سيدي الرئيس
سيدي النائب
سيدي الأمين
الأساتذة الأعضاء
السادة الضيوف
أبدأ حديثي هذا بأن ألخص شمائل هذا الرجل العظيم في كلمات قليلة فأقول: إنه كان رجلا تمتع بالخلق النبيل والطبع الهادئ والصوت الخفيض والحياء الإيجابي والسمت الجميل والوجه المضيء.
ولست أجد في تصوير شخصيته خيرًا من أبيات ثلاثة قالها سلفنا العظيم الشاعر علي الجارم في رثاء الشاعر الكبير إسماعيل صبري:
**
أساتذتي الأجلاء
لست أبالغ إذا قلت إني عشت أكثر من ربع قرن أحلم بأن أكون إلي جوار هذا الأستاذ العظيم في محفل من المحافل التي تقودنا إليها اهتماماتنا المتشابهة.. وشاء العليّ القدير أن ننال واحدا بعد الآخر، شرف الانتساب إلي هذا المجمع العظيم كما شاء جلَّ في علاه ألا تطول متعتي بجواره إلا شهورا معدودة.
كان الدكتور عماد فضلي واحدًا من الذين يؤثرون أن يكونوا من جيل المؤسسين المجيدين علي أن يكونوا من جيل اللاحقين المبهرين، وقد استشعر في نفسه هذه القدرة منذ مرحلة مبكرة، فاتخذ قراره الشجاع بالتحول من الدراسة في كلية الطب الأم في قصر العيني إلي كلية الطب الناشئة في جامعة عين شمس، ولم يكن مثل هذا القرار بالقرار السهل علي شاب في مقتبل حياته يري مجد المدرسة الطبية الأولي مكتملا بينما العقبات التي تواجه الكلية الناشئة تتوالي، لكنه في الوقت ذاته رأي أن من غير المنطقي أن يكون بيته مواجها للكلية الجديدة بينما هو بفضل المجموع المتفوق طالب في الكلية القديمة، وقد استشعر بحس الانتماء للمكان أن للموقع حقا عليه، وجاء هذا الاستشعار ليؤكد شعوره الأعمق بالرغبة في الانتماء إلي أجيال التأسيس.. وكانت النتيجة السريعة أن أصبح واحدًا من مجموعة انتقاها القدر لم يزد عددها علي عشرين ولكنها أصبحت بمثابة المحركات الدائرة ثم الأعمدة الثابتة التي قامت عليها مدرسة الطب الإكلينيكي في طب عين شمس.. وقد اشتهرت هذه المدرسة بميلها إلي التخصص حتي إنه لم يكن في جيل عماد فضلي أستاذ في الطب الباطني إلا وهو متخصص تمامًا في فرع من فروع هذا العلم، بينما كانت الكليات الأخري لا تزال تحفل بأساتذة للباطنة لا يحبذون فكرة التخصص ولا يأخذون بها ولا يَدَعون لها فرصة كي تسيطر علي توجهاتهم أو شهرتهم.
وكان الشائع أن يؤخذ علي مدرسة عين شمس بعض الميل إلي الإفراط في روح التخصص، ولكن عماد فضلي وسط هذا الخضم كله كان من قلة نادرة آمنت وآثرت ألا يتم هذا التخصص إلا علي مستوي ما نسميه، في الاقتصاد، بالمستهلك النهائي فحسب.. وهكذا ظل عماد فضلي طيلة حياته الأكاديمية يحارب بكل قوته من أجل بقاء تخصصي الأمراض النفسية، والعصبية في قسم واحد مع انفراد كل منهما بوحدته الخاصة علي مستوي أسرة المرضي والعيادات الخارجية.. وهكذا احتفظت طب عين شمس بالتخصصين في قسم واحد حتي الآن علي الرغم من أن معظم كليات الطب المصرية قد فصلت بين التخصصين في قسمين مختلفين، وكان عماد فضلي يكرر أن الجهاز الذي يؤدي هاتين الوظيفتين الحيويتين جهاز واحد، ولهذا فإن من التعسف أن نفصل بين التخصصين أو نؤهل اختصاصيا أو استشاريا أو أستاذًا بالعلم في أحد التخصصين من دون أن نؤهله بالعلم والتدريب في التخصص الآخر..
