الرئيسية / المكتبة الصحفية / بلتاجي : أفضل مؤرخي الشريعة و مفلسفي مذاهبها

بلتاجي : أفضل مؤرخي الشريعة و مفلسفي مذاهبها

سيدي الرئيس ،

سيدي النائب ،

سيدي الأمين ،

أساتذتي الأعضاء ،

ضيوفنا الأجلاء ،

أيها الجمع الكريم ،

جمعتني بأستاذي الراحل تلمذة كان يسميها زمالة، وزمالة كان يسميها أخوة، وصدفة كان يسميها منطقًا، وإعجاب كان يسميه تقديرًا، وعلم كان يسميه رَحِمًا، ولست أنسي أن آخر كلماته علي هذه المنصة كانت تعبيرًا عن هذا الحب كله بتحية صدرت عن قلب كان مفعمًا بالولاء، ونفس كانت عامرة بالصفاء، وروح عاشت محملة بالوفاء، وجوارح ظلت حريصة علي العطاء، وفطرة ظلت محتفظة بالنقاء، وسيرة عطرة ستظل أبد الدهر مثلاً للعلماء الأولياء الأتقياء الأنقياء الشرفاء الأوفياء الأصفياء.

كان أستاذنا رحمه الله شخصية ذات أبعاد مثلي، كانت شخصيته طويلة البال، عريضة الجاه، عميقة العلم، عالية القدر، واسعة الصدر، رفيعة الفكر، بعيدة النظر، كبيرة القلب، رحبة الأفق .

**

أساتذتي الأجلاء:

من المسَلَّمات الخادعة في تاريخنا العلمي أن علوم الشريعة الإسلامية علوم مطلقة الصواب والحق، تتطلب الإحاطة فحسب، وليست الإحاطة بها بالشيء اليسير، فهي بحور لجية لمن توقف في وسط الطريق، وهي محيطات هادية لمن مضي إليها عن علم ومرانة، وقد صُور للباحثين والعلماء المعاصرين من الذين تولَّوْا وظائف الأستاذية في جامعات البلدان الإسلامية أنَّ أقصي ما يمكن لهم أن يصلوا إليه من تجديد في فروع الشريعة هو البحث للأحكام والظروف الطارئة علي ما يقيسون عليه من الأحكام المستقرة. وقد قادت طبيعة مؤسساتنا العلمية والتعليمية المعنية بدراسة الشريعة الإسلامية والبحث فيها إلي التوقف عند حدود العلم بالشريعة نفسه، دون البحث عن فلسفة علم الشريعة، وظل الحال هكذا إلي أن جاء رجل نجتمع اليوم لتكريم اسمه ليرود مجالا جديدا من البحث العلمي في الشريعة الإسلامية بحثا عن منهج العلم، وفلسفة العلم، وتاريخ العلم.

أدرك الدكتور بلتاجي منذ مرحلة مبكرة من عكوفه علي دراسة الشريعة الإسلامية مدي الخصوبة التي تتمتع بها هذه الشريعة مجالاً للبحث العلمي المستفيض والمتجدد مع الأيام، وقد ِشيءَ له أن يبدأ بحوثه بدراسة المنهج التشريعي لواحد من كبار رجال الدولة في تاريخ الإنسانية، فإذا به يلحظ من خلال دراساته المتأنية بعض العوامل التي أثرت في التفكير التشريعي علي مدي قرون تالية، وإذا بفطرته العلمية النقية ونفسه المشرئبة إلي معرفة الحقيقة تقوده من حيث يدري ومن حيث لا يدري إلي أن يكون من أوائل الباحثين في علم جديد من علوم الشريعة، وهو علم يناظر علم الأجنة في الطب الإنساني، ذلك العلم الذي لا يدرس التشريح ولا الأنسجة علي نحوِ ما هي في حال الصحة ولا علي نحوِ ما هي في حال المرض، ولا علي ما هي عليه في بدايات الحياة، ولا في نهايتها، ولا فيما بعدها، وإنما هو يدرس قدرة الخالق في تكوين الأجنة في الأرحام من نطفة فعلقة فمضغة، وكذلك بدأ بلتاجي يفعل في دراسة المذاهب الفقهية الإسلامية التي صاغها أصحابها بعقول بشرية هداها الله إلي كثير من الصواب، لكنه سبحانه وتعالي لم يختصها بما اختص به نبيه عليه الصلاة والسلام من ألا ينطق عن الهوي.

