صلاح عبد الصبور عرك الحياة
كان صلاح عبد الصبور عليه رحمة الله من أولئك الذين عركوا الحياة، وعركتهم الحياة، واجه منذ مرحلة مبكرة من حياته مشاعر الحب والحقد، والنصح والتضليل، والإعزاز والتقدير، والاستنكار والتقليل. وجد مَنْ يأخذه بيده، ومَنْ يحاول سحب ما تحت قدمه، وقرأ وقرأ الناس عنه لأقلام تنفخ في بيانه، وقرأوا لأخرى تحاول أن تذهب بكل قيمة للأشكال الفنية الجديدة التي نفخ فيها صلاح عبد الصبور روح الشعر.
عمل صلاح عبد الصبور بالوظيفة
عمل رحمه الله بالوظيفة وهي في الواقع أقسى المواقع على نفسية أمثاله، وفي هذا كله، كان غفر الله له، بحسه الذي وهبه الله، وبشعوره قبل شعره أكثر الناس قدرة على تمييز الصديق من العدو، وأقل الناس قدرة على تمييز الصديق على العدو، وكفاه هذا فخرا على مدى تاريخه الأدبي والفكري.
*
نجاحه الوظيفي لم يعطل مسيرته الابداعية
مضى صلاح عبد الصبور يصعد درجات المجد في تأن، فيأبي عليه معارضوه أن يصعد فلا يكون إباؤه إلا أن يحوّل التأني إلى تفان يضاعف من سرعته من دون أن يضعف قوته. استحال الخلاف عنده إلى نوع من الخلق المتواصل يدفع به الهجمات المتواصلة، ويضيف به إلى ماضيه وحاضره ومستقبله، الذي لايزال إلى الآن مستقبلا، ولعلكم تشاركونني الرأي أن مثل هذا التحول الذي يحيل الخلف إلى خلق لا يظفر به إلا ذوو الخلق الرفيع.
رفعة صلاح حالت دون أقلام من هاجموا مدرسته أن تمس شخصه
وكثير من الذين هاجموا مدرسة الشعر الجديدة كانوا ينهون مقالاتهم بإظهار التقدير والإجلال والاحترام لصلاح عبد الصبور، وخلقه الرفيع، وقدرته الفائقة، وقراءاته الموسوعية، وثقافته العالية، وروحه الوثابة، وعقليته الناضجة، ولم يكن هذا السلوك النقدي الذي يعلي من قدرة الشخص، ويهبط بقدر الفكرة، منسجما في الواقع مع إيقاع روح العصر الذي ظهر فيه صلاح عبد الصبور، تلك الروح التي كانت تصرف النظر عن جلائل الأعمال لتثبت نقائض الأشخاص لتنتهي إلي هدم كثير من القيم والقمم في العصر الذي سبق صلاح عبد الصبور، ولعلنا إذا تأملنا هذا المعني بشيء من التعمق حين نخلو إلي أنفسنا بعد هذا الحفل ندرك إلي أي مدي كانت رفعة صلاح عبد الصبور التي حالت بين الأقلام وبين أن تمسه في شخصه، وهي في سبيلها إلى محاولة هدم آثاره الفكرية، وعلي صعيد آخر إلى أي حد كانت مدرسته الجديدة ثرية بالأفكار التي اتسعت لكل المعارضين أن ينظروا إليها من أحداب وأصواب.
صاحب إيمان مستقر
لم يكن صلاح عبد الصبور ينفعل بشعره وهو يلقيه، وكان هذا مصدر حيرة للناس، ولم يكن ينفعل للنقد الذي يلقاه، وكان هذا مصدر حسرة لشانئيه، ولم يكن يخضع لأعراف الإدارة في تعامله مع موظفيه، وأمورهم، وإني لأذكر أنه كان يوافق لكل مَنْ يطلب السفر، على السفر، وكان مَنْ حوله يريدون منه شيئا من البأس، يضيف إلى رهبته التي كانت ذات شأن بلا شك، مع كل ما أبدى ما أخفى من عواطف وطيبة، ولكن صلاح عبد الصبور كان عنده ذلك الإيمان المستقر أن الذي بيده أمر هذا الكون ليس منا، ولكنه في أعلي عليين، ولعل هذا هو ذاته الدافع الذي كان وراء خلقه إذا أنفق فأنفق عن سخاء، وحين لم يعرف البخل ولا الشح، وحين لم يكن من الأدباء الذين أحسنوا إدارة ماليتهم وتطويعها للمستقبل، ولم يكن صلاح عبد الصبور يخفي أنه يستبعد أن يمتد به الدهر، ولم يكن كذلك متوقعا أن يمضي في ذلك الوقت الذي ذهب فيه، ولكنه كان عنده ذلك الإيمان المستقر أن الذي بيده أمر كل هذا، ليس منه ولكنه في أعلي عليين!
قمته النقدية لا تقل عن قيمته الابداعية
ليس من شأن ما يأتي من كلامي أن يقلل من قيمة صلاح عبد الصبور كأمير لشعراء عصره، وأمير للشعراء الذين يأخذون في شعرهم على نهجه، ولكني مع هذا لا أستطيع أن أغفل عن حضراتكم الآن إنكاري لأن يكون هذا هو محور نظرتنا للرجل العظيم، وهو عندي ناقد كبير، بل ناقد أمير: تميز حس، ونصاعة عبارة، ونضوج فكرة، وإدراك للمغازي، وتقييم للمعاني، وتقدير للبيان، بعد عن الذاتية، إعلاء للمواهب، وفهم لآثار البيئة من دون ارتكان عليها عند التقييم، نظرة لا تقف عند ما أمامها، ولكنها تضع النتاج الفكري لا في السماء أو في الأرض، ولا بين السماء والأرض، ولكن بين النجوم، وهي بين السماء والأرض.
ولا أظن أيها السادة أني أخالف بهذا عن نظرة أساتذتنا جميعا إلى شاعرهم الكبير، ولكني أظن أيها السادة، بل أعتقد أنه سيأتي يوم يكون لنقد صلاح عبد الصبور قيمة هي ضعف قيمته اليوم أضعافا مضاعفة، وقد يكون مرجع ذلك إذا أذنتم لي إلي حقيقة قد تغيب عن أحكامنا، لكنها لا تغيب عن إدراكنا، ذلك أننا قد نعرف أمهر الفنانين بأسهل مما نعرف أعدل القضاة.
من كتاب يرحمهم الله، الطبعة الأولى، دار الأطباء، 1985