وفي مقابل النجاح في فرض هذا المفهوم فإن عماد فضلي والآخذين بمذهبه صادفوا عزوفًا عن الأخذ بأفكارهم علي مستوي آخر هو مستوي تأهيل جَرَّاحي الأعصاب، وقد كان فقيدنا من الحريصين علي تأهيل جراحي الأعصاب بدراسة عليا علي مستوي الدبلوم مثلا في الأمراض العصبية والنفسية، وأخذت مدرسة طب عين شمس بهذا الاتجاه حقبة من الزمن، لكن عجلة الحياة المصرية المنتصرة لفكرة الجزر المنعزلة سرعان ما فرضت أو شجعت العدول عن هذا التوجه.. ولم يكن عماد فضلي آسفًا لهذا فحسب ولكنه كان أسيفًا عليه، وظل كذلك حتي تُوفي.
**
أساتذتي الأجلاء:
ظهر تفوق الدكتور عماد فضلي مبكرًا حيث كان أول الشهادة التوجيهة عام 1947 في شعبة العلوم. ومن الجدير بالذكر أن أول دفعة شعبة الأدبي رياضة في هذا العام كان الدكتور عاطف صدقي، وقد تخرج فقيدنا في كلية الطب عام أربعة وخمسين وعمل طبيبًا مقيمًا فمعيدًا، وكان من أول مَنْ نالوا درجة دبلوم الأمراض العصبية والنفسية من جامعة عين شمس. وفيما بعد هذا عاش حياة أكاديمية متصلة توجها بأن ترأَّسَ قسم الأمراض العصبية والنفسية في الكلية التي تخرج فيها وقضي فيها كل حياته الأكاديمية. وقد ترأس الجمعية المصرية للأمراض العصبية والنفسية وجراحة الأعصاب، كما ترأس الاتحاد العربي للأمراض العصبية، والمجمع المصري للثقافة العلمية في إحدي دوراته.
أسهم الدكتور عماد فضلي طيلة حياته الجامعية في أنشطة الطلاب وأنشطة الدراسات العليا والمؤتمرات العلمية علي حد سواء وكان من أبرز أعضاء الهيئات التي تولت تنظيم الموتمر الطبي السنوي لكلية طب عين شمس، وقد ترأس المؤتمر الخامس من هذه المؤتمرات، وشارك في الإشراف علي النشاط الفني والثقافي في كليته، واشترك في إنشاء قسمين مستحدثين من أقسام تلك الكلية هما قسما التخاطب والمسنين، وأسهم في تأسيس قسم الأمراض العصبية والنفسية بجامعة الأزهر. وامتد نشاطه العلمي والأكاديمي إلي جامعات القاهرة، والأزهر،والمنصورة، والزقازيق وأسيوط. وكان عضوًا في مجلس كلية الطب بجامعة قناة السويس بعدما شارك في اللجنة التي تولت تأسيس هذه الكلية.
أساتذتي الأجلاء:
قضي الدكتور عماد فضلي النصف الثاني أو النصف المثمر من حياته مشغولاً بقضيتين كبيرتين تصورهما وصورهما متلازمتين، وقد أحرز في كل منهما نجاحا ملحوظًا وإن ظل بطبع المجدين ونزوع المجيدين طموحًا إلي تحقيق نجاح أكبر…
أما القضية الأولي فهي تعديل مناهج الدراسة في كلية الطب، وقد كان عماد فضلي واحدًا من الذين جاهدوا حتي تم الأخذ بمبدأ إلحاق خريجي المدارس الثانوية بكليات الطب مباشرة وإلغـاء تأهلهم في كـلية العلوم بسـنة إعـدادية، ومع أني أعتقـد أن الأخذ بهذا المبدأ كان بمثابة جناية علي التعليم الطبي فإني لا أستطيع أن أنكر أن فقيدنا كان يُعول علي هذه الخطوة كثيرًا من الآمال في تحقيـق تطلعاته المتعلقة بقضية أخري لا تقـل أهمية وهي توسيع أو تطويل الفرصة الزمنية المتاحة لدراسة مقررات طب المجتمع في أكبر عدد ممكن من سنوات الدراسة، وقد كان الدكتور عماد فضلي في هذا الإطار من أشد المتحمسين لتجربة كلية طب قناة السويس في التركيز علي دراسة طب المجتمع والإكثـار مـن مقرراته، وصبغ المناهج والمقررات بكل ما هو ممكن من الصبغات المجتمعية. ومع أن الأوان لا يزال مبكرًا لتقييم مدي نجاح هذه التجربة فإن تاريخ التعليم الطبي سيذكر لعماد فضلي ولمجموعة من زملائه علي رأسهم أسـتاذنا الدكتور محمد صادق صبور الجهود الدائبة والمخلصة في هذا الصدد .