هكذا بدأ عالمنا إسهامه في تاريخ التشريع الإسلامي دارسًا لأجنة المذاهب الفقهية دراسةً أستأذنكم في أن أصفها بألفاظ الطب والعلم فأقول إنها كانت دراسة تشريحية وصفية مقارنة، ودراسة نسيجية تشخيصية ممايزة، وقد عكف علي التراث الفقهي في القرن الثاني الهجري عكوفًا متأنيًا وأخذ يطالعه مطالعة حصيفة من موقف قوة لم يتهيأ لغيره من قبله، بل ربما ساعدته الحضارة والطباعة والمكتبة والببليوجرافيا علي أن يحيط من رؤي المتناظرين والمتعاصرين بما لم يكن هؤلاء المتناظرون والمتعاصرون يلمون به من أحوال بعضهم، وقد هيأ الله له أن يخرج من هذا العكوف بدراسات رائدة كان ينظر فيها من حين لآخر فيجدها ولادة للأفكار، صَّداعة بالحق، دمَّاغة للباطل.

وقد انتبه عالمنا إلي أن القرن الثاني الهجري قد تميز بظواهر بارزة في مجال التشريع والفقه والاستنباط تجعله صالحا ـ إلي أقصي حد ـ ليكون مجالا للدراسة الواصفة للتشريح الجنيني للمناهج الفقهية التي سار عليها أبرز مفكري تاريخ التشريع الإسلامي من فقهاء عصور ما بعد الصحابة، وقد عدّد الدكتور بلتاجي هذه الظواهر في ثلاث وهي: أن العصر كان عصر تدوين، وأنه شهد حياة معظم الأئمة المتبوعين، كما شهد نشأة الكتابات الأصولية المنهجية التي استهدفت تقنين قواعد علمية منظمة لطرق الاستنباط الفقهي الصحيح من النصوص والمصادر.

**

أساتذتي الاجلاء:

كان الدكتور بلتاجي قد بدأ أول بحوثه العلمية بتمحيص مقولة شائعة وهي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يخالف نصوص القرآن والسنّة ويتركها في سبيل ما يراه مصلحة عامة. وقد درس عالمنا فقه عمر بن الخطاب كله دراسة موضوعية، واستخلص خطته التشريعية وأصوله العامة وانتهي إلي أنه رضي الله عنه لم يخالف ـ مرة واحدة ـ نصًّا من القرآن أو السنّة، لكن الاعتبارات التشريعية التي كان يراعيها في تطبيقه للنصوص كانت من العمق بحيث غاب بعضها عن بعض الباحثين فظنوا أنها من باب ترك النص للمصلحة.

وظني أن ما حققه أستاذنا في الوصول إلي هذه النتيجة يمثل إنجازًا كبيرًا علي الرغم مما قد يتراءي للبعض منا من أن البلتاجي جعل راديكالية ابن الخطاب نوعًا من الرجعية أو النصوصية أو الأصولية، ذلك أن البلتاجي نجح في أن يصور إنجاز ابن الخطاب قابلاً للتكرار وللاقتداء والاهتداء بدلاً من أن تستقر صورة اجتهاده ومذهبه التشريعي في راديكالية وقتية تنتهي بنهايته، وتتحدد بحياته، وتنحصر في القضايا التي تناولها في حياته، وكأن البلتاجي كان يستنهض هممنا لأن نفعل مثل ابن الخطاب في فهمه للنصوص بدلاً من أن نقول: وأين نحن من ابن الخطاب الذي عطل النصوص!!

وعلي نحو ما تصدي بلتاجي بالتفنيد للمسلَّمة القائلة بأن عمر بن الخطاب كان يخالف نصوص القرآن والسنّة ويتركها في سبيل ما يراه مصلحة عامة، فإنه تصدي للمسلمة القائلة بأن الإمام الأعظم أبا حنيفة كان يعرض أخبار الآحاد المروية له علي القياس والرأي رافضا منها كل ما يخالف القياس. وفي سبيل تحقيق هذه القضية الخطيرة راجع عالمنا كل ما صحت نسبته إلي أبي حنيفة من فقه ورأي وقول، فلم يجد فيها جميعا مسألة واحدة رفض فيها أبو حنيفة خبرا روي له عن رسول الله ü لمحض القياس والرأي. فكل أخبار الآحاد التي رفضها أبو حنيفة ترجع إلي مقاييسه الأخري. ولم يصح عنه مطلقا أنه رفض خبر آحاد واحدًا لمجرد القياس، بل لقد وُجد عكس ذلك تماما في كثير من مسائله، حيث كان يترك الأقيسة العقلية لما صح لديه من أخبار آحاد، بناء علي تطبيق مقاييسه، وكان يطلق علي هذا اسم «الاستحسان»، بل إنه كان يترك القياس العقلي لما صحّ لديه من أقوال الصحابة.

