سيدي الرئيس،
سيدي النائب،
سيدي الأمين،
الأساتذة الأعضاء،
السادة الضيوف:
كانت للدكتور عبد الرازق عبد الفتاح شخصيةً فذة، قوية، منتجة، مرشدة، فارقةً بين الحق والباطل، وكان أعظم قيادات الجامعة قدرة علي الفصل بين الصواب والخطأ، وبين الجد والهزل، وبين القيمة والتفاهة، وقد أتيح لوطنه أن يفيد منه إفاداتٍ قصوي ندر أن أتيحت لوطنه من أحد من أقرانه من العلماء في جيله. كان ذا ذكاء حاد، وإدراك وقَّادٍ، علي أنه رُزِقَ فوق الذكاء الحاد وفوق الإدراك الوقاد وفوق العمل الجاد بصيرةَ العباقرة التي هيأت له محلا رفيعا في الوجدان وفي الأذهان علي حدٍ سواء.
كان عبد الرازق عبد الفتاحِ نموذجا للمهندس الذي امتزجت الهندسة بدمه وبدنه وأعصابه وحركاته وسكناته، حتي ليسهل علي الرائي أن يكتشف مهنته بعد دقائق قليلة من اللقاء به أو الاستماع إليه أو القراءة له. كان مهندَس الفكر، وكان مهندِسًا للفكر، وكان مهندَس اللفظ وكان مهندسًا للفظ، وكان مهندَس اللغة وكان مهندِسًا للغة، وكان مهندَس الحوار، وكان مهندِسًا للحوار.
وعلي الرغم من أن عبد الرازق عبد الفتاح كان صاحبَ منهج واضح، وصاحب رؤية متفردة، فإنه كان يجمع بين كثير من ملامح أنماط التفكير الرئيسية التي كان يجيد وصفها علي نحو ما سنري ونحن نتدارس ملامح فكره التعليمي والجامعي، ومن الحق أنه كانت تغلب عليه في إنجازاته نزعةُ التفكير الخلاق، إلا أنه كان في أدائه مثاليَّ النزعة، وكان في رياسته عمليَّ الوظيفة، وكان في أحكامه النقدية تحليليَّ التقييم، وكان في رؤيته لوطنه ومؤسساته واقعيَّ التقدير.. وأظنه كان يعرف في نفسه كلَّ هذه الصفات، وإني لأذكر له موقفًا حضرته منذ أكثر من ربع قرن فإذا به الأسد الهصور الذي أنقذ اجتماعا علميا من جدل كان كفيلا بإفساد الجلسة كلها، فإذا به ينقذ الموقف في دقيقة واحدة معتمدًا علي قدرة نفسية هائلة علي الحسم والحزم، ولا أظنني وجدت فيمن شهدهم جيلي مَنْ كان حاسما حازما وهادئا هاديا مثله. والحق أنه كان حاسما حازما بقدر ما كان حازما حاسما، ولعله كان أقرب الناس إلي طبيعة مشرط الليزر الضوئي القاطع في كل الأحوال وعلي كل المستويات.
كان تعليمه عاليا وكان تعلمه متميزا بحيث حفظ عليه القدرة المتصلة علي الاطلاع والمتابعة، وكان يدرك تطورات الهندسة الحديثة في يسر، لأنه كان قد أدرك جوهرها في تأنٍّ وثقةٍ وتعمق، وكان قادرا علي أن يتنبأ بمستقبل التكنولوچيا في ضوء الاختراعات والتطويرات، وكان قادرًا علي أن يصوغ كل هذه الجواهر في عبارات واضحة فصيحة مفهمة، وكان قادرًا علي أن يَختار لكل جديد من التكنولوجيا اللفظ أو المصطلح القادر علي التعبير عنه بدقة متناهية، وكانت المصطلحات التي وضعها أو اشترك في وضعها في علوم الهندسة والتكنولوجيا والحاسبات كفيلةً بأن تهدي أمثالي من أساتذة الطب إذا ما اضطروا إلي التفريق بين ما يظنه بعضهم مترادفات، ولازلت أذكر أني أفدت من فهمه في تفريقي بين كثير من مصطلحات الفيزيقا التطبيقية التي لايزال بعضنا يخلط بينها في طب القلب، ولم يحقق عبد الرازق هذا النبوغ المعجمي من فراغ، وإنما لأنه كان أقدرَ الناس علي التمييز بين الفعل ورد الفعل، وعلي التمييز بين السبب والنتيجة، وعلي التمييز بين الدافع والمساعد، مع ما يكتنف كل هذه التميزات من صعوبات بالغة، لكنه كان يتوسل إلي هذا كله بما حباه الله به واختصه به من علم غزير، وخبرة واسعة، وعقلية ناقدة، ونظرة نافذة، وانحياز إلي الحقيقة وشغف بها، وكانت حظوظه من كل هذه الصفات الرفيعة وافرة بفضل الله الذي حفظها عليه حتي لقي وجه ربه الكريم.
وقد وصفه أستاذنا الدكتور محمود حافظ عند استقباله له في هذا المجمع بأنه عالم جليل من خيرة علمائنا ومهندسينا البارزين، أسهم في بناء النهضة العلمية والتعليمية في مصر، كما أشار إلي أن له في حياتنا الجامعية إنجازات يعتد بها ستظل شاخصة تشهد بعلمه وخبرته الواسعة.
**
أساتذتي الأجلاء:
كان أستاذنا من شيوخ الصناعة الذين لا ترُد كلمتهم، وكان من شيوخ العلم الذين أحاطوا بتفصيلاته، وكان من الأساتذة الذين يبدو أنهم لا ينطقون إلا بالصواب، ومع كل هذا كانت له شخصية علمية باحثة لا تكف عن مراجعة نفسها من أجل الحق فإذا ما أدركتْه أمسكتْ به، وعدلت عما قبله، ولم يكن من هواة إمساك العصا من الوسط، ولا من المضطرين إلي هذا.
كان صاحبَ الفضل في ظهور رابع جامعات مدينة القاهرة: وهي جامعة حلوان علي نحو ما ظهرت عليه، وقد منحها خلاصةَ نفسه وعقله من قبل أن تنشأ، فلما نشأت كان من الطبيعي أن يكون هو رئيسَهَا الأول، ومن خلال رئاسته لها استطاع في عبقرية نادرة أن يضفي الروح الجامعية علي مجموعة كلياتها ومعاهدها التي كانت منتشرة أو متناثرة في مواقع عديدة في القاهرة وفي الإسكندرية كذلك، وبفضل شخصيته الرائدة تمكن عبد الرازق عبد الفتاح من أن يقدم لوطنه جامعة تفخر مصر اليوم بها، وقد سخّر ذكاءه لاكتشاف الكفايات في كل المجالات الجامعية وتشجيعها ودفعها للأمام، وليس أدلَّ علي نجاحه من أن هذه الجامعة قدمت للوطن علي مدي ربع قرن كفايات لا يستهان بها في مجالات عديدة، وقد توجت هذا قبيل رحيل عبد الرازق عبد الفتاح باختيار رئيسها وزيرا للتعليم العالي، وباختيار أمين المجلس الأعلي للجامعات مرة بعد أخري من عمدائها، ولا يمكن القول بأن هذا قد تحقق من قبيل المصادفة، إلا إذا صدقنا أن المحاصيل المتميزة التي نحصدها في نهاية الموسم تنمو بالمصادفة دون انتقاء للبذور ورعاية لها.
