تكريم مستحق
أخيرا وبعد اكثر من ثلاثين عاماً ارتفع في قلب القاهرة تمثال للشهيد العظيم عبد المنعم رياض 1919- 1969 فخر العسكرية المصرية وسمائها الذي جمع العلم والعمل والبطولة والالتزام والخلق الرفيع و كان مثالا لاستقامة الخلق، وكفاءة المتخصص، وإخلاص العامل، وأمانة المسئول، وتقدير الرؤساء، واحترام المرؤوسين، وسلامة التفكير، وعمق البحث، ودقة الفهم، وكفاءة الأداء .
كان عبد المنعم رياض أستاذا متمكنا، ومعلما قديرا، يقنع لأنه يعلم، ولأنه يعرف كيف يعلم، ولأنه يملك القدرة علي الإقناع، ولأنه كان في عمله أستاذا بالسليقة .
وليس من شك في أنه كان علي رأس قادة الاستراتيجية العسكرية وخبرائها في الشرق الأوسط، ولم يكن هذا بحكم موقعه القيادي في القوات المسلحة العربية فحسب، ولكن قدرة رياض الاستراتيجية هذه قد تكونت نتيجة لثلاثة عوامل تضافرت حتي كونت منه تلك الطاقة رفيعة المستوي والقدر والقدرة .
وأول هذه العوامل هو استعداده ومواهبه الطبيعية وقدراته القيادية ومداركه الواسعة التي وهبها الله إياه، فقد كان عبد المنعم رياض بفطرته علي أعلي درجات الاستعداد والكفاءة للتقبل، والانتفاع بما اكتسب من أخلاق ومعارف . وبالإضافة إلي هذا فقد كانت له ـ رحمه الله ـ خبراته الواسعة الممتدة لأكثر من الأربعين عاما متصلة اتصال الخيط الواحد في صفوف القوات المسلحة مقاتلا وقائدا وأستاذا، وطيلة هذه السنوات كان رياض في المعمعة ويده في النار كما يقولون . أما العامل الثالث فتمثله ثقافة رياض الواسعة والتي لم يتوان يوما ما عن تحصيلها واكتسابها ثم تنميتها وصقلها بكل طريق، حتي تكونت له إلمامات رفيعة المستوى في السياسة والاقتصاد وعلم النفس والاجتماع والتاريخ، بالإضافة إلي اللغات الثلاث التي كان يتقنها، وبالإضافة إلي استيعاب تفصيلات العلوم الطبيعية المتصلة بعمله . ولو أنك بحثت في جيل رياض من العسكريين جميعا ما وجدت من يضاهيه في هذه الناحية ولا من يقترب إليه . وهكذا تضافرت هذه العوامل الثلاثة علي تكوين قدرة استراتيجية عليا له استطاع بها أن يسهم في تنسيق وتوجيه كافة قدرات الدولة العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والمعنوية نحو الهدف الأسمى في تحرير التراب الوطني وتحقيق النصر القومي علي العدو في ظل أسوأ ظروف تحيط بأصحاب هدف .
القادة لا يولدون، ولكنهم يصنعون
كان عبد المنعم رياض لا يفتأ يعبر عن رأيه الأصيل في أن القادة لا يولدون، ولكنهم يصنعون، يصنعهم العلم، والتجربة، والفرصة، والثقة، ولعل هذا هو الأصل في رأيه الذي أبداه عن حرب 1967 حين قال : إنه كان لدينا جيش، ولكن لم تكن لدينا قيادة علي الإطلاق، وماذا يفعل أي جيش إذا فقد رأسه ؟ لقد كان الذين يتولون تقاليد الأمر في قيادتنا يختارون الضباط الذين يدينون لهم بالتبعية، بصرف النظر عن الكفاءة . وكان رياض مع هذا من أشد المؤمنين بضرورة إشراك رجال الصفوف الثانية والثالثة في القرار، وهو خلق عسكري رفيع لا يتأتى لكل القادة أن يخرجوا به إلي حيز التنفيذ .