ويرجع بلتاجي السبب في شيوع هذه المسلمة إلي ما شاع عن الإمام الأعظم من شهرته الكبيرة بالقياس والجدل وقوة مراسه العقلي، بالإضافة إلي رده عددا كبيرا من أخبار الآحاد ـ بناء علي مقاييسه ـ وهو ما هيأ للتعصب المذهبي فرصة نادرة للطعن فيه بحجة أنه كان يستبيح لنفسه ترك أخبار الآحاد لمجرد أقيسته العقلية، مما لم يصح بعد دراسة بلتاجي في أية مسألة مما نسب إلي أبي حنيفة.

بل إن الدكتور بلتاجي يصل إلي حقيقة أخري لا تقل أهمية في فهمه العميق لفقه أبي حنيفة وهي أننا لا نجد في أقوال الإمام الأعظم أو فقهه ما يكشف عن تصوره لفكرة «الإجماع» بوصفه مصدرًا تشريعيًا مستقلا ـ بأبعاده التفصيلية ـ عن باقي المصادر. لكننا نجده، في الوقت ذاته، يأخذ بما تواتر النقل فيه عن النبي ü، وبما اتفق الصحابة علي العمل به في بعض الفروع الفقهية، فإذا تعدينا هذين النطاقين فلن يجد الباحث في فقه أبي حنيفة وآرائه ما يكفي لاستخلاص فكرة تفصيلية واضحة عن «الإجماع»، كما أنه لن يجد أيضا تلك المباحث التفصيلية التي أثارها أصوليو الحنفية عن «الإجماع» بعد عصر أبي حنيفة ونُسبت إلي مذهبه علي وجه العموم.

**

أساتذتي الأجلاء:

من آيات فضل الدكتور بلتاجي أنه كان ينحاز إلي المنهج انحيازًا تامًا، علي الرغم مما نتوقعه من عالم مجيد للسباحة في بحر من أدبيات الفقه وتراثياته، قادر علي استعادة النصوص واسترجاعها وتأويلها، لكن حقيقة الأمر أن انحياز بلتاجي للمنهج جعله أكثر تمسكاً بالنصوص، لكنه تمسُّك مختلف، إنه تمسُّك المنهجي المحيط المستوعب السابر للأغوار، وهو لا يقدس المنهج ولا يعبده، لكنه يحترمه وينحاز إليه، يتلمس عالمنا المنهج ويصوره، لكنه من باب الأمانة لا يُدخل فيه ما ليس فيه، وهو حفيّ بأن يبحث في كل التراث الفكري عن وجود المنهج فإذا ما وجده استبشر به وحلله وقارنه وبيّن أصله وفصله، ومبدأه ومنتهاه، فإذا لم يجد المنهج فيما قلّب من تراث فكري لم يجد حرجًا في أن يصرح بهذا بكل وضوح، وهو يفعل هذا علي سبيل المثال مع المحدّثين الذين كانت علوم الحديث ـ حفظًا وروايةً وجرحًا وتعديلاً ـ أهم ما اشتهروا به من علم، فيقول إن علمهم هذا ـ مع أهميته الكبيرة وقدسية مجاله وموضوعه ـ لا يكشف في ذاته عن منهج تشريعي، بل إنه لا يكشف في معظمه عن جدارة أو استحقاق لوصف (الفقيه) ذاته.

وهو يضرب مثلاً بارزًا بالمحدث العظيم قَتَادة فيقول عنه بعد درس وتمحيص: إنه ليس إلا وعاء أثرٍ محفوظ، ينقُله بأمانة وحرص، ولكن دون أن يحيط بأبعاده الفقهية وما يمكن أن ينشأ عنه من تفريع. فهو مع علمه الكثير ليس فقيهًا، فضلاً عن أن يكون ذا منهج تشريعي مستقل متميز في الاستنباط الفقهي، إنما هو «محدث» و«حافظ أمين للأثر» فحسب.

ويستخرج أستاذنا من تاريخ التشريع الإسلامي أدق ما يدل علي هذا التفريق الذي وصل إليه وهو قصة حوار طريف دار بين اثنين من الأعلام في تاريخ التشريع تدل دلالة واعية علي هذا المعني، فقد كان الأعمش يسأل أبا حنيفة عن مسائل، ويجيبه أبو حنيفة، فيقول الأعمش: من أين لك هذا؟ فيقول: أنت حدثتنا عن إبراهيم، وحدثتنا عن الشعبي بكذا وكذا.. فيقول الأعمش: يا معشر الفقهاء، أنتم الأطباء ونحن الصيادلة.