وسيذكر التاريخ الوطني أن عبد الرازق عبد الفتاح قد أنجز ما أنجزه في جامعة حلوان في ظروفٍ وسنواتٍ اقتصادية صعبة، كان ارتفاع معدلات التضخم فيها كفيلا بأن يوقف نمو المجتمعات الجامعية، وبأن يحُول دون نشأة كيانات جامعية جديدة، وبأن يعوق استمرار أعضاء هيئة التدريس في مواقعهم داخل مصر، بل أن يقلل من عطاء الباقين داخل حرم الجامعة، لكن فقيدنا تغلب علي هذا كله بعدد من الآليات الذكية كانت في مقدمتها القدوةُ الناصعة التي قدمها في جديته وتفانيه، وتواصل جهده، وتجرده لعمله، وانصرافه عما ينزلق إليه كثيرون من أن يوظفوا مناصبهم لفوائد شخصية، أو لعوائد ذاتية، ومن أن ينشغلوا بقضايا فرعية، أو خصومات قديمة، أو أغراض قصيرة النظر، أو تحالفات مشبوهة الغرض.
والحق أن عبد الرازق عبد الفتاح نجا من هذا كله لأنه كان يعرف قيمة نفسه، وقيمة دوره في هذه الحياة الدنيا القصيرة، وقد نجح فقيدنا العظيم في أن يصنع من الإنجازات الحقيقية ما جعله في جامعته لا يقل قيمة ولا إنجازا ولا ذكري عمن سبقوه إلي تأسيس الجامعات: لطفي السيد، وطه حسين، ومحمد كامل حسين، والباقوري، وسليمان حزين، وقد لحق بهم جميعا في عضوية مجمع الخالدين، علي الرغم من أنه كان من جيل تال لهؤلاء جميعًا، وعلي الرغم من أنه أدي وظيفته في زمن تال لهؤلاء جميعًا حين كانت الدولة والمجتمع معا قد شغلا تماما عن دعمه بما ينبغي أن تلقاه المؤسسات العلمية الجامعية من دعم. وكنت أقول له إنه يمثل المعلم التكنولوجي الأول في تاريخنا الجامعي فكان يبتسم ابتسامة الواثق المتواضع الذي يعرف لأسلافه قيمتهم.
**
أساتذتي الأجلاء:
كان عبد الرازق عبد الفتاح بين المجمعيين طرازا فريدا متفردا، ولعله وهو الذي انتخب لعضوية مجمعنا هذا عام ثمانية وثمانين وتسعمائة وألف كان بمثابة النموذج المبكر للعلماء الذين سيبدأ وصولهم إلي عضوية مجمعنا هذا في ربع القرن القادم، ذلك أن عبد الرازق عبد الفتاح دخل هذا المجمع من باب تفوقه الساحق في علوم الهندسة، وقدرته علي صياغة المفاهيم والمعاني الهندسية والتعبير عنها بألفاظ دقيقة مبتكرة من وحي الهندسة وحدها، ولم يكن عند ترشيحه للانضمام إلي ركب الخالدين قد عُرف بإبداع في الأدب، ولا تمرسٍ بالكتابة، ولا تحليقٍ في الشعر، ولا تبحرٍ في اللغة، ولا استيعابٍ لمتونها، وهي الصفات التي أضفت علي أصحابها من العلميين الذين سبقوه إلي عضوية المجمع طابعا مهيئا للمجمعية، لكنه جاء إلي هذا المجمع وفاز بعضويته في انتخابات لم يفز فيها غيره من باب عظمته المتناهية في الهندسة، وسرعان ما ضَرب عالمنا المثل في طراز جديد من المجمعية الرائدة المتبحرة إلي أبعد الحدود، ولم تكن قدراته اللغوية تقف عند حد علي الرغم من صعوبة تصورنا لحدودها المذهلة، ذلك أنه كان يدرك لُبَّ الحقيقة معتمدا علي سعة أفق لا نظير لها، وقد أثبت بما أنجز أروع دليل علي وحدة المعرفة، وعلي قدرة المخ البشري الجبارة، ذلك أنه فيما وضع وما عدّل وما ضبط وما راجع وما نقح من مصطلحات انطلق من لغة هندسية فرضت نفسها علي الصرف، فإذا بها تصل إلي الصواب الصرفي، وفرضت نفسها علي متن اللغة، فإذا بها تصل إلي الصواب في متن اللغة أيضا، وفرضت نفسها علي بنية الجملة والعبارة، فإذا بها تصل إلي الصواب في البنية والبناء والبنيان أيضا.
وقد تم هذا الإنجاز كله مع أن عبد الرازق عبد الفتاح كما قلنا لم يمارس الشعر ولا الزجل ولا القصة ولا الرواية ولا الكتابة الأدبية، إلا أنه مارس العلم والترجمة والتدريس والتصميم والتخطيط والكتابة العلمية علي نحو دقيق كان كفيلا بأن يرتفع بمستوي بيانه إلي حدود قصوي. والحق أن هذا الارتفاع كان علي مستوي اللفظ وفصاحته، – والجملة وبلاغتها، والنص وفنِّيته. وإذا كان البلاغيون قد قسَّموا علومها منذ الزمن المبكر إلي المعاني، والبيان، والبديع، فقد كان تفوق عبد الرازق عبد الفتاح في بلاغة البيان راجعا إلي تفوقه في بلاغة المعاني. ومن العجيب أن بلاغة البيان وبلاغة المعاني قد مكنتاه تلقائيا من بلاغة بديعية رائعة استقت رحيقها مما تدلنا عليه الهندسة نفسها من تقابل الأضداد، وطباق الوجوه، وجناس المكونات، وسجع الآلة، ولف المحركات ونشرها، ذلك أنه وظّف المعاني من أجل التعبير عن نفسها فإذا به يصل إلي نمط جديد من البيان الدقيق المعبر.
أساتذتي الأجلاء:
كانت عبقرية عبد الرازق عبد الفتاح نموذجا لعبقرية المهندس علي ما يجب أن تكون، فبالإضافة إلي كونه مهندسا عظيما فإنه كان من أشد المهندسين عناية بالعلم الأساسي، وكان كذلك من أكثر المهندسين تبشيرا بالتكنولوجيا، بل لعله كان عميد المبشرين بها، وقد كان يتبني التعريف الدقيق للهندسة علي أنها التطبيق الابتكاري لمبادئ العلوم الأساسية (الرياضيات ، الفيزيقا ، الكيمياء)، وكان يلفت نظرنا إلي أن هذا التعريف يعني أن الهندسة تبدأ بفكرة مستندة إلي مبادئ العلم وصولا إلي منتج،و تتضمن التصميم واختيار المواد لإنتاج منتج يؤدي وظيفة معينة، أي أنها تمضي من الفكرة إلي المنتج. وكان يفرق بين الهندسة والهندسة العكسية مع اعترافه بهذه الأخيرة، بل إنه كان مبشرًا بها في سياق تبشيره بالتكنولوجيا، وكان يعرفها علي أنها اختيار سلعة معينة ودراسة أدائها ووظيفتها، ودراسة التصميم والأحمال والمواد المصنوعة منها تلك السلعة، ووضع أسلوب وطريقة التصنيع، أي أنها أسلوب للوصول إلي المنتج من منتج آخر.