الواقعية في تحديد هدفه
وكان عبد المنعم رياض يمتاز بالواقعية في تحديد هدفه، ومن المؤكد أنه لم يكن أبدا من هواة التحليق في الخيال، ولا الهيمان مع العواطف والآمال، وفي ذلك أثر عنه قوله :” لا يستخلص تقدير الموقف السليم إلا من الحقيقة، فكل أعمال الحرب .. شأن كل أعمال الحياة، تدور حول اكتشاف ما لا تعرفه من حقائق وما كشفت عنه الحقيقة هو نفس ما يحتويه الواقع “، وبهذا المنطلق كان تخطيط رياض الذي اقترحه لاستراتيجية المعركة مع إسرائيل، وهو التخطيط الذي أقره مؤتمر القمة العربي الثاني في قراره الذي وصف الهدف العربي في المجال العربي بأنه ذو مرحلتين : هدف أولي عاجل : هو تعزيز الدفاع العربي علي وجه يؤمن للدول التي تجري فيها روافد نهر الأردن حرية العمل العربي في الأراضي العربية، وهدف قومي نهائي هو تحرير فلسطين، ولكل من الهدفين أسلوب خاص بحشد الطاقات الميسرة وفقا لخطة تفصيلية .
ومن منطلق الواقعية في تحديد الهدف كانت مساهمة عبد المنعم رياض في صياغة نظريتنا الاستراتيجية بعد حرب (1967)، وهي الاستراتيجية التي فرقت بين معركتين لكل منهما هدفها وأسلوبها : معركة إزالة آثار العدوان ومعركة إعادة الحق المغتصب إلي شعب فلسطين، وحين أدركت إسرائيل مغزي هذه الاستراتيجية الحكيمة عبر قادتها عن ذلك بقولهم إن المخطط العربي يهدف اليوم إلي تصفية الوجود الصهيوني علي مرحلتين، وقد لا يصدق البعض أن مثل هذا القول كان لايزال يصدر عن الغطرسة الصهيونية حتي في أعقاب النصر الساحق الذي تحقق لهم في يونيو 1967 .
قدرات فنية وتقنية ونضج وكفاءة
كانت لعبد المنعم رياض علي المستوي الشخصي قدرات فنية وتقنية علي درجة عالية من النضج والكفاءة، ومن ذلك ما حدث حين أوفد إلي جنيف (1953) علي رأس لجنة لوضع مواصفات تسلم صفقة من المدافع المضادة للطائرات كانت الحكومة المصرية قد تعاقدت عليها في عهد حكومة الوفد (1951) مع مصانع (سبانو سويزا) السويسرية، وحين اجتمع رياض بالموردين ذكر لهم أن الطيران الحديث قد تطور تطورا كبيرا في السنوات الثلاث الأخيرة، وأصبحت وسيلة تغذية هذا النوع من المدافع بالطلقات غير مواكبة للسرعة التي وصلت إليها الطائرات الحديثة ، وأبدي الموردون عدم اقتناع بوجهة نظر رياض، وخاصة أن حلف الأطلنطي كان قد تعاقد معهم علي ذات المدفع، ونشطت المناقشات العلمية الواسعة حول هذه النقطة، واستطاع رياض مع قدر من المثابرة أن يحملهم علي الاقتناع برأيه وبخاصة بعدما استشهد لهم بالحسابات الفنية والدقيقة، وهكذا عدل الجانب الغربي عن رأيه، وشكل لجنة علمية من بين مهندسيه بالاشتراك مع عبد المنعم رياض لتولي أمر تطوير المدفع، وبدأت اللجنة في إجراء تجاربها الإنتاجية الأولي بعدما قطعت شوطا بعيدا، ولكن هذه التجارب أبانت عن فشل التصميم بالنسبة لأحد الأجزاء، واستعصي علي اللجنة حل هذه المشكلة، وعندئذ اقترح رياض أن تستدعي اللجنة أحد أساتذة جامعة القاهرة لدراسة هذه المشكلة وأكد لهم ثقته التامة في قدرة هذا الأستاذ، وذهب الأستاذ المصري فنجح في مهمته وعاد رياض بالتطوير الجديد بالمدفع المضاد للطائرات، وبعدها بعام كامل طلب حلف الأطلنطي أن تجري علي مدافعه التي تعاقد عليها التعديلات نفسها التي أجريت لصفقة الجيش المصري بفضل قدرة رياض الفائقة .