ومثلما فعل عالمنا مع قتادة ومع الأعمش يفعل كذلك مع أستاذ أبي حنيفة المشهور حماد بن أبي سليمان وهو يتحدث عنه بأنه تلقي فقه إبراهيم النَّخَعي وسابقيه بالكوفة، لكن قدراته قصرت به عن أن يستقل عما تلقاه عنهم بمنهج تشريعي أصيل متميز يُنسب إليه، ويؤيد بلتاجي دعواه هذه بكل ما أمكنه من شواهد.

وتقود دراسات التشريح الجنيني الفقهي عالمنا الجليل إلي الانتباه إلي كثير من الفروق المهمة في مناهج الفكر والتفكير والفقه والتفقه، فيهدينا إلي ما اهتدي إليه بفضل الله من أحكام صائبة ورؤي شائقة، وهو علي سبيل المثال ينبه إلي الفروق بين النزعة الظاهرية التي نشأت عند داود وابن حزم من بعده، وبين النزعة الحرفية التي وجدت قبل ذلك عند بعض الخوارج من الأزارقة والبيهسية والميمونية، وهي النزعة التي أوغلت في الحرفية ورفضت الكثير مما يمكن فهمه عقلاً من النصوص.

كذلك تقوده الدراسات الممايزة إلي إدراك تميز بعض المذاهب ببعض السمات التي تبدو وكأنها بعيدة عن طابع المذهب، وكيف أثرت هذه السمات الممايزة في المذهب ذاته وفي انتشاره أو تسلسله، وهو علي سبيل المثال يروي لنا أن الإمام زيدَ بن علي كان في حياته يري «جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل»، ومن ثم فإنه كان يري جواز إمامة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مع وجود عليّ كرم الله وجهه لأنه الأفضل عندهم. وهو يحدثنا حديث خبير بأثر السياسة علي الفقه في مثل هذا الموقف فيكشف لنا الستار عن أن شيعة الكوفة لما سمعت هذه المقالة من الإمام زيد وعرفوا أنه لا يتبرأ من الشيخين رفضوه. وهكذا رفض الإمامية الاثنا عشرية إمامة زيد حيا وميتا، وأغفلوا ذكر مجموعه الفقهي كأحد مؤلفات الشيعة المبكرة.

ويبين عالمنا عن هذا الأثر الذي طبعته السياسة علي الفقه من خلال دراسة متأنية لنص المجموع الفقهي الذي توصل إلي أسبقيته لكل الكتب والمصنفات الحاوية للمناهج الفقهية، ومع هذه الأسبقية فإنه، عند الشيعة، ظلّ ولا يزال يعاني التجهيل عن عمد بسبب هذا الموقف السياسي الواضح، وهو يجزم بأن موقف الشيعة السياسي من الإمام زيد بن علي ـ علي مر العصور ـ يفسر موقفهم من مجموعه الفقهي.

ومع هذا فإن عالمنا بكل ما جبل عليه من تدقيق ومن حرص علي الإنصاف يسجل أنه لم يجد في كل ما قرأه عنهم أي طعن صريح في صحة نسبة المجموع لزيد إذ أنهم يكتفون منه بموقف التجاهل أو الإهمال أو الإغفال، ومن ثم فإن هذا الموقف منهم يشبه أن يكون اعترافا ضمنيا بصحة هذه النسبة، وهو اعتراف ضمني يحول بينه وبين الإعلان والتصريح موقفُ الشيعة السياسي من الإمام زيد ومحاولةُ إنكارِ إمامته والتصغيرِ من شأنه بصفة عامة.

 

أساتذتي الأجلاء:

قلت إن أستاذنا كان ينحاز إلي المنهج انحيازًا تامًا، وقلت أيضا إنه لم يكن يعبد المنهج ولا يقدسه، وقلت كذلك إنه لم يكن يُدخل فيه ما ليس فيه، وها أنا أصل الآن إلي القول بأنه لم يكن علي استعداد لأن يتجاهل وجود المنهج إذا ما اكتشفه، ووجد مع هذا شكوكا قوية تلقي علي صحة نسبه، وهنا يتجلي لنا ملمح من ملامح عقلية العلماء الأصلاء، فنجد عالمنا شأنه في هذا شأن أطباء وعلماء التشريح معني بما يراه من اكتمال التشريح والوظيفة لا يصرفه عن هذا إنكار نسب، أو تشكيك في أبوة، وهو يفعل هذا بثقة واطمئنان تجاه ما تفرضه نصوص متكاثرة تحاول أن تشكك في نسبة المجموع الفقهي إلي الإمام زيد بن علي، ومع إقراره بعناصر القوة التي قد تتمتع بها هذه الشكوك فإنه لا يتيح لها أن تصرفه ولا أن تصرفنا من بعده عن دراسة المنهج الفقهي في كتاب المجموع،