**
كانت القضية الكبري الثانية التي عُني بها عماد فضلي هي إعداد أساتذة الجامعة ويمكن القول بأنه كان واحدًا من أكثر مَنْ يعود إليهم الفضل في تطوير فكرة إعداد المدرس الجامعي، من خلال مجموعة من المحاضرات واللقاءات شارك فيها مع صفوة ممتازة من أساتذة الجامعة الذين آمنوا بقيمة فكرة الأستاذية في حد ذاتها، وبمسئولية هذه الفكرة بصرف النظر عن التخصص، وقد أدرك عماد فضلي منذ مرحلة مبكرة أن الفكرة في حاجة إلي أن تُقدم وتبلور وتتمثل وتتجسد من خلال أشخاص مؤمنين بها وعاملين من أجلها، وهكذا فإنه وهب كثيرًا من الساعات الذهبية في حياته لتقديم خبراته إلي الأجيال التالية من شباب هيئات التدريس من خلال برامج إعداد المدرس الجامعي في جامعة عين شمس، وكان كالعهد به ملتزمًا، ومنظمًا ومنظرًا. وقد ترك من خلال أدائه الفذ في هذا البرنامج بصمات رائعة يفخر بها جيل كامل من أساتذة الجامعة، ويذكر أفراد هذا الجيل في الكليات المختلفة له فضله وفكره وخلقه، بل ويتطلع معظمهم إلي أن يكون نظيرًا له في نشدان الإخلاص والتعالي والشموخ.
أساتذتي الأجلاء:
كان عماد فضلي من الأطباء القادرين علي الاستحواذ علي ثقة مرضاهم، وأظن حضراتكم تدركون أن الجانب الآخر لهذا الخلق يمثل خطرًا علي موارد الطبيب لأنه يتبلور تلقائيًا في استحواذ هؤلاء تدريجيًا وبسرعة علي وقته، وهو ما حدث في حالة فقيدنا العظيم، حتي لقد أصبح في مرحلة مبكرة بالنسبة لأقرانه غير قادر علي أن يستقبل مرضي جددًا أو أن يخرج عن إطار ما يمكن لنا أن نسميه بالالتزام المؤبد بمرضاه. وليس من شك أن «محبس» الطبيب قد حال بين عماد فضلي وبين مواصلة كثير من المجد الذي كان قد حقق خطوات واسعة فيه في مطلع حياته.. لكن المجتمعات العلمية عوضته عن مواصلة الذيوع والشيوع بالارتقاء به إلي المواضع التي تغني العلماء عن كل شهرة، وقد كانت قمة التتويج لجهوده أن انتخب عضوًا في مجمع اللغة العربية عام تسعة وتسعين، وشِيءَ له أن يشغل كرسي سلفه الدكتور أبي شادي الروبي وأن يعمل إلي جوار الدكتور حسن علي إبراهيم، وكان عماد فضلي أول مَنْ وصل إلي عضوية المجمع من خريجي مدرسة طب عين شمس، وإن سبقه من الأطباء أول مديري هذه الجامعة الدكتور محمد كامل حسين، وأبرز عمدائها الدكتور أحمد عمار.