إيمانه بالأهمية القصوى للطيران
كان عبد المنعم رياض يؤمن بالأهمية القصوى للطيران، وكان يقول للذين يحدثهم : «إذا أرادت إسرائيل أن تضرب فبالطيران قبل غيره، وإذا أردنا ضربها فبالطيران، وحرب الطيران هي حرب السرعة الخاطفة، حرب الأيام المعدود علي أصابع اليد الواحدة وبعدها النصر أو الهزيمة» . وكأنما كان رياض يستشرف في هذا ما استطاعت قواتنا المسلحة أن تحققه في حرب الساعات الست في أكتوبر سنة ثلاث وسبعين (1973) بفضل سلاح طيران قوي جيد العدة، فدائي الخطوة قاده قائد ذهبي دخل التاريخ من أوسع أبوابه .
عشقه للعلم
وليس أدل علي تعلق عبد المنعم رياض بالعلم مما فعله في أول العام الدراسي أكتوبر (1966) حيث توجه وهو رئيس أركان حرب القيادة العربية الموحدة إلي عميد كلية تجارة عين شمس فطلب إليه أن يوافق علي قبوله طالبا منتسبا بالسنة الأولي، ودهش العميد لهذا الطلب ولم يقلل من دهشته ما أخبره به شهيدنا من أنه ينوي إعداد رسالة عن (تغير اتجاه المجهود الرئيسي لقوات الهجوم)، وهي رسالة تتطلب المعرفة التامة بعلوم الاقتصاد إلي جانب القدرة والفن الاستراتيجي. وعرض العميد علي الفريق رياض أن يختار له بعض الأساتذة ليعاونه فيما يحتاج إليه من دراسة، ولكنه أبي إلا أن يبدأ بداية منهجية، ولم يكن في وسع العميد إلا أن يجيب طلب الفريق، فلما كان موعد الامتحان ذهب الرجل الثاني في القيادة العربية الموحدة يؤدي الامتحان مع طلبته، ولكن بشائر الحرب سرعان ما ظهرت في الأفق واستدعي رياض لقيادة جبهة الأردن، واندلعت حرب الأيام الستة وانتهت، وظهرت النتيجة تعلن عن نجاح عبد المنعم رياض في المواد التي أدي فيها الامتحان .
كان عبد المنعم رياض من القادة القلائل الذين يتقنون اللغات كأبنائها، ولم يكن ذلك إلا صورة من صور تعطشه إلي المعرفة، وحبه للقدرات العلمية الرفيعة، علي أن الشيء الأروع في هذا الأمر هو أن رياض استطاع أن يتقن ـ بالإضافة إلي الإنجليزية ـ ثلاث لغات أخري في ثلاث سنوات متتالية، تعلم الفرنسية علي يد مدرس خاص (1952) والألمانية (1953) والروسية (1954)، وحين بدأت علاقتنا بالاتحاد السوفيتي تتوثق، فقد كان رياض من الشخصيات المعدودة علي الأصابع التي تتقن الروسية في هذه الفترة المبكرة.
وإذا ذهبنا نحصي الفترات التي قضاها عبد المنعم رياض من خدمته في الدراسة لوجدناها تربو علي تسع سنوات، وهو رقم (خيالي) لضابط قائد مثل رياض لم يقض في خدمته أكثر من واحد وثلاثين عاما، بل إنه قلما يتاح لأعضاء هيئات التدريس في الجامعات أن يمضوا مثل هذا الزمن في مقاعد الدرس، ولا مراء في أن هذه الفترات التي قضاها عبد المنعم رياض في تلقي العلم قد أفادته بالقدر الذي أفادته فيه الخبرة التي هيأها له الله في تسلسل بديع لم يبعد به عن نطاق تخصصه الدقيق في المدفعية المضادة للطائرات. كانت الطرق تتفرع بعبد المنعم رياض طيلة حياته، فيبقي في أكثرها استواء، من حيث لم يكن يعلم ولم يكن من حوله يعلمون أنه سينتهي به قدره إلي هذا القدر الرفيع، الذي لم يكن في الإمكان أرفع منه، لقائد مصري شاءت الدنيا أن يكون لوطنه في وقت، كان السواد يسوده، ولكن النور كان يطل، وعلي يد رياض حينا، وبإنجازه حينا، ثم برياض نفسه، وقد استحال بشهادته إلي نور بقي في فؤاد هذا الجيش الذي أتيح له بعد أربع سنوات أن ينير للأمة كلها عصرا جديدا فيه ضمن ما فيه من العزة والكرامة ورفعة الشأن أقدار مقدورة .