وهو يقول:

«إننا لو سلمنا بأن أبا خالد هو صاحبُ المجموع وأنه من جهده الشخصي لكنه أراد الترويج له في أوساط الزيدية فَنَحَلَه إمامَهم زيد الشهيد وأحسن في تدبير الأمر حتي تلقوه بالقبول وجعلوه أساس فقههم وأصولهم وحديثهم، فإن المجموع نفسه يظل نتاجا فكريا للقرن الثاني الهجري الذي هو عصر تكوين المناهج الفقهية، وذلك لأن أبا خالد قد مات قبل أكثر من أربعين سنة من نهاية ذلك القرن الذي شهد نشأة هذه المذاهب الفقهية المتعاصُر».

ويقول الدكتور بلتاجي:

«ولم يطعن أحد في صحة نسبة المجموع إلي أبي خالد نفسه، إنما الطعون السابقة في صحة نسبته لزيد بن علي. فليكن إذًا مِنْ صُنع أبي خالد وتأليفه، فإنه يدخل في صميم دراسة مناهج التشريع علي أنه كتاب فقه وحديث من نتاج القرن الثاني يتضمن أصول خطة تشريعية اعتبرت أساس مذهب إسلامي قرونا متتالية وحتي عصرنا هذا».

 

أساتذتي الأجلاء:

كان بلتاجي  يصدر في فهمه للفروق بين المذاهب التشريعية عن عقلية رحبة وأفق واسع لا يتقبل الاختلاف فحسب، ولا يطيقه فحسب، ولا يرحب به فحسب، وإنما هو يعتبر العلم بالاختلاف بمثابة جوهر الفقه في حد ذاته.

وكان أستاذنا يستحضر في هذا ما روي من قصة طويلة حدثت في لقاء الإمامين العظيمين أبي حنيفة النعمان وجعفر الصادق رضي الله عنهما في حضور الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، وما انتهي إليه أبو حنيفة بعد مناظرته للإمام الصادق في أربعين مسألة من قولَه إنه رآه أعلم الناس باختلاف الفقهاء، « فلذلك أحكم أنه أفقه مَنْ رأيت. ألسنا روينا أن أعلمَ الناس أعلُمهُم باختلاف الناس»؟

ومن الجدير بالذكر أن الدكتور بلتاجي نجح في أن ينبهنا من طرف آخر إلي جانب غاية في الذكاء وُفِّق إليه سياسيو الإسلام حين جعلوا علم الفقه من حيث هو علم في مكانة تفوق تحزباتهم، وهكذا فإن ساسة الإسلام المسلمين كانوا واعين لقيمة الاجتهاد في الفروع الفقهية وعيًا لا تتنكر له عداواتهم السياسية الكبيرة، وهو يذكرنا بأن معاوية بن أبي سفيان كان يرسل لعلي كرم الله وجهه مَنْ يستفتيه في بعض مسائل الميراث المشكلَة التي لا يستطيع هو ومَنْ معه أن يجيب عنها، مما حمًّل عليًا كرم الله وجهه علي أن يقول: «لعن الله قوما يرضون بحكمنا (أي باجتهادنا في الفروع) ويستحلون قتالنا».

ولا يقف أستاذنا بلتاجي أمام المسلَّمات السابقة في تاريخ التشريع الإسلامي من دون أن يعيد اكتشاف وجوه الصواب والخطأ فيها، ولعلِّي أضرب علي هذا مثلاً بموقفه من المسلمة القائلة بأن الإمام جعفر الصادق كان يرفض العمل بالقياس، ونحن نجده يقر بهذه الحقيقة لكنه لا يقر بالمسلمة التي ترتبت عليها وسجلها السابقون عليه في تاريخ التشريع الإسلامي من أن الإمام جعفر الصادق كان يرفض اعتبار الاجتهاد ـ بكل طرقه ـ مصدرا تشريعيا؟ يثبت عالمنا قول الإمام جعفر الصادق: «ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة»، وقولَه: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»، وقولَه: «إن الله تعالي أنزل في القرآن تبيان كل شيء، حتي والله ما ترك الله شيئا يحتاج إليه العباد، حتي لا يستطيع عبدٌ يقول: لو كان هذا نزل في القرآن، إلا وقد أنزله الله تعالي فيه».