وحين أتيح لعماد فضلي أن يعبر عن نفسه في حفل استقباله عضوًا في مجمعنا فإنه أخذ يتلمس في تاريخ نفسه ما أهله لهذا المجد، وهكذا أخذ بقلب الطفل الكبير يستعرض من هذا التاريخ الطارف والتليد، والظاهر والعميق، والنادر والغريب. والحق أن ممارسته للتعليم، وامتهانه للطب، واهتمامه بالموسيقي، وشغفه بالأدب، وإدمانه للقراءة، وحبه للمجد، وإخلاصه للوطنية قد تضافر جميع ذلك حتي كوَّن منه شخصية ترقي إلي مصاف المجمعيين، ولا تخرج عن إطارهم.
**
أساتذتي الأجلاء:
عاش الدكتور عماد فضلي حياة حافلة بالأحداث والعمل ولكنها كانت أقل حفولاً بالناس، وكانت تجاربه المبكرة تدفعه إلي الإحجام عن ولوج كثير من معتركات الحياة، وعلي سبيل المثال فإنه آثر الابتعاد عن المشاركة الدائبة في المقالات التي يحرص بها أصحابها علي تقريب الثقافة العلمية للجمهور، وكان هذا الابتعاد قرارًا اتخذه بعد تجربة مبكرة مرت به، وهو يحكي في مقدمة كتاب له عام 1991 فيقول:
«عندما طُلب مني أن أقدم كتابا في الأمراض العصبية والنفسية للقارئ غير المتخصص، كنت أميل إلي الرفض مني إلي القبول إذ صدمتني تجربة سابقة حاولت فيها توجيه النظر إلي الأعراض المبكرة لأحد الأمراض النفسية بأمل أن أنقذ المرضي إذا هم طلبوا العلاج مبكرًا، إلا أن النتيجة كانت علي النقيض، فقد انهالت عليّ أفواج من الناس كان كل ما يعانون منه قابليتهم الشديدة للإيحاء، ولم أجد بينهم إلا النزر اليسير ممن قصدتهم بمقالي، فعاهدت نفسي ألا أقرب بعد ذلك وصف الأعراض المرضية، كما عاهدت نفسي ألا أصف أي علاج عبر وسائل الإعلام الجماهيرية، إذ أن هواية ممارسة الطب منتشرة انتشارًا مذهلاً بين مواطنينا المصريين بل وكثيرا ما أخذ بعضهم يصف لي علاجات لإصلاح حالتي الصحية!».
ظل عماد فضلي لفترة طويلة علي رأس مَنْ كانوا ينادون بالتريث في استخدام التكنولوجيات الطبية الجديدة حتي أتيح له أن يكون ضمن مجموعة الذين اشتركوا في إدخال أول جهاز للأشعة المقطعية، وهو يحكي تجربته في هذا المجال فيقول:
«أذكر أن مجموعة من أطباء الأمراض العصبية والنفسية وجراحي الأعصاب تبينوا أهمية جهاز فحص المخ بالأشعة المقطعية، وأنه يمثل فعلا منعطفا مهمًّا في التشخيص. وكانت الظروف المالية للمستشفيات الجامعية وقتها لا تسمح باقتناء مثل هذا الجهاز، فتعاونا لشراء أول جهاز دخل جمهورية مصر، ونحن نعلم أن هذا المشروع فاشل من الناحية الاقتصادية إلا أننا شعرنا بخطورة التخلف عن هذا الفتح الجديد أكثر من ذلك، إذ أنه كان مستخدما لمدة سبع سنوات قبل قيامنا بالمشروع. ثم اتفقنا علي مراجعة الحالات إكلينيكيا في ضوء معطيات هذا الجهاز، واكتسبنا من ذلك خبرات غالية سواء في حسَّنا الإكلينيكي أو في تحديد مزايا هذا الجهاز.