نشأته
ولد الشهيد عبد المنعم محمد رياض عبد الله في الحادي والعشرين من شهر أكتوبر سنة تسع عشرة (1919) في بلدة «سبرباي»، وهي بلدة بالقرب من طنطا ولكنها كانت تتبع مركز المحمودية (بحيرة)، وهي موطن أسرة والدته السيدة عائشة محمد الخولي، وكان والده حين ولد يعمل في السودان . كان الأميرالاي محمد رياض والد الشهيد واحدا من الرعيل الأول للعسكريين المصريين في العصر الحديث، عرف بتفانيه في عمله، وحرصه الشديد علي كرامته الشخصية . وفي سنة ثمان وعشرين (1928) انتقلت الأسرة مع عائلها إلي مقر عمله الجديد في العريش حيث درس في مدرسة العريش الابتدائية، ولم يلبث عبد المنعم رياض أن انتقل مع والده إلي الإسكندرية سنة ثلاثين (1930)، فاستأنف دراسته الابتدائية في مدرسة الرمل حتي حصل علي الابتدائية سنة واحد وثلاثين (1931)، ثم تتابعت الأحداث علي حياة الأسرة، فقد نقل الوالد إلي القاهرة ورقي إلي رتبة القائمقام وأصبح قائدا للأورطة الثانية بيادة، ثم توفي بينما كان الشهيد في بداية دراسته الثانوية بمدرسة الخديو إسماعيل، وبينما كان إخوة رياض لا يزالون جميعا في مراحل التعليم المختلفة، ويحصل عبد المنعم رياض علي البكالوريا من القسم العلمي في الخديو إسماعيل سنة ست وثلاثين (1936) بمجموع يؤهله للالتحاق بكلية الطب، غير أن أن عبد المنعم رياض كان يؤمل الالتحاق بالحربية، ولم تكن والدته تحب له أن يلقي من عناء العسكرية ما لقيه والده، ولكن رياض كان يؤمن بالمثل الداعي إلي خلافة الأب في مهنته، واستعانت الأم بأخيها في إقناع ولدها فلم يزل به حتي أقنعه بدخول قصر العيني، وسدد القسط الأول من مصروفات الكلية، ولكنه لم يكد ينتظم في دراسته حتي طالع إعلانا للكلية الحربية عن مواعيد الكشف الطبي، وذهب فألح علي والدته أن تبارك رغبته في الالتحاق بمصنع الرجال، ولم تكن والدته النيرة في حاجة بعد هذا إلي الإلحاح.
في الكلية الحربية
التحق عبد المنعم رياض بالكلية الحربية في السادس من أكتوبر سنة ست وثلاثين (1936)، بعدما شارك في ثورة الطلبة في سنة خمس وثلاثين (1935) وهو طالب في الخديو إسماعيل، وكان موهوبا في الخطابة واستثارة الحماسة، وكان إذا خطب في طابور الصباح خرجت المدرسة فانضمت إلي مظاهرات الطلبة الهادرة التي كانت تناشد زعماء الأحزاب يومها الاتحاد علي كلمة واحدة من أجل مصلحة البلد ومستقبله وتعرضت صدور هؤلاء الطلاب للرصاص، ووجد الزعماء أن لا مفر من أن يضحوا بخلافاتهم من أجل الهدف الذي ضحي له الشباب بأرواحهم !
وفي الكلية الحربية و بينما كان أحد أساتذته يلقي درسا علي طلبته والطلبة في واد آخر لا يلقون بالا إلي ما يلقيه أستاذهم، رفع عبد المنعم رياض يده، وقام إلي أستاذه في احترام وانضباط يسأله، ولكن الأستاذ لم يطق صبرا ، فأمره بالانصراف إلي مكتبه وانتظاره حتي يعود إليه فيحقق معه، وفي نهاية التحقيق وجه مساعد كبير المعلمين إلي رياض تهمة ارتكاب جناية السؤال والمناقشة والتمرد، واختتم التحقيق بقرار بفصل عبد المنعم رياض من الكلية الحربية، ولكن كبير المعلمين أعاد فتح التحقيق، ثم أمر بحفظ التحقيق !.
ولم يلبث عبد المنعم رياض بعد تخرجه أن التحق بسلاح المدفعية المضادة للطائرات، ولم يكن لهذا السلاح من العمر أكثر من عام، وهكذا أتيح للضابط الشاب أن يكون من الرواد الذين يشقون الطريق، وأن يكون من أوائل المصريين الذين بدأوا يدرسون ويعملون في هذا المجال الذي نمت أهميته يوما بعد يوم حتي أصبح يمثل القوة الرابعة في عصرنا الحاضر .
