فقد المجتمع القضائي والمجتمع الإسلامي بوفاة المستشار محمد بدر المنياوي عَلماً من أعلام الفقه والقانون، عاش حياته العملية والعلمية علي نحو متفرد لم يتهيأ إلا للندرة من رجال القضاء في مصر في العصر الحديث وذلك باجتماع وتفاعل مدرستي التشريع والقضاء – في القضاء الوطني والقضاء الشرعي – في تكوينه وعلمه وعمله.
كان رحمه الله نموذجاً للقاضي العادل، العامل بما تعلم، المترفع عن الحياة الدنيا، الساعي إلي إعلاء قيم الخير بجانب قيم العدل، ثم تحول بعد تقاعده إلي صورة متميزة من رجال المؤسسات القادرين علي المشاركة الفاعلة في عمل الفريق، وعلي الدفع بعمل الجماعات الصغيرة إلي آفاق متميزة من الإنجاز المجتمعي المحكوم بضوابط كفيلة بالاستمرارية والمثالية والصواب، وبالإضافة إلي هذا وذاك فقد ظل بمثابة مَعين لا ينضب للرأي الفقهي المتميز .
كان شيخا في علمه ودقة فقهه، وكان نموذجاً للمشايخ الأزهريين الكبار الذين لم يعملوا في الأزهر، ولم يرتدوا زي الشيوخ، وإنما عملوا بتفوق وامتياز في الحياة المدنية ونالوا من مناصبها ما أهلتهم لها كفاءتهم وحدها.
كان حكيما دقيقا في تفكيره، وكان إسلامي التوجه في عصر عزّ فيه أن يكون الإنسان إسلامي التوجه بصفة عامة.
نشأ رحمه الله – في بيت من بيوت العلم بالدين والشرع الحنيف، كان والده الشيخ يوسف المنياوي أستاذاً للفقه المالكي في كلية الشريعة، وكان جده لوالدته هو الشيخ محمد عبد اللطيف الفحام وكيل الأزهر الشريف في عهد الشيخ المراغي.
**
تلقي تعليمه علي نحو ما يتلقي المدنيون تعليمهم، وتشربت نفسه بعلوم الفقه والقرآن علي نحو ما تتشرب هذه العلوم أفئدة الصالحين من ذرية العلماء، وتفاعلت في نفسه قدراته ورغبات المجتمع من حوله، فآثر وهو في سن الحداثة أن يجمع هذا إلي ذاك حتي لو كلفه ذلك من نفسه جهدًا رهيبا ينوء به أمثاله، ولكنه آثر المجد المضاعف، وهكذا سحب من رصيد وقت لعبه وراحته ليضيف إلي رصيد وقت علمه وعمله، فدرس في كليتي الشريعة والحقوق بطريقة متوازية وحصل علي الشهادتين معًا، وكأنه رجلان لا رجل واحد، بيد أن محصلة الشهادتين لم تكن مجرد المحصلة الرياضية للاجتماع أو الإضافة، ولكنها كانت أكثر من هذا بكثير بحكم ما أتيح لصاحبها من تأمل في تفاعل الآراء وتوليدها لكثير من الأفكار البناءة التي لا تتولد إلا مع التفاعل الذكي، ولا تتولد إلا في العقليات الذكية من مثل عقليته الباهرة.
وكعـادة رجال القضاء المصري المتميزين فإن المستشار محمد بدر المنياوي آثر لنشاطه مجال الحياة القضائية المترفعة عن الدنيا وعن أمجاد الشهرة والضجيج، وهكذا عاش حياته حتي وصل إلي قمة المناصب في النيابة العامة دون أن يثير حول نفسه هالات المجد التي كان يستحقها، أو يستدعي هالات التقدير التي كان لابد أن تتوجه إليه، وقد عمل نائبا عامًا فأعـطي لهـذا المنـصب طابـعه المثـالي من التـجرد والارتـقاء وأضاف فيه كثيراً إلي أمجاد أسلافه من رجال القانون العظماء، وكان بسلوكه نموذجا لعباد الله الذين يمشـون علي الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما. وقد نجح في أدائه لوظيفة النائب العام نجاحًا بارزًا دون جلبة أو ضجيج، وللذين يريدون أن يقارنوا نجاحه فيه أن يقارنوه بأسلافه أو خلفائه وسيجدونه متميزًا لا يقل عنهم إن لم يفضل كثيرًا منهم.
**
والحق أن المسـتشـار محـمد بدر المنياوي كان بحكم ثقافـته وخبـراته قـادرًا علي أن يشـترك بفعالية في إحياء عصر الاجتهاد علي نحو علمي مدروس يسـتوفي للأمة الإسـلامية ما هي بحـاجة إلـيه من موقـف إيجـابي من الـتراث الفقهـي العـريق وإحيـاء روحه لتـلبـي حاجات العصر المتزايدة إلي البحث عن رأي الـدين وهـي حاجات مشروعة.. والحق أنه أدي دوره هذا علي أفضـل ما يكـون مـن خـلال عضـويته في مـؤسـسات التـشـريع المدني والتشريع الإسـلامي علي حد سواء، وكانت مسـاهمـته في هـذا المـيدان واعـدة ومبشـرة بالخير.
وقد شارك طيلة حياته القضائية بالعديد من البحوث القضائية والإسلامية في كثير من معاهد الفكر والبحوث والدراسات؛ ولعل أبرز هذه البحوث بحثه عن شرعية عوائد شهادات استثمار البنك الأهلي المصري المجموعة (ب).
