أبرز شخصية عربية في المجال الفكري في القرن العشرين
الأستاذ عباس محمود العقاد ١٨٨٩- ١٩٦٤ هو أبرز شخصية عربية في المجال الفكري في القرن العشرين، ومع مضي الزمن تتضاءل القيمة التاريخية للسياسيين، وتزداد القيمة الفكرية لأهل الفكر، ويأتي العقاد علي رأس هؤلاء جميعا. والفارق بينه وبين من يلونه شاسع لأن العقاد وهب نفسه وحياته وجهده وعمره الطويل للفكر والفكر وحده، وقد كان بوسعه أن يلي من المناصب والمسئوليات أعظم ما يتخيل الإنسان أن يصل إليه، لكنه بحكم ثقافته كان يعرف أن هذا كله زائل، وأنه كله معطل له عن أعظم وظيفة وأعظم مكانة.
مكانة رفيعة صنعها بنفسه
احتفظ هذا الرجل لنفسه بمكانة رفيعة صنعها بنفسه وعرقه وجهده دون أن يبرز من علي أكتاف غيره، وقد وصل إلي ما لم يصل إليه غيره من دون أن يقف عند حدود في العطاء أو التجويد أو التجديد، وكان يعرف أن هذه هي طبيعة المعرفة، وكانت نوازعه المعرفية أقوي من أن تحدها ظروف، أية ظروف، أو أن تحددها اتجاهات، أية اتجاهات. وقد أخلص العقاد لفكره ولشعبه ولوطنه ولعقيدته، ويندر أن نجد بين أهل الأدب علي مدي كل العصور مَن أخلص لانتماءاته علي النحو الذي أخلص به العقاد العصامي والعظامي الكبير.
نبغ وتسيد في كل ما مارس من فنون القول والمعرفة
وقد نجح الأستاذ عباس محمود العقاد ونبغ وتسيد في كل ما مارس من فنون القول والمعرفة، فهو الشاعر الذي لا يختلف علي شاعريته أحد من القدامى أو المحدثين، وهو الشاعر المجدد الذي خاض بالشعر مجالات بالقول لم تكن معهودة من قبله، وبلغ به الأمر أن تمكن من صياغة المواقف اليومية في أشعار جميلة عامرة بالفكر والتأمل وبالتصوير المتقن وبالإحساس المرهف، وديوانه «عابر سبيل» نموذج لهذه القدرة الإبداعية الرائعة.
شاعر للطبيعة و شاعرُ للحِكَمة
كذلك كان العقاد شاعرا للطبيعة يجيد تصويرها وحوارها والخروج من هذا الحوار بالمتعة والحكمة معا.
والعقاد بتكوينه الفكري شاعرُ حِكَم من الطراز الأول، فلسف الحياة و وظف الفلسفة في فهم الحياة وفي تصويرها وفي التعبير عن مشكلاتها وموقف الفنان منها.
والعقاد هو شاعر الحب والنسيب، كما أنه شاعر الفكرة اللامعة في المديح والرثاء والمناسبات الاجتماعية والدعوات الإصلاحية.
الفنان الذي ارتفع بفن المقالة إلي آفاق الفكر
الأستاذ عباس محمود العقاد هو الفنان الذي ارتفع بفن المقالة إلي الآفاق التي جعلتنا الآن من الجيل الحاضر نمارس هذا الفن بنفس القدر من السهولة الذي نتعامل به مع أجهزة التليفزيون، وأصدق تعبير عن دور العقاد في فن المقال أنه وطأ هذا الفن لأهل العربية وجعله سهلا نهلا ولم يحدث هذا من فراغ وإنما حدث لأن العقاد ارتقي بفن المقالة من طرز تقليدية وإطارات ضيقة وعبارات مكررة وموضوعات محدودة إلي آفاق الحياة كلها حتي أصبح المقال أداة التعبير الفنية الأولي عند العرب المعاصرين قبل الشعر وقبل الرواية.
وبفضل جهد الأستاذ العقاد في كتابة المقال وتذليل صعوباته وتدريبنا جميعا علي قراءة ما كتب أمكن للأجيال التالية له ومنها جيلنا أن يوظفوا المقال للتعبير عن الفكرة وعن الخبر وعن قصة الخبر وعن التحليل الاجتماعي والاقتصادي والرياضي والفني والسياسي، وقد كان العقاد رائدا في هذا كله.
