الدكتور علي مصطفي مشرفة (1898 ـ 1950) هو أشهر العلماء العرب في العصر الحديث، كان عبقريا في فنه وعلمه وفي مجالات فكرية وثقافية عديدة.
نشأته وتأهله الذكي المبكر
ولد الدكتور علي مصطفي مشرفة في 31 يوليو1898، في مدينة دمياط، وفيها وفي القاهرة تلقي تعليمه العام، ثم التحق بمدرسة المعلمين العليا حيث تخرج فيها 1917، وسرعان ما نال بعثة دراسية إلي بريطانيا حيث لحق بالسابقين عليه من خريجي الدفعات السابقة الذين لم يبتعثوا من فورهم بسبب الحرب العالمية الأولي، وقد درس في لندن وبرمنجهام وأثبت تفوقاً ملحوظاً مكنه من أن ينال علي التعاقب درجة البكالوريوس في العلوم مع مرتبة الشرف 1920 ، ثم درجة دكتوراه الفلسفة في العلوم فبراير 1923 ، ثم درجة دكتوراه العلوم يناير 1924.
وقد عمل بعد عودته الأولي في 1923 بالتدريس في مدرسة المعلمين العليا، ثم في مدرسة الطب قبل أن يعين في الجامعة المصرية عند افتتاحها، وقد عين في درجة أستاذ مساعد نظراً لأن سنه كان دون الثلاثين، لكنه سرعان ما نال الأستاذية، ثم أصبح وكيلاً للكلية، ثم عين كأول عميد للكلية في 1936، واستمر يشغل هذا المنصب حتي وفاته.
بحوثه العلمية
تركزت بحوث الدكتور مشرفة العلمية في موضوعات ميكانيكا الكم والميكانيكا الموجية، وتزاوج المادة والإشعاع، والنظرية النسبية.
رائد العلماء في الاتصال الجماهيري
بدأ اتصال مشرفة بالجمهور عن طريق الصحافة والإذاعة منذ مرحلة مبكرة، وكان مشرفة من الذين يجيدون هذا الاتصال، والتأثير في الجماهير بأحاديثه ومقالاته، وقد نشر أول كتبه «مطالعات علمية» سنة 1943 عن مطبعة الاعتماد، وضمنه مجموعة من المقالات التي نشرها في الصحف والمجلات حتى سنة صدور الكتاب. وقد مثل هذا الكتاب طرازاً جديداً من مقالات الثقافة العلمية التي اعتمدت علي اللغة العالية الدقيقة، والاختصار في مقابل اعتماد السابقين علي التصوير والتشويق، وعلي التطويل من أجل الشرح أو تقريب الصورة، وقد ضمت فصول الكتاب مقالات عن الأرض، والكون، والشمس، والنور، والطاقة، وقوانين الطبيعة، والمصادفة، والسلام، وحرب الأثير.. إلخ، كما ضمت مقالين مهمين عن شخصيتين علميتين بارزتين هما: الخوارزمي وابن الهيثم، ومقالات أخري عن السياسات العلمية والحياة في مصر ومستقبل العلم واللغة العربية العلمية، والعلم والصوفية، والعلم والشباب.
نشر الثقافة العلمية
وسرعان ما نشر مشرفة كتاباً ثانياً في هذا الإطار عام 1945 (أي بعد عامين)، وقد جعل عنوانه «نحن والعلم» وضمنه بعض المقالات عن التأليف العلمي والثقافة العلمية والرأي العام، وعلاقة العلم بالمجتمع، وتنظيم البحث العلمي، والتعاون الدولي للعلماء. ومضي مشرفة في ذلك العام خطوة أوسع فنشر كتابين آخرين في موضوعين علميين مهمين، وكانت كتابته في هذين الموضوعين بمثابة الكتابة الأولي علي هذا المستوي في اللغة العربية، وقد قدم كتابه «النظرية النسبية الخاصة» عن لجنة التأليف والترجمة والنشر، أما كتابه «الذرة والقنابل الذرية» فقد قدمه عن مكتبة الجيل الجديد.