ولكنه ينتبه إلي أنه يجب أن يُحمل كلام الإمام جعفر الصادق علي محامله الحقيقية، وهي أنه كان يري أن كل ما يحتاج إليه الناس في مجال التشريع قد تضمنته النصوص علي نحو ما، غير أن عقول الفقهاء تدركه أحيانا، وتقصر عن إدراكه أحيانا أخري. ويذهب بلتاجي إلي تنبيهنا إلي أن الإمام الشافعي قد كرر هذا المعني نفسه حين قال بعد ذلك بنصف قرن: فليست تتنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل علي سبيل الهدي فيها.

وهو يذكرنا في هذا السبيل بأن الإمام جعفرًا الصادق كان يقول: إن الحديث يُنسخ كما ينسخ القرآن. وقد بين الإمام الشافعي بعد ذلك ـ وبخاصة في كتابه «اختلاف الحديث» ـ أن بعض اختلاف الرواية في الحديث راجع إلي نسخ بعضه ببعض.

**

وعلي النقيض الظاهر من هذا الجهد الذي بذله أستاذنا حتي نجح في إثبات وتحديد موقف الإمام جعفر الصادق في العمل بمطلق الرأي والاجتهاد يأتي تحريره لموقف الإمام جعفر الصادق من الأخذ بقول الصحابي، وهو يعترف بعجزه عن الوصول إلي حقيقة في هذه الجزئية ويقول: إننا لا نستطيع من كل ما روي عن الصادق وقبلناه أن نستخلص موقفه من «قول الصحابي»، ذلك أن الأمر يحتاج إلي استقراء مواقفه مما رواه من أقوال الصحابة، ولا تتيسر لنا ظروف هذا الاستقراء لضياع معظم فقهه وآرائه الحقيقية.

ومع أن الشيخ محمد أبو زهرة كان يقول بأن الامام الصادق كان يأخذ بقول الصحابي فإن أستاذنا بلتاجي كان يري أن النص الذي استند إليه الأستاذ أبو زهرة في قوله بأن الصادق كان يأخذ بفتوي الصحابي بإطلاق لا يكفي لاستخلاص مثل هذه النتيجة الكبيرة بالنسبة إلي الخبر الذي استند إليه أبو زهرة، وكان يري أن في قول أبي زهرة تحميلاً لهذا الخبر بأكثر مما يمكن أن يحتمل بينما القول بمثل هذه النتيجة يحتاج إلي تتبع واستقراء لا تتهيأ لنا ظروفه.

كأنما كان بلتاجي في هذا الموقف ينظر إلي شريحة تحت الميكروسكوب ويقول إن ما يراه من صورة لخلية من نوع ما لا يكاد يقطع له بصورة النسيج لأن عدسات ميكروسكوبه لا تسعفه بالقول بمثل هذه النتيجة.

وقد عُني أستاذنا عناية شديدة بفقه ابن أبي ليلي وينتبه إلي التفريق بينه وبين أبيه عبد الرحمن بن أبي ليلي الذي ولد في خلافة عمر بن الخطاب، وروي عن جمع كبير من الصحابة، ومع أن مذهب ابن أبي ليلي لا يفرض نفسه كمذهب فقهي ذي نصوص متداولة، إلا أن أستاذنا بلتاجي بحاسة المنهجي المدقق يلمح فيما يراه من آثار ابن أبي ليلي ملامح المنهج التشريعي كاملة، وقد برق له سناها، فيبذل جهده ليجمع صورة فقه ابن أبي ليلي من كتاب لأبي يوسف وراويه محمد بن الحسن الشيباني ومن كتب الشافعي والسرخسي والدبوسي وابن قدامة المقدسي وابن حزم الأندلسي وابن رشد القرطبي.

ولا يزال أستاذنا بلتاجي يدرس المنهج التشريعي عند ابن أبي ليلي حتي يصل إلي القول باطمئنان إلي أن ابن أبي ليلي كان في استخدامه للرأي والاجتهاد، يقف علي قدم المساواة مع أبي حنيفة وأصحابه، ولم يكن الأساس العقلي ـ في كثير من آرائه ـ يقُّل من حيث إمكان قبوله عن وجهة النظر التي بني عليها أبو حنيفة وأصحابه مذهبهم.