الفضل الأوفى في فن الترجمة الأدبية
والعقاد هو صاحب الفضل الأوفى علي فن الترجمة الأدبية، وهو الذي قدم لنا دراساته الأدبية الفنية التاريخية التي تناولت عظماء التاريخ، وعظماء التاريخ الإسلامي علي حد سواء، فهو الذي كتب عن محمد ـ صلي الله عليه وسلم ـ وكتب عن الصديق وعمر وخالد والإمام علي وذي النورين، كما كتب عن «جيته» وغيره من أدباء الغرب، وكتب عن سعد زغلول أعظم كتاب متاح في جيله، كما كتب أيضا عن جحا كتابة وافية ومعرّفة به سواء أكان حقيقة أم أسطورة.
وبفضل كتابات العقاد في التراجم قفز هذا الفن إلي الفنون المقدمة في الكتابة الأدبية والتاريخية علي حد سواء، بل مكن لهذه الكتابة أن تأخذ مكانها في الفن العربي بعد هذا في السينما والتليفزيون.
تاريخه ملحمة نادرة التكرار
وتاريخ حياة العقاد يمثل ملحمة نادرة التكرار؛ ولد في أسوان وانتقل إلي القاهرة، وعلي خلاف العادة في جيله فإنه تلقي تعليما مدنيا مبكرا دون أن ينخرط في الأزهر، لكنه مع هذا درس كل ما كان يدرسه الأزهريون.
وجد أن التعليم النظامي سيحد من حبه للمعرفة وشغفه بها
كان في وسع الأستاذ عباس محمود العقاد أن يواصل تعليمه المدرسي سواء علي التعاقب أو بعد فترة، لكنه انجذب بقدرة نفسية مميزة إلي المعرفة، ووجد أن التعليم النظامي سيحد من حبه للمعرفة وشغفه بها وتحصيله لها.
ولهذا السبب ، في المقام الأول، وليس بسبب الفقر أو ضيق ذات اليد ، انصرف العقاد عن التعليم النظامي وشهاداته وبدا له نور الحقيقة الذي هداه إلي مكانته التي كانت تنتظره ليكون بمثابة المعلم الأول في جيله والأجيال التالية.
استقلال الشخصية واستقلال الإرادة
قبل العقاد الوظيفة كبداية لاستقلال الشخصية واستقلال الإرادة، وعندما حقق هذين الهدفين، وأدرك أن الوظيفة ستعوق صعوده في سلم المعرفة آثر التحرر من الوظيفة ، وقرر في نفسه أن يكون هذا التحرر للأبد، وبالفعل فإنه اعتذر عن الوزارة ثلاث مرات ، و رفض كثيرا من الوظائف العليا لا لشيء إلا لأنها وظائف، ومن عروض الوظائف التي رفضها كان ذلك العرض بأن يعين مديرا لدار الكتب برغم كل ما قد نظنه من أن مثل هذه الوظيفة كانت تهيئ له فرصا معرفية أوسع ونفوذا أعرض وقدرة أو حتي علي أقل تقدير علي أن يقرأ ما يشاء وهو في مكتبه المهم في الدار، لكن العقاد كان قد أدرك «بكل ما في الإدراك من عمق» قيمة الوقت الذي يمكن أن يضيع بعضه في أمور روتينية لا تعود علي معرفته أو ثقافته بأي قدر أو قيمة مضافة. وهكذا كان موقف العقاد من رئاسة التحرير أيضًا، فعلي الرغم من أنه كان لفترات طويلة جدا بمثابة المحرر الأول في صحف كثيرة، فإن قوته وقوة قلمه كانت تكفيه وكانت تغنيه عن قبول منصب رئيس التحرير أو التفكير فيه.
ولم يكن العقاد معنيا بأن يكون واضع سياسة هذه الجريدة أو تلك، فقد كانت كلماته نفسها هي السياسة، وكانت شخصيته أقوي بكثير من أي إطار نظري يعبر عن أية سياسة أو استراتيجية.
