في سيرة العقاد، وكان على خلاف غيره من أعلام كانوا يحظون بنصيب من الأضواء يفوق نصيبه، يحظي بقدر أكبر من الثقة في أحكامه التي يصدرها في شأن العقاد، وإني لأذكر ذات صباح كنت عنده فيه، ولم أكن قد قرأت بعد مقاله، إلا عنوانه الذي كان يقول ظلموا العملاق، أو شيئا قريبا من هذا، وكان المسلسل التليفزيوني «العملاق» يومها قد انتهي لتوه، أو أوشك علي الانتهاء، فإذا ذلك الهاتف الذي في مكتبه، والذي إلي جوار مكتبه لا ينقطعان عن الرنين يحملان التهنئة والتقدير والشكر الجزيل علي ما كتب الأستاذ في حق الأستاذ، وهل لي أن أذكر أن ذلك لم يقف يومها عند أحاديث التليفون، وإنما جاءته قبل حضوري المبكر هدية قيمة جدا من إحدى الشخصيات المعروفة بحبها للعقاد!!
وبالإضافة إلى هذا فإني لا أجد حرجا أن أنقل عن أهل الأخبار ما رووا فيما كتبوا عن الفقيد من أن الأستاذ الكبير مصطفي أمين كان في بعض الأحيان يشير بأن ينظر الأستاذ فهمي من دون الناس جميعا في مقاله قبل نشره.
قلم لا يعرف الصدأ
كان محمد فهمي عبد اللطيف في أول حياته وفي آخرها يكتب كثيرا في التعريف بالكتب الجديدة، وفي التعليق على الأحداث الأدبية، وتحليلها، وكانت هذه الأمور كثيرا ما تستغرق وقته، كما لو كان له مجال غيرها، ولكن فهمي عبد اللطيف لم يكن أبدا كاتب المناسبات، حتى ولو أكد لك كل الناس أنه كان يكتب يوميات الأخبار كل يوم، وإنما كان قلم فهمي عبد اللطيف من تلك الأقلام (الماضية) التي لا يعتريها الصدأ، حتى لو اعتراها اليأس، لا تفقد حدتها حتى وإن كان الجو من الدواعي إلي التكيف مع تقلبات حرارته.
حجة في الأدب الشعبي
كان محمد فهمي عبد اللطيف حجة في الأدب الشعبي، والفن الشعبي، ولعل هذا الجانب من شخصيته هو الذي كان يدفع البعض إلى عدم الإيمان بأزهريته، مع أنه ليس في الأمرين تعارض، وكانت كتاباته في هذا المجال خير دليل علي صحة القول القائل بأن آلة واحدة من آلات عصر المعلومات قد تقوم مقام عشرة أفراد، ولكن مئات الآلات لا تقوم في قدرتها على الاستحضار من الذهن مقام نابه واحد كالأستاذ فهمي عبد اللطيف!
ألا إن أياما لنا كانت فيها السمعة تعود أكثر ما تعود إلى كثرة ما يسمع الناس من ضجيج، هو في أغلبه أجوف، قد ولت أو قد أوشكت، ألا وإن موازين التقدير لأهل القدر قد بدأت معاييرها تكتسب من الدقة والتمحيص والاختيار ما يجعل لها من احترام المقاييس الثابتة القدر الذي يهيئ لشباب الأجيال القادمة أن تري المثل العليا، والقمم السامقة، والكفاءة النادرة، والهمم المخلصة في جلاء ووضوح، وعندئذ سوف نكسب الكثير.
من كتاب يرحمهم الله ، الطبعة الأولى ، دار الأطباء ، 1985