وكان رحمه الله ينبهنا إلي حقيقة أن الهندسة العكسية تمثل أسلوبا مختصرا للتنمية، كما كان ينبهنا إلي أن هذا الأسلوب قد يمثل البديل المتاح أمام مجتمعات نامية كمجتمعنا إلي أن يتم رفع القدرة الذاتية لأفراد الكادر الإنتاجي ليتمكن بذاته من توليد تكنولوجيا جديدة بزيادة قدرة أفراده الابتكارية مع توافر ظروف أخري.
ومع هذا فقد كان عبد الرازق عبد الفتاح يؤكد علي الدور الرئيسي الذي يلعبه نظام التعليم في إعداد الإخصائيين اللازمين لأي من المراحل التي تتطلبها الهندسة العكسية، ويحلل عبد الرازق عبد الفتاح خطوات الهندسة العكسية إلي سبع عشرة خطوة، وكأنه يريد أن ينبه مجتمعنا إلي أن التقليد نفسه من الأمور التي تتطلب هندسة وبروتوكولات، وهو لهذا يوصي بالتطبيق التدريجي البطيء لبعض الأجزاء ثم المكونات قبل الدخول إلي المنظومات المتكاملة، كما يوصي بالبدء بتدريب أفراد الكادر الفني، وإتاحة المواصفات القياسية وأسس التصميم والتنفيذ في كل مؤسسات التعليم والإنتاج، ووضع التشريعات التي تحفز اللجوء إلي أسلوب الهندسة العكسية كبديل للتراخيص، وكذلك فك الحزمة التكنولوجية.
**
أساتذتي الأجلاء:
شغل الدكتور عبد الرازق عبد الفتاح منصب رئيس قطاع الدراسات الهندسية في المجلس الأعلي للجامعات، وقد أفاد هذا القطاع من علمه الغزير في وضع ملامح تطوير التعليم الهندسي في الحقبة القادمة، ويصعب عليّ أن ألخص أفكارا عميقة الفهم تقدم بها عالمنا الجليل لصياغة تصورات الجامعات نحو تطوير مناهجها في إعداد مستقبل خريجيها، لكني لا أستطيع أن أتجاهل فكرته الأساسية في الربط بين العلوم الأساسية والهندسة في عصرٍ باتَ بعض أقطابه يتصورون تضاؤل العلاقة بين هذين المجالين من مجالات المعرفة، وربما كان من حسن حظ مصر أن وجد عبدالرازق عبد الفتاح ومَنْ هم علي شاكلته، ومَنْ هم من طبقته ممن آمنوا بضرورة تكثيف الدراسات المتصلة بالعلوم الأساسية في كليات الهندسة، وذلك في مقابل أقطاب مهن أخري تصوروا التضحية بالعلوم الأساسية خطوة في سبيل الحداثة، أو ضرورة من أجل توفير الوقت للإيغال في الدراسات المهنية نفسها.
كان عبد الرازق عبد الفتاح يقول إن المهندس هو القادر علي التطبيق الابتكاري لمبادئ العلوم الأساسية، تصميما وتحليلا وتسبيبا. كما كان دائم التنبيه علي ضرورة العلم للهندسة، وفي هذا المعني كان يقول إنه بالرغم من استمرار أهمية الخبرة والحس المهني فإن الاعتماد الأكبر أصبح يرتكز علي التسبيب المنطقي الذي يغوص في أعماق المادة والعلم، ولا يكتفي بالنظرة الماكروسكوبية، بل إنه تخطاها إلي النظرة الميكروسكوبية حيث دقائق الأشياء من الجسيمات الذرية إلي ما تحت ذلك.
وكان ينبه إلي أن العلم يخبئ الكثير من الاكتشافات التي لم تكتشف بعد والتي يصعب التنبؤ بها للخمسين سنة القادمة، وكان يردف هذا بقوله إنه مع اعتمادنا علي العلم في تحقيق هذه الاكتشافات فإن قدرة المهندس هي المنوط بها تحقيق الابتكارات.
وكان عالمنا الجليل يردف بالقول بأن المكون الأساسي للمهندس هو المعرفة العميقة بالمبادئ والنظريات الأساسية التي أفرزها العلم، ومن هنا يأتي الاهتمام بالعلوم الأساسية في مناهج تعليم المهندسين. ولم يكن عبد الرازق عبد الفتاح يقف عند هذه العموميات، لكنه كان يجيد الحديث في الخصوصيات الدقيقة لهذه العلاقة بين الهندسة وكل علم من العلوم الأساسية علي حدة، وكان يصوغ إدراكه لهذه العلاقات بفلسفة رائعة فيقول:
«فالرياضيات التي تنمي الارتباط المنطقي بين الكميات والمتغيرات، تلعب الدور الرئيسي في التعليل والتحليل والنمذجة والمحاكاة، أي أنها تنمي المهارات المنطقية. والفيزيقا باهتمامها بالطاقة وخواص المواد هي الأساس المهم في تصميم المنظومات والأجهزة، سواء لتحويل الطاقة أو لبناء المعدات. أما الكيمياء وهي التي تعني بتركيب المادة فإن أثرها واضح لعلاقة التركيب بالخواص وسلوك المنظومات، فالتفاعلات تنتج مواد جديدة أو تستخلص طاقة جديدة».
وكان عبد الرازق عبد الفتاح ينبه إلي أن أسلوب المحاضرة التقليدي لا يتواكب مع المقتضيات الجديدة، كما أن اكتظاظ الفصول والمدرجات والمعامل بأعداد كبيرة من الطلاب يمثل بعثرة للجهد وضياعا للوقت، ونتيجته المحتملة تزايد «الإنتروبي» وزيادة الانتقال من النظامية إلي اللانظامية، وإلقاء مزيد من العبء علي التقدم.
**
أساتذتي الأجلاء:
كان أستاذنا في عمادته لكلية الهندسة بالمطرية، وفي وكالته لوزارة التعليم العالي، وفي عضوياته المتعددة في لجان التقييم والتخطيط للتعليم الهندسي وترقيات أساتذته، وبعد هذا كله في رئاسته للجنة القطاع الهندسي، يلفت الأنظار إلي أهمية أن تكون قدرات المهندس ومهاراته عالية قياسا بالمستويات العالمية، وكان يعدد هذه القدرات في استقلال الفكر، وروح المبادأة، والتخيل، والتحليل المنطقي والاستنباط، والاستقراء، وبما يتضمن الرؤي خارج المعارف المتاحة، والتفكير الناقد وصولا للتطوير، والتفكير الابتكاري، وتقبل التغيير للتعايش مع الحاضر بأدواته وأجهزته، والإسهام في إحداث التغير، والاتصال والتعامل مع البشر (كتابة، وشفاهة، وحوارا)، وصنع القرار بدءًا بتجديد المشكلة ووصولا لتجسيد النظريات في شكل سلع وخدمات، وحساب المخاطرة وإدارة الأزمات، وإدارة الزمن، والتعلم المستمر، وإدارة المعلومات.