وبعد عام واحد نشر مشرفة خامس وآخر كتبه في هذا المجال وهو كتاب «العلم والحياة»، وقد ضمنه مجموعة من الأحاديث الإذاعية والمحاضرات التي كان قد تناول فيها علاقة العلم بثمانية مجالات أخري من الحياة ، هي: السياسة، والصناعة، والمال، والشباب، والعروبة، والأخلاق، والدين، وأخيرا بالحياة، وهو عنوان الكتاب نفسه، وقد ضمنه بالإضافة إلي هذا مقدمة وخاتمة بلور فيهما آراءه فيما يتعلق بمكانة العلم من الحياة. ولاشك في أن الأفكار التي عرضها الدكتور مشرفة من خلال هذا الكتاب وما سبقه قد لعبت دوراً كبيراً في صياغة أفكار النخبة المصرية نحو العلم الطبيعي الذي لم يكن قد احتل مكانة بعد في المجتمع المصري الحديث. ويمكن القول بأن الدكتور مشرفة بشخصيته ونشاطه قبل مقالاته وكتبه ومحاضراته، قد أعطي صورة مشرقة لإمكان اندماج العلم الحديث في المجتمع المصري وقيامه بدور فعال من أجل التقدم، علي أننا لابد أن ننتبه إلي سعة وفعالية المساحة التي أتاحها المناخ الليبرالي لمشرفة ليقدم هذه الصورة دون تعويق أو اشتراطات مسبقة.
المؤسسات العلمية الوطنية
كان الدكتور علي مصطفي مشرفة صاحب فضل [منفرد أو مشترك] في نشأة كثير من المؤسسات العلمية المصرية، وقد أسهم في إنشاء الأكاديمية المصرية للعلوم، والمجمع المصري للثقافة العلمية، وكان عضوا في المجمع العلمي المصري.
هواة الموسيقى
كان الدكتور علي مصطفي مشرفة خبيراً بالموسيقي، وأسهم في إنشاء الجمعية المصرية لهواة الموسيقي الغربية، كما أسهم في تنظيم مواسمها الثقافية والفنية، وأسهم في تقديم أول أوبرا باللغة العربية. وله ترجمة شعرية رائعة لأحد نصوص الموسيقار العبقري مندلسون ١٨٠٩-١٨٤٧ .
التراث العلمي العربي
إلي الدكتور مشرفة يعود فضل كبير في تنبيه المجتمع إلي العناية بالتراث العلمي العربي، وكان رائدا في إحياء إنجازاته وتحديثها وتقديمها في مقررات دراسية لطلاب العلوم. وكعادته فإنه ضرب بسهم مبكر في هذا النشاط وقد أشرك تلميذه الأثير الدكتور محمد مرسي أحمد معه في تحقيق كتاب «الجبر والمقابلة» لمحمد بن موسي الخوارزمي، وقد طبعت كلية العلوم بالجامعة المصرية هذا الكتاب عام 1937، وقد ضمن هذا الكتاب بحثين رائدين في مجال تاريخ العلم الأول عن الجبر قبل الخوارزمي، والثاني عن الخوارزمي وكتابه. وكان ينتوي إنشاء كرسي في كلية العلوم لتاريخ العلم عند العرب. واشترك الدكتور مشرفة من خلال الجمعية المصرية للعلوم الرياضية والطبيعة التي أسسها في عام 1936 في إقامة اجتماع تخليدي لذكري الحسن بن الهيثم (1939)، وقد أشرك فيه زملاؤه الرياضيين بالإضافة إلي أستاذ الفلسفة الإسلامية الشيخ مصطفي عبد الرازق، وقد نشرت الجمعية المذكورة مجلداً تذكارياً تضمن المحاضرات التي ألقيت في هذا الاجتماع.
المواسم الثقافية للهيئات الأجنبية والمصرية
اسهم الدكتور مشرفة في المواسم الثقافية للاتحاد المصري الإنجليزي، وألقي في المجموعة الأولي من محاضرات هذا الاتحاد محاضرة قيمة عن الحياة والحركة الفكرية في بريطانيا (1941)، واشترك كذلك في المواسم الثقافية للجامعة الأمريكية والمجمع المصري للثقافة العلمية الذي كان من مؤسسيه ، واشترك من خلال جامعة القاهرة (1946) في تخليد ذكري الدكتور محجوب ثابت.
الجهود المعجمية
اشترك الدكتور مشرفة في مرحلة مبكرة (1938) مع الأستاذ محمد عاطف البرقوقي في وضع قاموس علمي إنجليزي عربي مبسط أقرب ما يكون إلى قائمة مصطلحات باسم «مختارات ترجمة العلوم»، وقد طبعته مطبعة كوي.
قوائم أعماله ومقالاته
كان من فضل الله علينا أن وفقنا في كتابنا عن مشرفة منذ أكثر من أربعين عاما إلى نشر ببليوجرافيا كاملة لكل أعماله الفكرية بما فيها المقالات ومجموعة أحاديثه في إذاعة الحكومة ومحطة إذاعة الشرق الأدنى للإذاعة العربية في الأعوام التي شارك فيها في 1938 و1939 و1940 و1941 و1945 و1948 و1949، وكذلك مقالاته العديدة في صحف الأهرام والمقتطف والجهاد والدستور والأساس والزمان، ومجلات المصور والجديد والرسالة والهلال ومجلتي والمجلة الجديدة وكليوباترا والعلوم والشئون الاجتماعية والإصلاح الاجتماعي والحديقة والمنزلة، فضلاً عن مجلة تاريخ العلوم ومجموعة أبحاث الجمعية المصرية للعلوم الرياضية والطبيعية، والكتاب السنوي للمجمع المصري للثقافة العلمية.