**

أساتذتي الأجلاء:

كان أستاذنا بلتاجي يتمتع بأمانة علمية شديدة، وكانت أمانته تدفعه إلي بذل الجهود المضنية والجبارة من أجل الوصول إلي نص أو أصل أو رأي أو سند أو تفسير أو شاهد يهديه إلي سبل السلام في معالجته لما يبحث عنه من حقيقة، وعلي الناحية الأخري كان بلتاجي يُواجه بسيل جرار متدفق من الآثار والكتابات التي توثق مذهبًا شائعًا ومنتشرًا كالمذهب الحنفي، والتي تصور منهج أبي حنيفة في الفقه والتشريع والإفتاء، وكان عليه مع هذا التدفق أن يبذل نوعًا آخر من الجهود المضنية والجبارة في الغوص من أجل استخلاص الحقيقة من مناجم الآراء المتجمعة والمتراكمة علي مر الأزمان، ولم يكن جهده في استقصاء واستخلاص الحقيقة من نصوص متراكمة أقلّ إنهاكًا له من جهده في الغوص في مناجم التراث، بل ربما كان جهده في هذه الناحية أكثر مشقة منه في الناحية الأولي، لكنه والحق يقال نجح في أن يوظف أدواته توظيفًا صائبًا وذكيًا من أجل نيل الأوطار.

وإذا أردنا مثلاً علي شجاعة بلتاجي في مواجهة التراث الذي فرضه فقهاء الحنفية علي مذهب الإمام العظيم فحسبنا أن نذكر أن بلتاجي كان يجاهر برفضه لتخريج السرخسي لرأي أبي حنيفة واستنباطه أن أبا حنيفة كان يري أن القرآن معني فحسب وليس اللفظ العربي جزءا من مدلوله، ويستند عالمنا في ذكاء إلي أن القول بأن القرآن قديم أو محدث ـ كما ورد في استدلال السرخسي ـ نشأ بعد أبي حنيفة وعصره.

كذلك فإن أستاذنا بلتاجي لم يكن يقبل تخريج السرخسي وغيره من فقهاء الحنفية لرأي أبي حنيفة ورأي صاحبيه في قراءة القرآن في الصلاة بغير العربية.

هكذا نستطيع أن ندرك كم كان بلتاجي حقًا محقًا حقًا وهو يقول: «وليس من منهجنا أن نقبل كل ما ينسبه علماء الحنفية إلي أبي حنيفة من تخريجاتهم الخاصة، لأننا لا نقبل من كل ذلك إلا ما تدل عليه أقوال أبي حنيفة نفسه وما يتفق في صياغته وموضوعه مع روح عصره واتجاهه».

وقد وفق أستاذنا بلتاجي بعد دراسة إلي استنتاج حقيقة مهمة وهي أن « فقه الراوي» لم يكن مقياسا مستقلا من مقاييس الإمام أبي حنيفة في قبول أو رفض الأخبار وتأسيس الأحكام عليها.

**

أساتذتي الأجلاء:

أكون مقصرًا في حق مجمعنا إذا أنا لم أنتبه إلي إيمان أستاذنا بمكانة اللغة من الفقه والتشريع، وهو القائل في حفل استقباله في هذا المجمع منذ عام واحد:

«ثبت في يقيني أن العمل علي خدمة هذه اللغة الشريفة عبادةٌ جليلةُ القدر، عظيمةُ الأثر إن شاء الله تعالي في الدنيا والآخرة، ولا عجب فكل شيء عنده بمقدار، ولم يكن اختيار العربية وعاءً للقرآن الكريم عبثًا أو محض مصادفة، وقد كان من أثر هذا أنّ المثقف العربي يفهم اليوم نصوصًا بليغة قيلت منذ ألف وخمسمائة عام كأنها أُبدعت اليوم، حيث يجد القارئ فيها متعة الإبداع، وسحر البيان، ذلك أن التلازم بين العربية والقرآن الكريم خلع ثوب الخلد عليها، وجعل دراسات القرآن الكريم نماذج حاضرة دائمًا في العقل الجمعي العربي، ومثّل ذلك كلُّه أوثق الروابط بين أفراد وجماعات وأقطار الأمة العربية. وفي هذا ما يدل أعظم الدلالة علي خطأ المقولة التي تتردد أحيانًا علي ألسنة بعض دارسي الإسلاميات الذين يبررون عدم إتقانهم العربية بأنه لا يلزمهم ذلك لأنهم إنما يطلبون العلم الشرعي لا اللغوي، وهذه مقولة باطلة يحمل عليها مزيجٌ من الجهل المركب والقعود عن الواجب المحتم. لأن العلم الشرعي الصحيح لا يُنال إلا بالإمامة في اللغة، حيث يئول الدرس الشرعي دائماً إلي نص قرآني معجز، أو نص من السُّنّة الصحيحة التي أوتي صاحبها ü جوامع الكلم. فالفكر الشرعي ينتهي دائماً إلي نص عربيّ مبين، ومن ثم لم يكن عجيبًا أن يكون أول شرطٍ لفقه أحكام التشريع عند أبي إسحاق الشاطبي صاحب «الموافقات والاعتصام» أن يصل الفقيهُ إلي درجة الإمامة في اللغة.