وكان ينبه إلي أهمية إعداد طالب الهندسة ليصبح قادرا علي تعليم نفسه الاكتشافات العلمية والابتكارات الجديدة، وكان هذا في نظره هو معني متابعة كل تقدم في مجاله حتي يفهم بعمق هذه التطورات، وتنمية قدراته علي التحليل وربط العوامل والمؤشرات التي تؤثر علي موضوع التفكير وشحذ الخيال لوضع فروض أو شروط معينة، ومعرفة تأثير إنتاجيته علي المجتمع والبيئة بحيث يرتبط بكود أخلاقي تجاه مجتمعه بما يضمن سعادته. وكان يقول إن الطالب يجب أن يفهم أن التعلم يعني قدرة الفرد علي عمل الشيء اليوم أحسن من الأمس، وأن لكل حل حلاً أحسن منه.
**
أساتذتي الأجلاء:
كان عبد الرازق عبد الفتاح سبَّاقًا في دعوته إلي تطعيم مناهج التعليم الهندسي بالنزعة الكلية الكفيلة بتنمية روح القدرة علي ربط المنظومات الفرعية بالمنظومات الرئيسية، أو بعبارة أخري النظرة المتكاملة للأشياء، والربط بين الأجزاء، وكان في إيمانه هذا متمايزًا عن النزعة «الجامعية الزائفة» التي دفعتنا إليها المفاهيم البيروقراطية وأمراضُها الاجتماعية حتي انتهت بنا إلي مجتمع الجزر المنعزلة في الكلية الواحدة، في ظل سياسات تمايز التخصصات وتباعد الأقسام. أما عبد الرازق عبد الفتاح فكان ينادي بالعمل علي تداخل التخصصات، وكان يضرب المثل علي أهمية فكرته بوجود أنظمة تحكم إلكترونية في الكثير من المنظومات الميكانيكية.
وكان يقول: «إن تعقد المنظومات وتطور العمل يجعل العمل الفردي غير مجد، لذلك يجب إعداد المهندس للعمل ضمن فريق»، وكان ينطلق من هذا المفهوم إلي دعوته بإعداد المهندس ليكون متساويا مع زميله لا متطابقا معه، وإلي إتاحة أكبر قاعدة ممكنة لاختيار المواد الدراسية ليحقق كل فرد ذاته، وليكون مع زملائه حزمة من الثروة المعرفية يكمل بعضهم بعضا في تكامل وتناغم.
وكان أستاذنا ينبه إلي أن التحديات المستقبلية جديدة وأنه لابد من مواجهتها بفكر جديد وأساليب جديدة تقتضي البعد عن الجمود العقائدي، بل إنه كان في حرصه علي سعة أفق المهندس حريصا علي أن يضمن التعليم الهندسي في شخصية المهندس قدرا كبيرا من الإيمان باحتمال الخطأ وعدم التكبر عن الاعتراف به.
**
وكان ينطلق في فهمه لهندسة الإنتاج من حقيقة أن الفكرة الصواب هي التي تصمد لكل الاختبارات والنقد، لأن العبرة أولا وأخيرا بإنتاج سلعة تصمد للاختبار، وأن البحث العلمي هو أساس كل تقدم. وكان ينادي بأن ترتفع نسبة البحوث في مؤسسات التعليم باستمرار وأن ترتفع نسبة عدد طلاب الدراسات العليا إلي حوالي 30% من العدد الكلي للطلاب.
وكان يلفت النظر مرة بعد أخري إلي ضرورة الاهتمام بتعميق الفهم للعلوم الأساسية وتوسيع مجال الاختيار لمستويات متقدمة في فروع الرياضيات والفيزيقا والكيمياء. وكان يكرر الدعوة إلي الاهتمام بالنظرة «الميكروسكوبية»، وكان في عزفه لهذه الفكرة علي خلاف مع نغمة أخري لا تزال سائدة في عصرنا وهي النغمة الداعية إلي الاهتمام بالكليات والعموميات في المقام الأول والأخير، لكنه كان واعيا بكل كيانه لخطأ التصور السائد، وكان ينبه إلي أن عالم الدقائق يحتوي الكثير من العوامل الحاكمة، سواء في خواص المواد أو تفاعلاتها وسلوكها.
أساتذتي الأجلاء:
علي الرغم من أن عبد الرازق عبد الفتاح كان قد بلغ القمة في القدرة علي ممارسة التعليم بالطرق القديمة التي تمثلها المحاضرة التقليدية، فإنه كان أشد الداعين حماسا إلي المحاضرة التفاعلية والعصف الذهني والحوار والحفز علي التطوير وإيجاد أكثر من حل للمشكلة الواحدة، وكذلك ورش العمل والحفز علي التخيل.
وكان يدعو إلي أن يتضمن التعليم الهندسي تشجيع روح العمل ضمن فريق، وإرساء هذه الروح في كل الخريجين، وكان يري هذه الروح بمثابة عامل مهم للغاية في عصر أصبح حل المشكلة الواحدة يتطلب قدرات أكثر من تخصصٍ، خصوصا للعلوم الأساسية والمواد والتصميم والتحكم والاستشعار.
ولم يكن يتصور وجود حرم الجامعة أو الكلية خاليا من مكتبة متميزة، ومركز للكمبيوتر، ومكتبة لمواده، وأقراص صلبة، وأفلام، وموسيقي، وإمكانات اجتماعية وثقافية كافية.
وكان يدعو إلي الاهتمام بالمقررات الإنسانية، خصوصا بعد اتساع مفهوم القرية العالمية، وإلي إتاحة مناخ الحرية والديمقراطية، وإيجاد المناخ الصحي للبحث العلمي لأعضاء هيئة التدريس: التركيز، والأنساق، والاستمرار، وليمكنهم من حضور المؤتمرات والإسهام فيها، واحترام حرية أعضاء هيئة التدريس وتحقيق مستوي عال من مستوي الحياة لهم . كذلك كان عبد الرازق عبد الفتاح واعيا لأهمية الاعتراف المجتمعي والحكومي بقيمة العلم كمحرك أساسي لتقدم الحياة علي الأرض.