الكتب المدرسية والمراجع الجامعية
أسهم مشرفة بحكم مكانته العلمية ومنصبه كعميد لكلية العلوم في وضع مجموعة كتب دراسية مرجعية متميزة في علوم الرياضيات المختلفة، وقد اشترك في وضع هذه الكتب مع زملائه في الجامعة، أو في وزارة المعارف. فاشترك مع محمد إلهامي الكرداني في وضع كتاب «الهندسة الوصيفة» (1937)، ومع عبد الرحمن فهمي في وضع كتاب «الميكانيكا العلمية والنظرية» (1937)، ومع محمد مرسي أحمد ونصيف سعيد في وضع كتاب «الرياضة البحتة» (1939)، ومع عبد الرحمن كامل فهمي في وضع كتاب «الهندسة المستوية والفراغية» (1944)، ومعه أيضا في وضع كتابي «حساب المثلثات» (1944)، و«الهندسة وحساب المثلثات» (1947).
النشاط العلمي والاجتماعي في الجامعة
كان الدكتور مشرفة مغرما بنقل صور النشاط العلمي والاجتماعي في المجتمع البريطاني إلي الجامعة المصرية، وكان ينظم في بيته يوماً مفتوحاً كل شهر، كما كان يعني بكل صور الأنشطة الجامعية والحضارية، وبالرحلات العلمية والترفيهية علي حد سواء، وقد نظم عدداً كبيراً من المناظرات التي ناقشت كثيراً من القضايا الخلافية ، وكان كعادة المناظرات يأخذ الجانب البعيد منطقيا عن تكوينه أو تخصصه فيفضل الأدب علي العلم كما في مناظرته الشهيرة مع الدكتور طه حسين علي سبيل المثال، ومن قبيل هذه المناظرات دارت معركة طريفة بينه وبين صديقه الدكتور أحمد أمين حول مقام الإنسان في الكون، وقد دارت المعركة (1943) عندما أعاد مشرفة نشر مقال كتبه في (1928) تحت عنوان «سياحة في فضاء العالمين»، وقد علق عليه أحمد أمين في الثقافة بما استنتجه من أن أرضنا لا تساوي في هذه العلوم قطرة من البحار، وأنه أدرك مدي غرور الإنسان حين اعتقد أنه أرقي مخلوق علي وجه العالم.. واستمر أحمد أمين في استعراض عدد من الأفكار الفلسفية التي استثارها في خياله مقال مشرفة وتصويره للعالم الذي يحيط بنا دون أن ندري حقيقته، ورد مشرفة بالحديث عن مقام الإنسان في العالم، وبالقول بأنه مع أن نسبة حجم الإنسان إلي حجم العالم تصلح لأن تكون تعريفا للصفر الرياضي، فإن في ذلك الجرم المتناهي في الصغر أكبر معجزة في الكون بأسره، وحبذ مشرفة رأي الأسقف الإنجليزي باركلي القائل بأن حقيقة الكون نفسية لا موضوعية. وقدم مشرفة أدلته علي المقام الرفيع للإنسان للكون بما يتعارض كلية مع فكرة أحمد أمين، وأشار إلي أن مجد البشر لا يقوم إلا علي القبس المقدس الذي ميز الإنسان علي الحيوان وهو القوة الروحية التي تحرك حب الحق وحب الخير والجمال، وأن ما حصل عليه الإنسان من العلم ونتائجه لم يأت إلا علي قدر طلبه للحقيقة وشغفه بالحق.
الإصدارات المتتالية لكتابنا عنه
- الإصدار الأول : مشرفة بين الذرة والذروة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ١٩٨٠ ( وقد نلنا عنه جائزة الدولة التشجيعية )
- الإصدار الثاني : سيرة حياة على مصطفى مشرفة : مشرفة بين الذرة والذروة ، 2001، مكتبة مدبولي، القاهرة.
- الإصدار الثالث : مشرفة : سيرة حياة ، دار الشروق ، ٢٠٠٨، القاهرة.
مذكراته
- يوميات مشرفة، بتحقيقنا وتقديمنا ، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003.
وقاته
توفي الدكتور علي مصطفي مشرفة في 16 يناير1950
نشر هذا الفصل من كتاب ” سلطة النبوغ الخصيب ” : دار الروضة ، 2019