فضل سعد زغلول باشا
وإذا كان من قواعد التاريخ أن كل زعيم من الزعماء يكتشف كاتبا من الكتاب، فقد كان العقاد من اكتشاف سعد زغلول، ومع أن العقاد لم يكن في حاجة إلي سعد زغلول لاكتشافه إلا أن اكتشاف سعد للعقاد كان من دلائل عظمة سعد وقوة شخصيته ورقي ذوقه وتمكنه من الفكر والحكمة والمعرفة.
وكان الزعيم سعد زغلول يسمي الأستاذ العقاد بالكاتب الجبار ويسمح له بمناقشته والجدل معه، وينهي الذين يحاولون أن يوقفوا العقاد عند أي حدود في الجدل معه.
عاش حياته برأس مرفوع
عاش الأستاذ العقاد حياته برأس مرفوع، وقد دفع ثمن رفع رأسه مقدما ومؤخرا، فقد دخل السجن في الثلاثينيات محكوما عليه بالعيب في الذات الملكية، وكان بإمكان العقاد أن يساوم لكنه بعقيدته من ناحية وبثقافته من ناحية أخري، أدرك أن دخوله للسجن سيضيف إلي رصيده ولن ينقص منه، وهكذا دخل وخرج مرفوع الرأس، وقد ازدادت قامة القاعدة التي يقف عليها فما بالك بقامته هو التي لم تصل إليها قامة أخري معاصرة أو لاحقة.
واختلف العقاد مع زعامة الوفد بعد سنوات من وفاة سعد زغلول، ولم يظلم النحاس نفسه ظلما بينا إلا بابتعاده عن العقاد، وقد كان من سوء حظ النحاس أن ابتعد عن العقاد لا كقلم مؤيد، بل كقلم هادٍ إلي الحق والصواب، ومن حسن الحظ أن وجود حياة ليبرالية تسمح بتعدد الآراء والأحزاب لم يحرم مصر من العقاد وفكره، بل إن العقاد وصل إلي عضوية مجلس النواب وعضوية مجلس الشيوخ وأصبح صوته مسموعا في البرلمان علي نحو ما كان مسموعًا في الحياة العامة والثقافية.
كتاباته السياسية قد ثقفت أمة بأكملها
لست أبالغ إذا قلت إن كتابات العقاد السياسية قد ثقفت أمة بأكملها، ونمت من الوعي السياسي في الأجيال التي تلقت عنه هذه الثقافة، ويكفي أن نذكر أنه استطاع أن يجاهر برأيه في مساوئ النازية والفاشية في الأيام التي شهدت صعود هذين التيارين وانتصارهما، لكن العقاد وحده ودون الآخرين من الكتاب السياسيين كان يبشر بانتصار الديمقراطية وبانتصار الحلفاء في النهاية، وهو ما حدث بالفعل، ولم يكن العقاد يغامر بآرائه، وإنما كان يدرك حقيقة إنسانية وفكرية لا يصل إليها إلا الذين قرأوا التاريخ ودرسوا تفاصيله، ولا يجاهر بها إلا الذين يدركون معني أمانة الكلمة ومسئوليتها ومسئوليتهم عن تبصير قومهم بحقائق الحياة بعيدا عن ضجيج الإعلام وبريق المصالح، ومن حسن حظ مصر أن وجد فيها العقاد في تلك الفترة التي كانت المظاهرات تسير فيها إلي الأمام ترفع شعار «إلي الأمام يا رومل».
تميزت كتاباته بسعة الأفق والقدرة علي استشراف المستقبل
وعلي مدي تاريخ حياته تميزت كتابات العقاد السياسية بسعة الأفق ورحابة التفكير والقدرة علي استشراف المستقبل والاتعاظ من الماضي، وتخلصت إلي أقصي حد (ممكن لبشر من المكافحين بجهدهم وعملهم )من كل شوائب السلوك البشري الذي يضع العواطف الشخصية في الحسبان.