وكان عالمنا الجليل يجيد وصف الأنماط الأساسية للتفكير الهندسي والتفريق بينها، وكان وصفه لخمسة أنماط منها أدق ما يكون، فقد كان يصف التفكير المخلق بأنه صنع شيء جديد من أشياء مختلفة أو تكوين فكرة جديدة من أفكار متباينة، وكان يشير إلي أن من طبع المخلق أن يحب التكامل. وكان يصف التفكير المثالي بأنه تفكير في الأهداف ذو نظرة عريضة عن الموضوعات، وكان يلخص الأسئلة الحاكمة لهذا التفكير في سؤالين يطرحهما أصحابه حيث يقولون إلي ماذا يقودنا هذا ولماذا؟ وكان يصف التفكير العملي بأنه نمط فكري قادر علي استخلاص الحقيقي من الزائف من واقع الخبرة الشخصية لصاحب التفكير، وكان ينبه إلي مزايا هذا التفكير الكامنة في التحرر والتمكن: التحرر من الإصرار، والتمكن من التجريب والابتكار، كما كان يشير إلي أن هذا التفكير يكفل الحصول علي أي شيء يمكن أن يعمل أو ينفع. وكان يصف التفكير المحلل أو التحليلي علي أنه جماع لثلاث خصال متكاملة هي الحرص والمنطق والمنهجية، وكان يمثل لهذا التفكير بقول أصحابه لو أمكننا التقدم بطريقة علمية فإن القرار سيكون رشيدا صالحا للتطبيق مأمون المخاطر. وكان أخيرا يصف التفكير الواقعي ملخِّصًا له في عبارة واحدة يقولها أصحابه وهي أن الحقائق هي الحقائق، وكان يشير إلي اعتماد هذا التفكير علي الإحساس واللمس والشم والرؤية.
**
أساتذتي الأجلاء:
كان عبد الرازق عبد الفتاح من المبشرين بالتكنولوجيا، والوعي التكنولوجي، والتعليم التكنولوجي، وكان يدعو إلي تقييم مستمر لمدي الارتقاء التكنولوجي في المجتمع، وكان يشير إلي قصده من هذا التعبير وهو أن يكون المجتمع قادرا علي التعامل مع التكنولوجيا ـ التي توصف بأنها محرك التنمية ـ بإيجابية وبدرجات متزايدة كمّـًا وكيفـًا، وبحيث يتحول المجتمع تدريجيا من الاقتصار علي استيراد التكنولوجيا إلي الاقتدار علي توليدها بالقدرات الذاتية، مع توليد أكبر قدر من متطلباتها من الموارد المحلية من حيث المعرفة الفنية: تعليما وتدريبا وتطبيقا، والتصميمات الهندسية والقدرة والعمالة والمواد الأولية ومستلزمات الإنتاج والإدارة والتسويق.
ولم يكن أستاذنا يقصر تبشيره بالتكنولوجيا علي قطاع الصناعة، وإنما كان سباقا إلي تنبيه مجتمعه إلي حقيقة أن الزراعة في العصر الحديث قد أصبحت وكأنها صناعة، وإلي أن التقدم التكنولوجي في الزراعة والإنتاج الحيواني لا يقل أهمية عن نظيره في الصناعة، وكان – وهو رجل الهندسة والصناعة – ينبه إلي أن أمريكا وهولندا وأستراليا وهي دول ذات شأن اقتصادي كبير قد أسست اقتصادها علي الزراعة. ولهذا فإنه كان يدعو إلي الإسهام الفعال والتوسع في وضع المواصفات القياسية للمنتجات المصرية زراعية وصناعية، والاهتمام بتأكيد الجودة الشاملة لإتاحة الفرصة لهذه المنتجات المصرية للمنافسة محليا وعالميا.
وكان منتبها إلي دور البحث العلمي والتكنولوجيا في تنمية الصناعات الصغيرة وتطويرها، وكان يدعو إلي أن تتولي مراكز البحوث والمعاهد المتخصصة، بالاشتراك مع رأس المال الخاص والأجنبي، تكوين وحدات إنتاجية في شكل مصانع صغيرة تتوافر لها: الخبرة الفنية، والقدرة علي استيعاب التكنولوجيا العالمية، ونظم جودة متقدمة، ومنتج عالي القيمة. ويمكن لها أن تنشئ علاقة تبادلية وتكاملية مع صناعات صغيرة محتاجة للخبرة الفنية، وكان يلفت النظر إلي نجاح مثل هذه التجربة في الهند وكوريا الجنوبية. وفي هذا الصدد كان ينبه إلي أهمية تشجيع الجامعات ومراكز البحوث علي إنشاء وحدات «حضانات التكنولوجيا»، ومدها بالخبرة البشرية، وإمكانات المعامل والورش والمكتبات، والاختبارات الفنية للمنتج.
ولهذا السبب كان يطالب أيضًا بإصدار تعريف جديد للصناعات الصغيرة، يعتمد علي الفكر الجديد الذي يبني مثل هذا التعريف علي عناصر رأس المال، وعدد العمليات الصناعية، وتكنولوجيا الإنتاج والتبادلية. كما كان يدعو إلي ضرورة الإسراع في إخراج دليل للصناعات الصغيرة يحتوي علي: الموجود منها، وأولويات إنشاء الجديد، وعناصر الخبرة الفنية المطلوبة لها.
أساتذتي الأجلاء:
عرف أستاذنا الفاضل بفهمه الرائد لدور البحث العلمي والتكنولوجيا في إطار سياسة التحرر الاقتصادي، وعلي الرغم مما روجت له الظروف من مفاهيم غريبة عن العلم في السنوات الأخيرة فقد كان عبد الرازق عبد الفتاح يري أن دور الحكومة سابق وجوهري، سواء في دعم المؤسسات البحثية وفي توفير شتي العوامل الأساسية لتحقيق النجاح الاقتصادي، وذلك بحكم ولايتها علي مقدرات البلاد، ومسئوليتها عن تلبية المطالب العامة للمجتمع وحيازتها لمعظم الأدوات والإمكانات التي تتجاوز قدرات الأفراد والجماعات.
وكان يدعو إلي أن يكون البحث والتطوير ركنا أساسيا وفعالا ومستقرا من أركان المؤسسة الإنتاجية، وإذا تعذر علي الوحدة الإنتاجية أن يكون لها جهازها الخاص للبحث العلمي، فيمكن ربطها عضويا بمركز ملائم من مراكز البحوث، يتولي ويتابع هذا الجانب المهم من نشاط الوحدة الإنتاجية، متابعة وبحثا وتطويرا.
كان عبد الرازق عبد الفتاح في فهمه للسياسات والتكنولوجيا الخاصة بالعلم في مصر يؤكد علي ضرورة الانتباه المستمر إلي المؤشرات التنموية، وعلاقة هذه المؤشرات بتعليمنا التكنولوجي وإدارتنا لمؤسسات البحث العلمي والتكنولوجي، وكان علي سبيل المثال ينبه إلي وقوف الدخل القومي للفرد في مصر عند رقم ألف ونصف، بينما هو في إسرائيل ستة عشر ألفا ونصف، وكان ينبه إلي أن نصيب الفرد المصري من الكيلو وات ساعة لايزيد عن ألف، علي حين أن نصيب الإسرائيلي خمسة آلاف. وكان يزعجه علي نحو ما سجل بخط يده في مذكرة استودعها صديق عمره وزميله أستاذنا الدكتور أحمد سالم الصباغ أن تمثل صادرات التكنولوجيا الراقية اثنين وستين في المائة من دخل الفلبين، وهي التي لا تحظي إلا بتسعين مهندسا وعالما (من كل مليون مواطن) في مجال التطوير، علي حين لا تمثل صادرات التكنولوجيا الراقية في مصر إلا تسعة في المائة من الدخل وهي التي تحظي بأربعمائة وثمانية وخمسين مهندسا وعالما في مجال التطوير التكنولوجي. أما الرقم في الولايات المتحدة الأمريكية فيقترب من خمسة آلاف في المليون، أي خمسة في الألف.