مع البعثة البريطانية للمدفعية المضادة للطائرات
بدأ عبد المنعم رياض يتلقى العلم العسكري المتخصص علي يدي الكابتن بيكتل رئيس البعثة البريطانية للمدفعية المضادة للطائرات في فرقة عمليات المدفعية بالزمالك، وبعد فترة وجيزة أدرك رياض أن علم «حركة المقذوفات» ـ وهو العلم الأساسي في دراسات المدفعية ـ يحتاج إلي خلفية علمية ورياضية أكثر من تلك التي حصلها في دراساته السابقة، فالتحق في مايو سنة 1938 بالقسم العلمي في المعهد البريطاني بالقاهرة، يستزيد من العلوم ويواكب بها دراساته التخصصية، وظل منتظما في دراساته في هذا المعهد إلي أن أغلق أبوابه مع بداية الحرب العالمية الثانية في أوائل سنة أربعين (1940) .
وكأنما كان عبد المنعم رياض عندما انتهي من دراسته التخصصية في المدفعية المضادة للطائرات، علي موعد مع الحرب العالمية الثانية التي بدأت بالفعل سنة تسع وثلاثين (1939)، وقبيل قيام هذه الحرب كان الآلاي المصري للمدفعية المضادة للطائرات ـ والذي كان عبد المنعم رياض يخدم في البطارية الأولي منه ـ قد انتقل إلي الإسكندرية ليدخل دورة تدريبية ينافسه فيها آلاي إنجليزي مشابه، وكان التدريب يومئذ يتم بالتصويب علي هدف مقطور ، فيما كان الآلاي الإنجليزي عاجزا طيلة شهر كامل عن إصابة الهدف، جاء عبد المنعم رياض وزملاؤه فأصابوا الهدف من أول طلقة ثم أصابوا الهدف ثلاث مرات أخري في الطلقات الثلاث التالية، وهنا عبر قائد الآلاي الإنجليزي لأركان حربه عن دهشته من هذه القدرة الخارقة لهؤلاء المصريين.
ولم تلبث سمعة « الطوبجي المصري» أن ذاعت بين فصائل الجيوش البريطانية المحاربة في الصحراء الغربية، فأخذت القيادة البريطانية تتوسع في تشكيل هذه الآليات المصرية وفي تسليحها وتدريبها حتي إذا حان الحين، وأخذت طائرات الألمان تدك الإسكندرية وما حولها وجد الإنجليز عندهم من تلك الكفاءات المصرية ما رد عنهم غارات جيوش المحور، ودفع شرها عن ميناء الإسكندرية الذي كان يحفل يومئذ بقطع الأسطول البريطاني، وسفن الإمداد والتموين التي لا تنقطع حركتها عن الميناء ، وهكذا استدعي عبد المنعم رياض من موقعه كمدرس للمدفعية المضادة للطائرات في مدرسة المدفعية بالعباسية ليقود إحدى الفصائل الحربية التي تولت الدفاع عن الإسكندرية ومينائها، ثم ليتوجه بأورطته هذه إلي السلوم ، حتي إذا انزاح عن الحلفاء كابوس الحرب عاد رياض إلي موقع الأستاذية في القاهرة (1944) .
أول دفعة تخرجت في كلية أركان الحرب
تخرج عبد المنعم رياض الضابط الشاب الحديث علي رأس أول دفعة تخرجت في كلية كلية أركان الحرب في ديسمبر سنة أربع وأربعين (1944) سابقا بذلك كل زملائه من قادة الثورة وقادة القوات المسلحة المصرية في عهد الثورة وفي سنة خمس وأربعين (1945) اختير عبد المنعم رياض ليدرس في مدرسة فن المدفعية في «لاركيل تاون» بإنجلترا، وهناك أظهر من المهارة ما جعل قائد المدرسة يحدثه عن ارتفاع مستواه العلمي والفني، وانتهزها عبد المنعم رياض فرصة فطلب إلي قائد المدرسة أن يصرح له باختصار الدورة إلي خمسة شهور بدلا من عشرة، فأجابه القائد إلي طلبه، وانتهي رياض من دراسته في الفترة التي حددها لنفسه وتخرج في اليوم العشرين من فبراير سنة ست وأربعين (1946) متخصصا في تعليم المدفعية بنوعيها : مدفعية الميدان، والمدفعية المضادة للطائرات، وذلك بعد أن حصل علي لقب معلم مدفعية من مدرسة المدفعية المضادة للطائرات في جنوب ويلز . واستكمل شهيدنا دراسته بعد ذلك في كلية «دولتس» الأكاديمية بإنجلترا .