وقد نبهَنا عماد فضلي في مرحلة مبكرة إلي الأثر الذي يمكن للسياسات العامة أن تلعبه وتؤثر به علي المستوي العلمي لأساتذة التخصصات الطبية المختلفة، وهو يضرب علي هذا مثلاً شديد التعبير عن الواقع حيث يقول:
«وبعد بدء مشروعنا بستة أعوام ذهبنا إلي مؤتمر عالمي في اليابان، وكنا نظن أننا سنكتشف الفجوة القائمة بيننا وبين الدول المتقدمة، إلا أننا نعمنا باطمئنان وثقة بعد حضورنا لهذا المؤتمر إذ تبينَّا أننا عند المستوي العالمي، وأننا عوضنا تأخرنا السنين السبع التي مرت قبل بدء مشروعنا، بل أكثر من ذلك، فقد تبينا أن سبب ما وصلنا إليه من استفادة يرجع إلي الحوار الدائم بين التشخيص الإكلينيكي والصور التي يقدمها لنا الجهاز. وكان هذا السبب واضحا جدا عندما لمسنا الفارق الكبير بين أطباء الأعصاب اليابانيين وبين أطباء الأشعة اليابانيين، فقد ظهروا وكأنهم يعيشون في بلدين مختلفين، فالمستوي المتواضع للأطباء لا يوازيه أبدا المستوي المحلق لأخصائي الأشعة. ولما سألت في ذلك رئيس المؤتمر ـ خوفا من أن يكون استنتاجي راجعا إلي صعوبة اللغة الإنجليزية التي يستخدمها اليابانيون ـ طمأنني إلي أن حاجز اللغة ليس هو السبب، بل هو انعدام الحوار بين الفريقين. ذلك لأن الدولة تهتم بالتكنولوجيا الطبية إذ أنها تصدرها إلي الخارج، أما الممارسة الطبية فالاهتمام بها أقل لأسباب الفلسفة الاقتصادية التي تتبعها اليابان، مما جعل الحوار بين الفريقين شبه منعدم. وقد شكا لي هذا الرئيس ـ وكان نرويجيا ـ من أن ذلك سبب له متاعب جمة في تنظيم هذا الموتمر لم تقابله عند تنظيم موتمرات مثيلة في بلاد أخري».
**
أساتذتي الأجلاء:
عاش عماد فضلي حياته المهنية الناجحة مؤمنًا بالطب النفسي وبأهميته، بل بحتميته إذا جاز هذا التعبير. ولست أبالغ في هذا بل ربما كنت عاجزًا عن التعبير الدقيق عن مجال إيمانه بالطب النفسي وجدواه وحتميته، ولعلي أستشهد علي ما أقصد إليه بفقرتين من حديث له عن مرض الاكتئاب حيث يقول:
«… وفي الاكتئاب لا تُجدي تعزية ولا مواساة ولا ترفيه ـ خصوصا في مراحله الأولي، بل قد تزيد تلك المحاولات من معاناة المريض، إذ يفسرها بأنها نوع من لوم الآخرين له، وأن هؤلاء الآخرين لا يشعرون بمدي معاناته وبقسـوة مأساته».
«يحتاج الاكتئاب إلي علاج سريع وجاد بالأدوية، وقد يحتاج إلي جلسات الكهرباء. أما الحزن فيحتاج إلي تعزية ومواساة وترفيه، وقد يحتاج الحزين إلي بعض الإرشاد النفسي في شكل علاج نفسي بسيط، يعيد الحزين إلي أنشطته الاجتماعية واهتماماته السابقة، فإذا هو مرةً أخري ماضٍ في طريق حياته العادية».
**
أساتذتي الأجلاء:
قُدِرّ لعماد فضلي أن يعيش حياة العالم الذي تتطور معارفه مع الأيام في اتجاه البحث عن الحقيقة ومعرفتها ونقلها للآخرين، وقد ظل حفيًّا بالحديث عن تطور تشخيص الأمراض النفسية، والثورة التي حدثت في هذا المجال باستناد هذا التشخيص إلي التغيرات الكيميائية، وكان ينبه إلي أن الخريطة المبينة لأماكن هذه الإصابات، وأنواع الكيماويات المسئولة عنها قد وصلت إلي مرحلة من الدقة كافية لتشخيص هذه «الأمراض» تشخيصا دقيقا إلي درجة عالية لم نكن نحلم بها، وكان عماد فضلي يكرر في كثير من المحاضرات العامة قوله إن «الدنيا تغيرت» في مجال هذه «الأمراض النفسية». فلم يعد يكفي أن نفسرها «منطقيا» علي أساس تصورات فلسفية و فرضيات لا تقوم علي البحث العلمي والتجريب، وإلا عدنا إلي ما يشبه التفسير القديم «للملاريا» بأنها تنشأ عن فساد الهواء، فساد “Mal” وهواء “Air”..