وعلي هذا النحو الدقيق كان عبد الرازق عبد الفتاح واعيا تمام الوعي بما أشرنا إليه من قبل من أهمية الاعتراف المجتمعي والحكومي بقيمة العلم كمحرك أساسي لتقدم حياة المواطنين وأفراد الشعب.
**
أساتذتي الأجلاء:
كان عبد الرازق عبد الفتاح من أفضل المخططين العرب لتطور التعليم الفني والتكنولوجي، وله في هذا المجال دراسة عن استراتيجية التعليم الفني في العالم العربي (1972)، ودراسة عن الجامعة التكنولوجية (1975)، وكان منحازًا لفكرتها ويراها ضرورة لتطور المجتمعات، كما أن له دراسة عن التطور الاقتصادي وعلاقته بالتعليم الفني والهندسي..(وقد قدمها لمؤتمر المعلمين العرب الأول: بغداد 1975)، وله أيضًا دراسة عن العلاقة بين التنمية الصناعية والتعليم الهندسي والفني (دمشق 1978)، ودراسة عن السياسة التكنولوجية وقضية الاختيار (1984).
وقد أعد عبد الرازق عبد الفتاح للمجلس القومي للتعليم والبحث العلمي وشعبة التعليم الجامعي والبحث العلمي والتعليم العام، عدة دراسات مهمة كان من بينها «دور العلم والعلماء في صنع القرار» (يناير 1985)، و«دور البحث العلمي في إنتاج الطاقة واستخدامها» (مايو 1985)، و«الارتقاء التكنولوجي وإدارة الموارد»، و«نحو سياسة مستقبلية للتعليم».
أساتذتي الأجلاء:
عُني عالمنا الجليل – عليه رحمة الله – غاية العناية بتحديد دور الإدارة في مؤسسات البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، وكان يقول: «إن تطوير إدارة مؤسسات البحث العلمي والتطوير التكنولوجي في مصر قد أصبح ضرورة بقاء في عالم اليوم، إذا ما أردنا تحقيق مشاركة تفاعلية في السوق العالمية للمعلومات والتكنولوجيا، تستند إلي اقتدار في مؤسسة البحث والتطوير الوطنية».
والشاهد أن أستاذنا كان ينبه إلي أن تحديات العصر، بعد تجريدها وإرجاعها إلي جذورها، هي في واقع الأمر تحديات علمية ـ تكنولوجية وليس أقل أو أكثر من هذا. فالعصر الذي نعيش فيه هو عصر لا يمكن أن تتحقق فيه القوة والاقتدار والمشاركة العالمية والنفاذ إلي الأسواق الخارجية، إلا من خلال الإبداع، وهو عالم لا يعرف سبيلا للإبداع إلا من خلال كفاءة الأداء في البحث العلمي الذي يستشعر توجهات العصر، ويلتقط إشارات السوق العالمية فيستجيب لها، وذلك هو شأن الحياة في القرن الحادي والعشرين.
وكان يشير إلي الميزة التي باتت المجتمعات المتقدمة تفيد منها، وهي ميزة الدفع الذاتي وتواصل الحركة. أما المجتمعات النامية فعليها أن تنشئ قوة فائقة الدفع لتصويب المسارات إلي أقصي مدي، وتدارك الفرص الضائعة، أو إيجاد حركة بدلا من حالة السكون. كل ذلك في اتجاه صاعد يواكب حركة الحياة في العصر الجديد، وكان ينبه إلي أن مثل هذه الخطوات تتطلب تكلفة باهظة في المال والجهد والإرادة والنوايا المعقودة، لكنه طريق حتمي لأن تكلفة التقاعس أو التردد والتأجيل أخطر فداحة بكل المعايير.
ومع هذا فإنه كان يقول: « إنه ليس بالمال وحده يكون الارتقاء واللحاق، ولكنها منظومة الإدارة الشاملة التي تجعل من المال عنصرا من عناصر الارتقاء بالمنظومة الإدارية، وبدونها يكون المال وإن كان في وفرة، ودون عوائد مجزية، مأخذا علي المؤسسة».
وكان ينبه إلي أن التغيير من مسار إلي مسار يلزم أن يكون مصحوبا بمشقات يتم الاعتراف بها وتحملها، لأنه تغيير بمقدار عشرين درجة حينا أو خمسين درجة حينا آخر، وقد يكون بمقدار مائة وثمانين درجة.
**
أساتذتي الأجلاء:
كان عالمنا الجليل حريصا كل الحرص علي التفريق بين مطلب العلم ومطلب التكنولوجيا علي مستوي الفرد الباحث، والمدير والقائد، والقانون، والتمويل الكافي، ولم يكن حريصًا علي هذا التفريق فحسب لكنه كان مجيدًا له قادرًا علي صياغة التعبير عنه بأحكم العبارات.
وقد أسهم مع زملائه في شعبة التعليم العالي والجامعي في المجالس القومية المتخصصة في إعداد مقارنة رائعة بين متطلبات العلم ومتطلبات التكنولوجيا في هذه المستويات. وقد أجادت هذه المقارنة في التعبير عن التمايز بين مطلب العلم وله قيمه وممارساته، وبين مطلب التكنولوجيا ولها قيمها وممارساتها.
كان أستاذنا يقول:
«إن نقطة البداية في العلم هي الفضول، وقد لا تكون نقطة نهاية حتي مع إشباع الفضول، ومن ثم فللعلم قيمة حضارية كبري، ومن مجمله وتراكم نتائجه يكون تراث الإنسانية جمعاء، لذلك قد يكون صحيحا أن ولاء العالم هنا يكون للأسرة البشرية. أما نقطة البداية في التكنولوجيا فهي الحاجة، ولا تكون النهاية إلا مع الوفاء بهذه الحاجة، ومن مجمل وتراكم نتائجه تكون قوة وثروة المجتمع المحلي (في الشركة أو المؤسسة)، ومن ثم فإن الولاء في التكنولوجيين لابد أن يكون للوطن في مقابل ولاء العلماء للإنسانية».
وكان يقول:
«إنه لابد في البحث العلمي من نشر نتائجه ليعلم بها الكافة ولا يصح أخلاقيا حجبها، أما في التكنولوجيا فلا يصح نشر النتائج وذلك بسبب قيمتها التجارية المحتملة، ولهذا يلزم حجبها إلا عن الطرف الذي يعتزم استغلالها، وتفقد النتائج قيمتها إن ذاعت وشاعت، والباحث لذلك يهمه حبسها إلي أن تتم حمايتها وإثبات ملكيته لها قانونا».
وعلي حين أن العلم يعتمد بدرجة كبيرة علي المبادرات الشخصية، وهو لذلك ذاتي التوجه، فإن التكنولوجيا والبحث والتطوير تعتمد بدرجة كبيرة علي الرؤي والمبادرات والقرارات المؤسسية، وهو لذلك موضوعي في المقام الأول.
وعلي حين أن الباحث العلمي لا يرحب عموما بالمشروعات التكليفية، فإن الباحث في التكنولوجيا يرحب بالمشروعات التكليفية لأنها تعتبر اعترافا بقدراته، واحتراما لحرفيته، وطلبا علي عطائه، رغم أنها تمثل قيدا علي حريته الشخصية.