لم يبخل المستشار المنياوي بآرائه وجهوده ومشاركاته علي المستوي القومي في قضايا التنمية والتربية، وكان علي الدوام من رواد اجتماعات المجالس القومية المتخصصة واللجان المعنية بكل القضايا العامة في مصر.
وامتد نشاطه إلي الجامعات والمعاهد العلمية فشارك بالتدريس والمحاضرة، كما شارك بصفة متكررة في مجالس الكليات والجامعات، وكان فضله حاضرا بصوته الهاديء ورأيه الرزين. كما شارك في الإشراف علي بعض رسائل الدكتوراه وفي مناقشة البعض الآخر.
وقد امتدت إسهاماته العلمية إلي المعهد القومي للدراسات القضائية، وإلي أكاديمية الشرطة في معهد القاهرة ومعهد الضباط المتخصصيين.
**
كذلك شـارك – رحمه الله – في أنشـطة الجمـعيـة الخـيرية الإسـلامية وترأس لجنتها القانونية وبذل جهودًا رائعة لا تصدر إلا عن أمثاله في تطوير وظيفة الوقف وإحياء سنة الوقف وتقاليده، وهو جهد لم يكن ليصدر إلا عن رجال من طرازه ومن طراز صديقه الفاضل المستشار الدكتور محمد شوقي الفنجري رئيس مجلس إدارة الجمعية، وقد شهدت الجمعية بفضلهما وفضل زملائهما الأفاضل مرحلة بارزة من مراحل الإحياء والبعث بعد الضربات المتلاحقة التي وجهـت إلي مبدأ الوقـف الإسـلامي وفكرته النبيلة علي مدي عدة عقود من الزمان.
**
وقد كان – رحمه الله – عضوا منتخبا في مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، كما اختير عضوا في المجلس الأعلي للأزهر، وكان عضوا بمجمع الفقه الإسلامي (التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي) وعضوًا برابطة الجامعات الإسلامية، وعضوا بالمجلس الإسلامي للدعوة والإغاثة.
وفي مصـر كان عضوًا في لجان المجلس الأعلي للشئون الإسلامية، وأكاديمـيـة البحـث العلـمي والتكـنـولوجيـا، والمركـز القـومي للبحـوث الاجتماعية والجنائية، ومركز الشيخ صالح كامل للاقتصاد الإسـلامي بجـامعة الأزهـر، كما كان عضوًا في جمعية حقوق الإنسـان وجمـعية مسـتـشاري محاكم الاستئناف.
**
بالإضافة إلي كل هـذا أسـهم المستشـار المنيـاوي بالكتابة الموسوعية المتميزة، كما أسهم في عدد من الأعمال العلمية والأكاديمية ذات المستوي المتميز .
وأصـدق ما يقال في وصف سلوكه القضائي أنه كان تقيا في هدوء ورضا، كان قليل الكلام كثير العمل وكان قليل الإفتاء، ولكنه كان عميق الدراسة، وعلي المستوي الإنساني فقد كانت أخوَّته صادقة، وكانت إنسانيته رائعة ظاهرة وباطنة.
وقـد ظـل طـيـلـة حيـاتـه نمـوذجـا لـرقـي السـلوك والفـكر والأداء مع روح حـانـية مقـدرة، وفؤاد عامر بتـقـوي الله، وحـب الوطـن، وتعشـق تقاليد القضـاء، والفـقـه.
**
وعلي نحو ما اجتمع فيه تراث المدرستين الوطنيتين في القضاء بالقانون المدني والشريعة الحنيفة؛ فقد اجتمعت علي تقديره أفئدة رجال القانون ورجال الأزهر، بل أفئدة كل مَنْ عرفوه، وكان في رأيي صورة للاتزان النفسي النادر فقد كان حاضر البديهة في غير ادعاء، وكان حاضر النكتة في غير تبذل، وكان حاضر الفهم في غير تشنج، وكان حاضر العطاء في غير مَنٍّ، وسيظل اسمه حاضرًا علي الدوام في غير تكلف.
**
وإذا كـان لابد أن نلخـص حياته في سـطور فإنـنا نقول: ولد المسـتشـار محمد بدر المنياوي في السابع عشر من يناير سنة واحد وثلاثين (1931) وتخرج في كليتي الشريعة في جامعة الأزهر والحقوق في جامعة القاهرة في نفس العام (1953) وحصل علي درجة الماجسـتير في القانون كما حصل علي دبلوم في الشريعة الإسلامية. وقد انتظم في العمـل بالنيـابة العامة منذ مارس 1954 وحتي أصبح نائبا عامًا في يوليو 1990 وحتي تقاعد في أكتوبر 1991 وفي أثناء هذا تـدرج في وظائف النيابة العامة المختلـفة حـتي نال درجة النـائب العـام المسـاعد في 1984، وعمل من خلال هذه الدرجة مسئولاً عن التفـتيش القضـائي (أكتوبر 1984) ونائبًا عامًا مساعدًا لدائرة محكمة استئناف الإسماعيلية (نوفمـبر 1988). كما نـال درجة نائب رئيس محكمة النقض في يونيو 1984.
وقد تُوِفيَ، عليه رحمة الله، في الثلاثين من أبريل سنة ألفين وثلاث (2003).
من كتاب “كيف أصبحوا عظماء”، مؤلفات الدكتور محمد الجوادي، الطبعة ٢ الهئة المصرية العامة للكتاب 2008