ولم يكن عماد فضلي يكف عن مطالبته الأطباء والمثقفين بإعادة تثقيف أنفسهم بالحقائق الجديدة مشيرًا إلي أنه ليس من المعقول الإبقاء علي فروض فلسفية مضي زمنها، مهما كانت «مريحة» للعقل، و«لذيذة» كموضوع للنقاش، أو صالحة لبناء قصص درامية وأفلام سينمائية ومسلسلات تليفزيونية. وكان ينبه إلي أن هذه اللذة العقلية والتطبيقات الدرامية وقفت زمنا طويلاً ـ وما زالت تقف إلي الآن ـ عائقا ضد التصور الصحيح لهذه «الأمراض» بين أفراد الجماهير، خصوصا «المثقفين» منهم ـ الذين يستهويهم تطبيق ما يقرأونه من كتابات نفسية زخرت بها المكتبة النفسية في أوائل القرن العشرين، وبخاصة أن تلك الكتابات توحي لقارئها أنه قادر علي تشخيص وعلاج أمراضه النفسية وأمراض الآخرين، ما دام يعرف أن الحرمان من الرضاعة أو التدريب القاسي علي التحكم في «التبول والتبرز»، أو الحرمان من الممارسات الجنسية تؤدي إلي حدوث الأمراض النفسية في سنوات العمر المقبلة.
**
وكان عماد فضلي يحذر من أننا إذا عدنا إلي هذه التفسيرات المريحة فسنضَّيع علي المريض فرصة الشفاء الذي أصبح متاحا إلي درجة لا تختلف عن باقي أنواع الأمراض في فروع الطب الأخري، وكان ينبه إلي أن المستشفي النفسي قد أصبح الآن مفتوح الأبواب ـ له عيادة خارجية واستقبال.
أساتذتي الأجلاء:
كان عماد فضلي طرازًا من المثقفين الحقيقيين الذين أفادت منهم الممارسة الطبية، وقد ظل طيلة حياته يوظف معارفه الفلسفية في خدمة مهنة الطب العصبي علي نحو رائع لا يتأتي إلا لأمثاله من المثقفين المتخصصين، وليس أدلَّ علي هذا من حديثه الدافئ في هذه الفقرة التي يناقش فيها دور النشاط الذهني في الوقاية من الإصابات الدماغية بالاحتشاء، وهو يفرق بين نوعين من النشاط الذهني: نوع يُفْرضُ علينا فرضا، وتقابلنا في أثناء أدائه عقبات وإحباطات ويؤدي إلي توترنا بل إصابتنا بنوع أو آخر من الاكتئاب. ونوع آخر نحقق فيه ذاتنا ونصقل فيه مواهبنا وننتج ونبدع ونبتكر، ونفرح ونبتهج ونحن نؤديه.