حظي بصداقات عديدة، و بتلاميذ نجباء متفوقين
وقد حظي العقاد بصداقات عديدة، كما حظي بتلاميذ نجباء متفوقين لا يزالون يذكرون فضله ويشيدون بذكره، كما حظي العقاد بعداوات طبيعية ومأجورة أيضا وبخلافات وقتية تحولت إلي معارك، وكان العقاد شرسا في حروبه ومعاركه، ومن حقه أن يكون كذلك لأن معاركه أثرت العقل العربي ثراء غير متوقع، كما أن كتاباته زودت هذا العقل والوجدان بما لم يستطع مصدر آخر أن يزودها.
أسلمت رايات النقد إليه مقاليدها
ويندر أن نجد في تراثنا المعاصر للعقاد موضوعا أو كتابا أو رأيا لم يحظ بتقييم العقاد مدحًا أو قدحا، فقد كان الرجل، وقد أسلمت رايات النقد إليه مقاليدها، يؤدي حقوق أمانة النقد علي قلمه، وهكذا فإنه لم يقصر في حق القارئ في أن يدرك الحقيقة من الزيف، والتجديد من التقليد، والغث من السمين ويكفينا أن نشير إلي نموذج عابر لتعامل العقاد مع الآداب المطبوعة والمنشورة ذكرناه في أحد كتبنا (وهو كتاب: ثلاثية التاريخ والأدب والسياسة)، فقد تلقي من توفيق الحكيم نسخة من كتاب له، وشاهد الكتاب في اليوم التالي معروضا، ولكن بغلاف مختلف أنيق التجليد، وكان هذا الكتاب هو «مسرح المجتمع»، وقد نقد العقاد هذا الكتاب في مقال بعنوان «بين نسختين» وجعل المفارقة البسيطة بمثابة مدخل لما في كتاب الحكيم من مفارقات بني عليها نظرته الفنية في مسرح المجتمع.
وطد دعائم النقد الجديد
والحقيقة أن الإطار النظري للنقد الذي نمارسه اليوم، بل منذ عقود ثمانية، مدين للعقاد بالفضل فهو الذي وطد دعائم النقد الجديد بدءا بكتابه الشهير «الديوان في الأدب والنقد» الذي وضعه مع زميليه المازني وعبد الرحمن شكري، والذي هاجم فيه أمير الشعراء أحمد شوقي وشعره بلا هوادة، وفتح للمتذوقين أبواب التذوق الفني والنقد الأدبي علي مصاريعها وحول النقد من تصحيح أخطاء لغوية، كما كان طه حسين علي سبيل المثال يفعل، إلي شيء آخر يرتبط بالفكر والفن علي حد سواء.
أفضاله في الميادين الخمسة
وبقدر ما تدين حياتنا الأدبية والثقافية للعقاد بفضله في إحياء النقد بقدر ما تدين له بفضله في تطوير الشعر، وبقدر ما تدين له في إعلاء شأن المقال بقدر ما تدين له في الأخذ بأيدي المثقفين إلي كل منارات الفلسفة الحديثة والقديمة علي حد سواء.
تناوله للإسلاميات والشخصيات الإسلامية
أما ميدانه تفوقه الخامس وهو تناوله للإسلاميات والشخصيات الإسلامية، فقد كان بمثابة الباب الوحيد الذي مكّن لهذه الموضوعات من الوجود الحي علي ساحة الفكر في القرن العشرين وما بعده، حيث جدد مفاهيم ومصطلحات ونظريات لم يكن للمسلمين عهد بها علي مدي القرون، وجاء العقاد، وهو من أبرز تلاميذ محمد عبده ليحمل راية التجديد الفكري في فهم الإسلام من دون أن يلوي عنق التشريعات الإسلامية ولا الحقائق التاريخية، ولكنه قدمها بفهم جديد متحرر من الدونية، ومن الشوفونية علي حد سواء. وقد كان العقاد أول من نبه إلي خطورة بعض مفاهيم الإسلام السياسي ضيقة الأفق التي حاولت البزوغ في وجود العقاد نفسه وأضرابه ولكنها لم تفلح في هذا البزوغ إلا بعد رحيلهم عن الحياة العامة والتأثير فيها.
هذا الفصل
نشر هذا الفصل من كتاب ” سلطة النبوغ الخصيب ” : دار الروضة ، 2019 و نشر قبل هذا كمقال في مجلة روز اليوسف في سلسلة عظماء المصريين.