وفي الأعمال الكبيرة في العلم يكون البحث رياديا في فكره ومستواه، أما في مطلب التكنولوجيا في الأعمال الكبيرة تتخذ الاجتهادات (في الفكر والمستوي والأداء) طبيعة الملاحقة التي يقتصر الطموح فيها علي طلب اللحاق بالسابقين في ذات موضوعات سبقهم.
وعلي حين أن العلم لا يتطلب في المعارف المولدة قيمة مادية مباشرة، فإن التكنولوجيا تتطلب هذه القيمة المباشرة، نظرا لأن النتائج المطلوبة تكون في الأغلب معلومة التجسيد سلفا، ولأن قيمتها المادية (التجارية) مؤكدة، فإنها تكون سلعة تعرض فورا في الأسواق أو تورد لطالبها.
أساتذتي الأجلاء:
كان عالمنا الجليل يدرك عن فهم متصل الدور الذي يجب أن تؤديه المؤسسات العلمية والتكنولوچية والتعليمة من أجل مستقبل الوطن.و في إطار فهم عميق لوظيفة مؤسسات البحث واسم التكنولوچيا فإن عبد الرازق عبد الفتاح لم يكن يخفي أنه غير متفائل بالحصيلة الكبيرة من رسائل الدرجات العلمية والبحوث المنشورة التي تحققت في مؤسسة البحث العلمي المصري خلال الأربعين عاما الماضية، وكان يري أن هذا الكم قد أضفي طابعًا غير مطلوب في هذه المؤسسة جعلها تبدو وكأنها خلقت أصلا لتكون «مدرسة للدراسات الجامعية العليا من المستوي الرابع»، أو لأنها تحولت إلي ذلك السبيل الآخر باختيار منها، أو بغير اختيار.
وفي المقابل كان أستاذنا يري ضرورة أن يؤمن الباحث العلمي في مؤسسة التكنولوجيا بضرورة التطلع إلي تضييق فجوة التخلف التكنولوجي، فيكون قراره ـ في إطار المنظومة ـ هو الأخذ بسلوك الملاحقة التكنولوجية التي تستهدف اللحاق بالسابقين، أو علي الأقل الاقتراب الحثيث منهم. وكان يدعو إلي الاهتمام بالاجتهادات في إدخال إضافات أو تطويرات أو تعديلات أو تحسينات محدودة، أو حتي هامشية، علي السلع الحديثة. وكان يقول إن القدرة علي الإضافة، هامشية كانت أو جوهرية، لابد أن تقوم علي السيطرة أولا علي المضاف إليه، الذي هو في سياقنا الحالي: السلعة أو طريقة الإنتاج التي أبدعها الآخرون، وإثبات السيطرة هنا هو الجائزة التي تبعث الأمل صادقا في أن يتواصل الاجتهاد المجدي بتعاظم قيمة الإضافات الواحدة تلو الأخري. وكان يلخص فكرته هذه في قوله: «إن القدرة علي الإضافة هي الجوهر الغالي في أي عمل يبتغي الملاحقة التكنولوجية».
أساتذتي الأجلاء:
كان فقيدنا العظيم عليه رحمة الله واعيا لدور الإدارة في المؤسسات العلمية والجامعية والبحثية، وكان ينبه إلي حقيقة مهمة وهي أنه إذا وجْدنا الرجل الأول مشغولا بالعمل قصير المدي، فهناك شبهة أو احتمال أنه لا يملك فكرا ولا إرادة العمل الاستراتيجي بعيد المدي، ومن ثم فإنه يشغل نفسه بالمسائل اليومية، وقد يستعذب أو يستسهل هذا النوع من المسئولية ويجد فيها سترا وغطاء له، وكان يقول إنه خير للمؤسسة، بل خير للرجل نفسه، أن يختار ليكون رجلا ثانيا من الطراز الأول، بدلا من أن يختار ليكون رجلا أول من الطراز الثاني.
وكان يلفت النظر إلي أهمية أن يكون المسئول عن إدارة مؤسسة البحث العلمي متمرسا في البحث العلمي الذي يقترن بالتطوير التكنولوجي، عارفا بمداخله ومخارجه، وآلامه وآماله، دون أن يكون بالضرورة عالما فذا متميزا وذا عطاء كبير، إذ لا يصح أن يخلع مثل ذلك العالم خلعا من معمله ومن ردائه الأبيض، مثلما لا يصح أن يخلط بين التميز العلمي والكفاءة الإدارية.
وكان ينادي باتباع أسلوب «البحث عن المدير الجديد» من خلال مجموعة عمل خاصة تتجرد من أي انتماءات أو انحيازات أو أحكام مسبقة، وأن تجري عملية «البحث عن المدير الجديد» خلال فترة مناسبة (لا تقل عن ستة شهور) قبل انتهاء خدمة المدير الحالي، وأن يكون ميدان البحث هو الساحة الوطنية بأسرها.
وكان يدعو إلي الوصول إلي درجة من خصخصة الأنشطة التي تديرها مؤسسة البحث والتطوير، بإشراك الأطراف المستفيدة في تمويلها، وربما في بعض ملكيتها وإدارتها وتوجيه سياساتها، بهدف الاستفادة الاستثمارية من النتائج التي يتم التوصل إليها.
وكان يقول:
«إن كثيرا من الخير يمكن أن يتحقق من خلال التوحد، أو الاقتراب الحثيث من التوحد، بين صنع الرؤي والسياسات من جانب، وتحقيق النتائج وتطبيقها من جانب آخر، أي أن يكون صاحب المصلحة هو نفسه مالك المؤسسة أو المشروع».
**
أساتذتي الأجلاء:
أستأذنكم في أن أعود بكم الآن لألخص ما يعرفه بعضكم من قصة هذا الرجل العظيم، مع الحياة ومع العلم، وهي قصة كفاح عصامي لم يتح لغيره أن يصل إليها، وهي قصة بل رواية، بل رواية أجيال تدلنا علي شغف بالحقيقة وبالمعرفة وبالأكاديمية علي نحو غير مسبوق: نال أستاذنا دبلوم مدرسة الفنون والصناعات في الهندسة الميكانيكية (1940)، ومارس العمل به، فكان مهندسا في السكة الحديد لأربعة أعوام، من عام أربعين وحتي عام أربعة وأربعين (1944)، ثم كان من رجال التعليم الصناعي في وزارة المعارف أستاذًا وموجهًا ومصممًا. لكنه قبيل افتتاح جامعة إبراهيم وإتاحتها الفرصة لأمثاله من العاملين ذوي الخبرة أن يلتحقوا بكلية الهندسة الجامعية.. آثر أن يستزيد من العلم فالتحق بتلك الكلية الجديدة في ذلك الوقت، وكان حظه من التفوق فوق ما يتصوره العقل، لكنه أضاف إلي هذا خطوة ثالثة أقدم عليها في فدائية نادرة، حيث سافر إلي الولايات المتحدة الأمريكية علي نفقته الخاصة ليتابع الدراسة الهندسية العليا في كبري جامعاتها فحصل علي درجة الماجستير في الهندسة الميكانيكية من جامعة دترويت عام (1958)، ثم علي درجة الدكتوراه في هذا التخصص من جامعة متشيجان آن آربر عام (1960)، وقد حصل علي هذه الدرجة في سنتين وثلاثة شهور، وهو كما ذكر أستاذنا الدكتور محمود حافظ في استقباله له عضوا في هذا المجمع زمن قياسي للحصول علي الدكتوراه لم يحدث في تاريخ هذه الجامعة حتي الآن. وكان إبَّان دراسته قد لفت إليه أنظار أساتذته لنبوغه وتفوقه، وبعد مناقشته في رسالته للدكتوراه اتصل به معهد العلوم والتكنولوجيا بالجامعة وعهد إليه بالإسهام في إنتاج وحدة تسخين بالقوس الكهربائي لدرجات حرارة تزيد علي أربعة آلاف (4000ْ م) درجة مئوية، وكان هذا إنجازا علميا كبيرا له قيمته التطبيقية في الصناعة، شأنه في ذلك شأن الاختراع الذي توصل إليه ببحوثه الرائدة لتحسين محركات الديزل بواشنطن (1962)، وقد عمل كمهندس بحوث في معهد العلوم والتكنولوجيا بجامعة ميتشجن بأمريكا منذ عام (1960)، وبعد ذلك تابع بحوثه في أثناء مهمة علمية أوفد فيها إلي كلية الطيرانيات بكرانفيلد بانجلترا (1963).