في حرب فلسطين و ما بعدها
عمل رياض في القيادة وفي حرب فلسطين وكان بحق بمثابة همزة وصل بين القادة في القاهرة وقيادة الميدان علي أرض فلسطين، وقد شهد له اللواء عمر طنطاوي قائد المدفعية في حرب فلسطين، ولعل هذا يفسر لنا تقدير الدولة لرياض في أعقاب حرب فلسطين، حيث نال نوط الجدارة الذهبي في فبراير (1949) . وعقب ٢٣ يوليو ١٩٥٢عمل في ثلاث وظائف متتالية : قائدا لمدرسة المدفعية المضادة للطائرات فيما بين (1952) ومايو سنة ثلاث وخمسين (1953) ثم قائد للواء الأول المضاد للطائرات بالإسكندرية، فقائدا للدفاع الجوي المضاد للطائرات .
في أول مايو (1953) ترك عبد المنعم رياض قيادة مدرسة المدفعية المضادة للطائرات ليتولى قيادة اللواء الأول المضاد للطائرات بالإسكندرية، وهناك عاش شهيدنا قريبا من أخيه الدكتور محمود رياض الذي كان يعمل في ذلك الوقت أستاذا للإلكترونيات في هندسة الإسكندرية، وقد عاد التقاء الأخوين بالخير علي الوطن، ذلك أن جيشنا كان إلي ذلك الحين ينفق علي تدريب المدفعية المضادة للطائرات كثيرا من الأموال، يشتري بها الطائرات (الهدف) وهي طائرات بلا طيار توجه باللاسلكي من الأرض، وتناور، بينما تلاحقها المدافع بالنيران، لتصيبها، وتسقطها إثباتا للمقدرة، وكان ثمن الطائرة الواحدة من طائرات الهدف هذه في أوائل الخمسينيات يبلغ خمسين ألفا من الجنيهات، فلما اجتمع الشقيقان الدكتور محمود والشهيد عبد المنعم ، تمكنا من وضع تصميم للطائرة يمكن معه تصنيعها محليا بربع تكاليف استيرادها من بريطانيا، وصارت قواتنا المسلحة تصنع هذه الطائرات محليا بعد ذلك !
وفي خلال قيادة رياض للدفاع الجوي المضاد للطائرات، نجح الشهيد في إدخال كثير من التطويرات والتحديثات علي هذا السلاح، كما نجح في إدخال المعدات اللاسلكية الإلكترونية، كما واصل إجراء الدراسات الملاحقة والمواكبة للتطورات الجديدة في صناعة وسائل الدفاع الجوي وهي الدراسات التي بدأها في مدرسة المدفعية، حين كان الحصول علي أجهزة الرادارات يعتبر من رائع الإنجازات، وكانت وحدات الرادار في ذلك الوقت من أخطر الأسرار في الجيوش المحاربة .
حرب ١٩٥٦و ما بعدها
كان عبد المنعم رياض يشغل منصب قائد الدفاع المضاد للطائرات، فلما كانت ضربة الطيران التي بدأت بها حرب ١٩٥٦ أدرك الرجل العسكري بثاقب نظره أن مكانه لم يعد بين جدران مكتبه، فخرج إلي المطارات القريبة يتنقل بينها في سرعة خاطفة، وكان يندفع بضباطه إلي المطارات القريبة من القاهرة والمطارات الواقعة في منطقة القتال لإنقاذ الطائرات الرابضة علي أرض هذه المطارات، وبلغ الأمر برياض وبضباطه في الحرص علي ثروتنا الجوية أنهم كانوا لا ينتظرون حتي يقودوا الطائرة، وإنما كانوا يدفعونها بأيديهم، وفيما كانوا يقومون بهذا كانت صواريخ العدو تأتيهم علي عجل تحاول أن تصيبهم في أيديهم . وفيما بين إبريل (1958) وفبراير سنة تسع وخمسين (1959)، أتيح لشهيدنا أن يقضي دورة تكتيكية متقدمة في الأكاديمية العسكرية العليا بـ «فرونز» بالاتحاد السوفيتي فأتمها بامتياز .