وهو يقول: «إن النوع الأول مُضِرٌّ ويسرع بنا الخطي نحو تصلب الشرايين، وهو سبب هام من أسباب ما يسمي «بالإجهاد النفسي» أو «الكرب النفسي» ـ وهو مهلك، ويقع فيه مَنْ يتصور أن الطموح يعني طلب ما يزيد عن الطاقة أو الإمكانات التي وهبها له ا#، فيقع في تنافس مع مَنْ لا يستقيم التنافس معه، أو يجري وراء مطالب مادية يمليها عليه المجتمع، فيجد نفسه يجري وراء ظله، ويستولي عليه الجشع ولا يشعر بلذة ما حقق من مكاسب مادية قدر ما تذهب نفسه حسرات علي ما لم يستطع أن يصل إليه من تلك المكاسب. وهناك فئة أخري تغريها قدرتها علي بعض النشاط السياسي أو الإداري لما يحيط به من هالات الشهرة والسلطة، وتنسي مواهب أخري أهم وأقوي وهبها ا# لها، فتترك تلك المواهب لتذوي، وتضيعُ سنوات العمر دون أن تحقق شيئًا، ولو فعلت لأرضت نفسها وربها والناس. ويمضي هؤلاء يهرولون وراء منصب أو مركز يهلكون أنفسهم فيه جهدًا ونضالًا حتي إذا فرَّت الأعوام من أيديهم وجدوا حصيلتهم صفرا، خصوصا عندما ينفضُّ المولد، ويتركهم حشم الأمس وحيدين يجترون آلام المعركة التي لم تؤد إلي مكاسب حقيقية، وينظرون إلي مستقبل لا يَعِدُ بشيء ذي قيمة».
ثم يلتفت عماد فضلي ليتحدث عن النوع الثاني من النشاط فيقول: «إنه يظل مصدرا للرضا النفسي وبهجة الابتكار والتجديد والتطلع إلي المستقبل مهما طال العمر، فكل خطوة تمهد لما بعدها، ولا يهم الإنسان منها إلا لذة العطاء والابتكار والتجديد، حتي إذا مضت الأعوام وجد وراءه ماضيا سخيا يهنأ له تَذَكُّره، بل ووجد ثمرات تنبت ويشتد عودها في مستقبل الأيام حتي من غير أن يضعها في حسبانه. إذ أن البلد الطيب يخرج نباته طيبا بفضل ا# وبالنيات الطيبة، وبالعطاء أولا دون النظر إلي الأخذ والتسلط، تلك سنة من سنن ا# تغشي عنها الأبصار كثيرا بفعل الملوثات الفكرية التي تسود أحيانا، إلا أن سُنَّة ا# لا تبديل لها ولا تحويل، ومن اتبعها كُتبت له حياة طيبة وشرايين تقاوم التصلب ودماغ لا يقبل التدهور بسهولة».
هكذا كان عماد فضلي يعتقد، ويعبر عن اعتقاده… ثم هو يردف هذا المعني الدقيق فيقول:
«وليس كلامي هذا مسن باب التلاعب بالألفاظ أو التجاوز اللغوي، بل قد أثبتت التجارب العلمية أن الأشخاص الذين يثابرون علي استخدام إمكاناتهم الذهنية الابتكارية في جو من الهواية أكثر من الحرفة وتنافساتها وهمومها، تستطيع خلايا دماغهم أن تتجدد. وأقول تتجدد، وقد كان المعروف إلي وقت قريب أن خلايا الجهاز العصبي هي الخلايا الوحيدة في الجسم التي تستمر مع الشخص من مولده إلي وفاته، ولا تضاف إليها خلايا جديدة بخلاف الجلد والأمعاء والدم».
**
«وإذا علمنا أن هذه الاتجاهات الفكرية تُغرس أسْهلَ ما تُغرس في سنين التكوين المبكرة، أي في مراحل الطفولة والصبا والمراهقة، فيمكننا تبين أهمية القدوة الحسنة والتوجيه السليم للأبناء في هذه المراحل، بحيث نكتشف القدرات الحقيقية لأبنائنا ونعمل علي تنميتها بغض النظر عن «الموضات» السائدة في المجتمع. فنشجع مَنْ نتبين قدراته الفنية أو الأدبية مثلاً، ولا نفرض عليه التوجه إلي ما لا يستثير همته من علوم أو رياضيات بحجة أن هذه النواحي من المعرفة هي التي تلقي احترام المجتمع وتقديره، بل علينا أن نتبين في وضوح أن الأديب المتميز أهم وأصلح لنفسه ومجتمعه من المهندس الفاشل. فنحن إذا ما أحسنَّا تربية أبنائنا كما رسم لنا ديننا القويم وكما أوصت علوم التربية، بحيث تنضج الشخصية متكاملة، وقد تفجرت كل إمكاناتها وصقلت كل مواهبها، وبعدت عن مثالب الغرور والكبر والحقد، والتزمت درب العطاء والإيثار والرضا، فنحن نمهد لأدمغة هولاء الأبناء الطريق المستقيم نحو الصحة والتجدد ومقاومة الجلطات والاحتشاء، والتمتـع بحياة طيبة معهـا أمـل قوي فـي حياة آخرة طيبها ليس كمثله شيء».