هكذا كان أستاذنا يقول في هذا المجمع منذ عام واحد وكان يردف هذا بالتعبير عن أمنية غالية لست أدري مدي ما كان من حظها علي يديه في عامه الأخير:

«ولعل الأيام المقبلة ـ إن شاء الله ـ تتيح لي أن أكشف في وضوح عن فكرة نبتت في ذهني منذ سنوات مؤداها أن كثيرًا من المشكلات والاختلافات في الأحكام الفقهية الاجتهادية تجد الحل الصحيح لها إذا احتكمنا إلي معطيات العربية ذلك الاحتكام الذي يجمع بين العمق والشمول، وفق الجذور اللغوية فقهًا يرجع أحيانًا إلي الأصول السامية التي نبعت عنها العربية».

**

أساتذتي الأجلاء:

لعلي وصلت بكم إلي حقيقة مهمة في تاريخ هذا الرجل العظيم وتكوينه وهي أن رحابة الفكر الفقهي الإسلامي قد مكنته من أن يكون كما أشرت في أول حديثي شخصية ذات أبعاد مثلي، طويلة البال، عريضة الجاه، عميقة العلم، عالية القدر، واسعة الصدر، رفيعة الفكر، بعيدة النظر، كبيرة القلب، رحبة الأفق.

وإني لأشهد أني لم أر درْعميًّا – علي كثرة الألمعيين فيهم – قد حظي بحب أساتذته وتقديرهم علي نحو ما كان فقيدنا يحظي به، ولا أظن هذا من اكتشافي وحدي، وإنما التاريخ هو الذي يقول ذلك فلم تشهد دار العلوم علي مدي تاريخها كله عميدًا انتخب لهذا المنصب لتسع سنوات سواه، وكان حريًّا أن يُجدد انتخابه لتسع سنوات أخري لولا أنه كان قد أصبح أكبر ممن يُعيَّنون، بل أكبر ممن يُعيِنّون.

أيها الراحل العظيم …

وددت لو أنك كنت مستقبِلي في هذا المجمع، أو لو أني كنت مستقبِلك في هذا المجمع، لكن الله شاء لنا غير هذا، ورزقنا مع هذا بأخَّوة من نوع آخر، فقد دفع بكلينا إلي هذا المجمع جمعٌ من أهل الفضل، وشِيَء لنا أن يحرر ترشيحنا بعبارته الوفية الوافية الراضية الرضية أستاذ مشترك لكلينا هو الأستاذ الدكتور الطاهر مكي، الذي كانت أستاذتيه لكلينا أبرز ما جمع بيننا من نسب. وهكذا ألف شخص أستاذنا بيننا كما ألفَّ تخصصه الأدبي ما بين تخصصَينْا في الشريعة والطب، ولعل هذا هو المعني الذي سبق إليه أبو تمام حين قال:

أو يفترق نسبٌ يؤلفْ بيننا       أدب أقمناه مقام الوالد

أساتذتي الاجلاء:

لست أستطيع أن أختم حديثي من دون أن أكرر بعض ما بدأت به في تصوير علاقتي بالراحل العظيم الذي جمعتني به تلمذة كان يسميها زمالة، وزمالة كان يسميها أخوة، وصدفة كان يسميها منطقًا، وإعجاب كان يسميه تقديرًا، وعلم كان يسميه رحِمًا، ولست أنسي أن آخر كلماته علي هذه المنصة، وقد اختصني بها وشرفني، كانت تعبيرًا عن هذا الحب كله بتحية صدرت عن قلب كان مفعمًا بالولاء، ونفس كانت عامرة بالصفاء، وروح عاشت محملة بالوفاء، وجوارح ظلت حريصة علي العطاء، وفطرة ظلت محتفظة بالنقاء، وسيرة عطرة ستظل أبد الدهر مثلاً للعلماء الأولياء الأتقياء الأنقياء الشرفاء الأوفياء الأصفياء.

رحمه الله رحمة واسعة، وألهمنا جميعا الصبر والسلوان.

من كتاب “كيف أصبحوا عظماء”، مؤلفات الدكتور محمد الجوادي، الطبعة ٢ الهئة المصرية العامة للكتاب 2008  

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com