وقد تعددت وظائفه وإنجازاته في كثير من المجالات المتصلة بالهندسة الميكانيكية، كما تعددت إسهاماته العلمية والتأليفية في مجال تخصصه. وقد نَقَل عبد الرازق عبد الفتاح إلي اللغة العربية كتابا عن الديناميكية الحرارية (1968)، وله مؤلَّف قيم عن ترشيد الطاقة (1985)، وراجع عددا من الكتب المترجمة إلي العربية،، منها: التفاضل والتكامل، الحرارة والديناميكا الحرارية الكلاسيكية، تحليل المتجهات، طرق الحسابات للمشتغلين بالصناعة وغيرها، كما قام بالإشراف العلمي والمراجعة علي «المعجم الموحد الشامل للمصطلحات الفنية للهندسة والتكنولوجيا والعلوم» الذي أصدرته مؤسسة الكويت للتقدم العلمي (1986)، وأشرف كذلك إشرافا علميا علي قاموس أصدرته مؤسسة الأهرام للترجمة العلمية والنشر (1987).
**
أساتذتي الأجلاء:
علي الصعيد النقابي مارس عبد الرازق عبد الفـتاح العمل النقابي في مستوياته المتعددة، وانتُخب عضـوا في المجلس الأعلي للنقابة عام (1964)، وأمينًا عامًا للنقابة منذ عام واحد وسبعين وحتي عام خمسة وسبعين (1971 ـ 1975)، ووكيـلا للنقـابة منذ عام خمسـة وسـبعين وحتـي عام تسعة وسبعين (1975 ـ 1979).
وفي المجال المهني الدولي كان عبد الرازق عبد الفتاح عضوا بجمعية المهندسين الميكانيكيين الأمريكية، وبالجمعية الدولية للاحتراق.
وعلي صعيد الجمعيات العلمية الوطنية كان عضوا في جمعية المهندسين المصرية منذ عام (1961)، وكان عضوا في المجمع العلمي المصري، والأكاديمية المصرية للعلوم، وهما أعلي أكاديميتين علميتين، وقد توج هذا كله بعضوية هذا المجمع العظيم منذ عام ثمانية وتسعمائة ألف (1988).
وقد أصبح عضوا في المجالس القومية المتخصصة منذ عام ستة وسبعين وأسهم بجهد وافر في المجلس القومي للتعليم، حيث كان أمينا لشعبة التعليم الجامعي مع زميله وزميلنا المغفور له الدكتور شفيق بلبع، كما كان عضوا في شعبة التعليم الفني، وكان كذلك عضوا في شعبة الصناعة بالمجلس القومي للإنتاج ، وكان كذلك عضوا بمجالس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا ، كما كان علي الدوام عضوًا في لجنة قطاع العلوم الهندسية في المجلس الأعلي للجامعات. وقد رأس لجنة القطاع هذه لفترة من الزمن كانت له فيها إسهاماته الفكرية والتربوية .
وقد نال أستاذنا الجليل من تقدير بلاده مظاهر عديدة، كان أهمها وأعظمها التقدير المتصل الذي لا يعرف حدود الرسميات ، ذلك أن الأعناق كانت تشرئب دوما للنظر إلي منطقه السديد، وفكره الجديد، وتاريخه المجيد. وقد نال جائزة الدولة التقديرية في العلوم (1984)، كما نال جائزة مبارك في العلوم التكنولوجية في العام الثالث من القرن الحادي والعشرين – عام 2003. كما نال وسام الجمهورية من الطبقة الأولي عام 1979، ووسام الاستحقاق من الطبقة الأولي عام 1985.
**
أساتذتي الأجلاء:
في نهاية تأبيني لأستاذنا الجليل أعود لأتذكر معكم بعض ما قدمت به حديثي من أنه رزق فوق الذكاء الحاد وفوق الإدراك الوقاد وفوق العمل الجاد بصيرة العباقرة التي هيأت له محلا رفيعا في الوجدان وفي الأذهان علي حد سواء.
كان عبد الرازق عبد الفتاحِ نموذجا للمهندس الذي امتزجت الهندسة بدمه وبدنه وأعصابه وحركاته وسكناته، حتي ليسهل علي الرائي أن يكتشف مهنته بعد دقائق قليلة من اللقاء به أو الاستماع إليه أو القراءة له.
اجتمعت في شخصيته وفي آثاره أنماط خمسة من التفكير والأداء فكانت تغلب عليه في إنجازاته نزعةُ التفكير الخلاق، إلا أنه كان في أدائه مثاليَّ النزعة، وكان في رياسته عمليَّ الوظيفة، وكان في أحكامه النقدية تحليليَّ التقييم، وكان في رؤيته لوطنه ومؤسساته واقعيَّ التقدير.
كان أقدرَ الناس علي التمييز بين الفعل ورد الفعل، وعلي التمييز بين السبب والنتيجة، وعلي التمييز بين الدافع والمساعد، مع ما يكتنف كل هذه التميزات من صعوبات بالغة، لكنه كان يتوسل إلي هذا كله بما حباه ا# به واختصه به من علم غزير، وخبرة واسعة، وعقلية ناقدة، ونظرة نافذة، وانحياز إلي الحقيقة وشغف بها، وكانت حظوظه من كل هذه الصفات الرفيعة وافرة بفضل ا# الذي حفظها عليه حتي لقي وجه ربه الكريم.
رحمه الله رحمة واسعة وأجزل عطاءه، وغفر له ولنا، وعوضنا عنه، وألهمنا نحن وأسرته وتلاميذه وعارفي فضله الصبر والسلوان.
من كتاب “كيف أصبحوا عظماء”، مؤلفات الدكتور محمد الجوادي، الطبعة ٢ الهئة المصرية العامة للكتاب 2008