أساتذتي الأجلاء:
بقي أن أحدث حضراتكم عن جانب من جوانب شخصية عماد فضلي لا أدري ما الذي دفعه إلي تأجيل نشر دراساته فيه، فمنذ ربع قرن كنا نتحدث في أدب الدكتور محمد كامل حسين بعد أن قرأ عرضي وتلخيصي لبعض قصصه القصيرة وتعليقي علي توظيف كامل حسين للمعارف السيكولوچية في هذه القصص وإذا به يطلب مني صورة من النصوص الأصلية لهذه القصص التي كانت قد نشرت في المجلات ولم تنشر في كتب، واستطرد يحدثني عن أنه بحكم الدراسة والعمل مندهش لما كان محمد كامل حسين يتمتع به من وعي شديد بما توصل إليه طب النفس في سنواته الأخيرة، وقال إنه ينوي الكتابة عن هذا الجانب، والحق أني لم أقصر في تزويد أستاذي بالصور الضوئية لهذه القصص وعشت أتطلع إلي أن أقرأ له مثل هذه الدراسة القيمة، ويبدو لي أنه أنجز بعض مسودات هذه الدراسات، ودليلي علي هذا ما لمسته من تمكن الفكرة من نفسه إلي الحد الذي تعبر عنه فقرة كتبها ليصف فيها بعض ملامح مرض الاكتئاب حيث يقول:
**
«ونلاحظ أن الضيق الذي يشكو منه المريض تتراوح شدته بين ساعات اليوم المختلفة، ففي أحد أنواعه يزداد هذا الضيق في الساعات الأولي من النهار، فتكون كما قال ناجي:
فــإذا النــور لهيــب طــالــع وإذا الــفجر مــطل كالحــريق
وفي أنواع أخري نجد الضيق يشتد قرب الغروب».
أساتذتي الأجلاء:
لست أستطيع أن أبرح مكاني هذا دون أن أشير إلي ما كان فقيدنا يتمتع به من حس أدبي ونقدي متميز، ولو أنه وظف هذا في الكتابة لبزَّ الكثيرين ، ويكفي للتدليل علي تفوقه في هذا الجانب أن أشير إلي بعض التعبيرات التي كان يرددها من قبيل قوله إن أورام المخ ارستقراطية، أو قوله أنت تنفعل كيمياويا، وتفكر كهربيا، أو وصفه للشلل الوجهي بقوله: عندما يضحك المريض بنصف وجه، أو قوله: للمخ شبكتان للري، وقوله: إن التدخين عادة وليس إدمانًا.
وكان عماد فضلي في كتاباته الطبية يكرر باعتزاز وحب كثيرًا من التعبيرات الدينية التي يتداولها الفقهاء والدعاة من قبيل: أقول قولي هذا…. وكان في هذا الجانب يعبر عن التزام ديني ظل ناعما به طيلة حياته.
وإذا جاز لي أن أعبر في كلمات سريعة عن مجمل شخصيته فإني أكرر ما أشرت إليه في مقدمة حديثي هذا عنه من أنه كان رجلا تمتَّع بالخلق النبيل، والطبع الهادئ، والصوت الخفيض، والحياء الإيجابي، والسمت الجميل، والوجه المضيء، كما أني لا أجد في تصوير شخصيته خيراً من الأبيات الثلاثة التي قالها سلفنا العظيم الشاعر علي الجارم في رثاء الشاعر الكبير إسماعيل صبري:
من كتاب “كيف أصبحوا عظماء”، مؤلفات الدكتور محمد الجوادي، الطبعة ٢ الهئة المصرية العامة للكتاب 2008