وطيلة الستينيات لم يكن عبد المنعم رياض يكف عن الانتقاد والتنبيه والمراجعة والتبصير، لكن النفوس لم تكن مهيأة لتقبل انتقاده ولا تنبيهه ولا مراجعته ولا تبصيره، ولم يكن من السهل علي رياض أن يخرج من الجيش، ولم يكن من السهل عليهم أن يخرجوه، فرأوا أن من الأنسب لهم وله أن ينقلوه إلي القيادة العربية الموحدة،، وواصل دراسته وعمله فالتحق بكلية الحرب العليا، وفي أثناء دراسته في كلية الحرب العليا حصل علي رتبة الفريق في إبريل (1966) .
قيادة جبهة الأردن في ١٩٦٧
وقبيل حرب 1967 اختارت القيادة لعبد المنعم رياض أن يقود جبهة الأردن، وصدر الأمر له بالتوجه من فوره إلي الأردن ليتولى مهام منصبه في آخر يوم من مايو (1967)، وسرعان ما وصل عبد المنعم رياض إلي الجبهة فاجتمع في البداية بالملك حسين، ثم ذهب إلي قواته فاستعرضها، وإلي خطوطه فنظمها، ولم يمهله القدر أكثر من ذلك، إذ سرعان ما اندلع لهيب الحرب، وأصبح في موضع لا يحسد عليه، فالقوات الإسرائيلية تواجهه من كل جانب، والطائرات تهاجمه، وخاض أكثر من معركة من معارك الصمود كان هدفه فيها تقليل الخسائر إن لم يستطع رد هجوم عدوه، وصمد رياض في ظل الإمكانات المتاحة له حتي استطاع أن يجنب جيوشه التي قادها مذابح كانت واقعة بلا ريب .
ولقد ظلت جماهير الأردن وفلسطين وجنود الجيش يذكرونه و يحتفظون له بصورته في مداخل بيوتهم، حتي استشهد فزاد تعلقهم به، وتقديرهم لسجاياه، وفخرهم بالعمل يوما من الأيام تحت قيادته .
بعد هزيمة ١٩٦٧
ليس من قبيل المبالغة القول بأن رياض قد شارك مشاركة حقيقية وفعالة في اختيار كل قطعة سلاح زود بها جيشنا بعد عام 1967 .
فكرة التوسع في تجنيد حملة المؤهلات العليا
ومما هو جدير بالذكر والتقدير أن عبد المنعم رياض كان صاحب فكرة التوسع في تجنيد حملة المؤهلات العليا، إيمانا منه بالمستوي الذي لا بد أن يكون عليه الجنود الذين سيحاربون بأحدث ما وصل إليه العلم من تكنولوجيا ومن ثم فلا بد أن تكون لهم القدرة علي استيعابها، وقد أثبتت الأيام وحرب أكتوبر بعد نظر شهيدنا العظيم صاحب الأفكار الثاقبة .
الصمود
وعقب نهاية الشهر الأخير من عام النكسة وأتاح الله للمدفعية المضادة للطائرات أن تسقط في اليوم الأول من سنة (1968) ثلاثا من طائرات «الميراج» الإسرائيلية في مياه خليج السويس ويعود سرب الاستطلاع الإسرائيلي الذي خرج أربعا ولم تبق منه إلا طائرة واحدة، وهكذا أثبتت المدفعية المضادة للطائرات أن جو هذا الوطن وهوائه له درع واقية، ، وفي هذين وقبل هذين كان الجندي المصري صاحب الفضل وصاحب ملحمة «رأس العش» و «إيلات» والمعركة الجوية المبكرة في 15 يوليو 1967.
هذا الفصل
نشر هذا الفصل في كتاب سلطة النبوغ و نشر قبل هذا كمقال على هيئة مقال مطول في صحيفة الاهرام في 1999 بناء علي تكليف الصحيفة ، و ذلك بمناسبة إقامة تمثال عبد المنعم رياض في الميدان المسمى باسمه في وسط القاهرة، ومع أن كثيرا من فقرات هذا المقال وردت في ثنايا كتابنا الموسع عن الشهيد ، فإن هذا الفصل المضغوط يمثل نموذجا لكتابة مختصرة الحجم مكثفة المضمون عن هذا البطل العظيم.