يجيد العمل لا الحديث
ما من مصري إلا وشعر بالسعادة البالغة والنشوة العارمة والفرحة الغامرة لفوز الدكتور عاطف صدقي بجائزة مبارك في العلوم الاجتماعية ، فعاطف صدقي واحد من القلائل بل من النوادر الذين تحقق للوطن على أيديهم كثير من الخير واليمن والتقدم والتحديث والتنمية والإصلاح والرقي والازدهار والاستقرار .
و الدكتور عاطف صدقي نموذج بارز متجسد للعلماء الذين يعرفون أقدارهم ويعرفون حقوق الوطن عليهم ، فيحتفظون لأنفسهم بحقوقها من الاحترام الواجب والثقة المتزنة من دون أن يجعلهم هذا يبخلون علي وطنهم أو علي أبنائه بما حباهم الله به من قدوة وقدرة وقوة .
و الدكتور عاطف صدقي واحد من العاملين المخلصين الذين يجيدون العمل ويجيدون الحديث عن عملهم بتجنب الحديث نفسه إلا إذا ما أصبح القول جزءاً مكملا للعمل لا يكتمل الإنجاز بدونه، فهو يحجم عن التصريحات والتبشيرات والإرهاصات والتلميحات والإشارات إلى أن يصبح مشروع القانون كامل النضج فإذا تصريحه يقتصر علي القانون، وإذا شرحه يقتصر علي مذكرته التفسيرية ، وإذا تبشيره يتحول إلي فكرة سائرة علي قدمين، وإلي معتقد لا يلبث شعبه كثيراً حتي يعتنقه ويدافع عن وجوه الصواب فيه.
رجل دولة صبور دؤوب ومتزن
وهو سياسي صبور دؤوب، ولعله أبرز من حولوا الصبر إلي دأب إيجابي، فهو لا يصبر علي المشكلات التي تواجهه منتظراً دور الزمن في حلها ، ولكنه يحيل هذا الصبر إلي دأب يتناول كل جزئية من هذه الجزئيات بالدراسة والحل حتي ينتهي منها فينصرف إلي غيرها من الجزئيات ، وهكذا فإنه في قيادته للإصلاح الاقتصادي كان يتغلب علي الآثار الجانبية وعلي المضاعفات في الوقت الذي كان يتابع فيه العلاج.
ساعدته ثقافته الرفيعة وتمكنه العلمي المتميز وأصوله السامقة علي أن يدرك ما عجز عنه مناظروه ومعاصروه ومنافسوه من أن جوهر الحكمة يكمن في الاستمرار في منهج الإصلاح، حتي لو بدت ظواهر مبكرة لمضاعفات أو آثار جانبية لهذا المنهج.
ولهذا فإن الدكتور عاطف صدقي استثمر ما نماه فيه خلقه وفكره من التعادلية العلمية والفكرية فنأي بنفسه عن أن يكون مبشراً بكل ما يقتنع به، وتحول إلي صورة الحكيم الذي ينصح بالدواء دون أن ينكر آثاره الجانبية المحتملة مهما بدت نسبة حدوثها ضئيلة الاحتمال، بل إنه كان حريصا علي أن يشير ويوصي ويمضي في سبيل إنشاء المؤسسات والإدارات الكفيلة بعلاج الآثار الجانبية لخطط الإصلاح التي أشار بانتهاجها أو قرر الأخذ بها ، وهكذا كانت محصلة إنجازاته أقوي من أن تتأثر بعواصف السياسة وأعاصيرها.
واسع الأفق
وقد تميز الدكتور عاطف صدقي بسعة أفق من طراز نادر مكنته من أن يتجنب ويتحاشى تلوين آرائه وإصلاحاته وقراراته وسياساته بأية نزعة أيدولوجية، علي الرغم من قدرته غير المحدودة علي الأدلجة، ولكن عنايته بثمار استراتيجيته كانت أكبر من أن يبحث لها عن تصفيق سريع هنا أو تشجيع عال هناك .
وقد بلغ من سمو علمه وعقله أنه لم يورط نفسه في اختراع أو تلفيق أو تطوير لما هو مستقر في أدبيات الاقتصاديات العالمية فكان ينفذ خطط الإصلاح علي نحو ما استقرت في الأدبيات العلمية بكل تشريعاتها ونظمها وحوافزها وقيودها، ولم يندفع ولا تورط في وضع « التعديلات » قصيرة النظر عليها من أجل أن يحظى بموافقة قوي صانعة للرأي العام أو مؤثرة علي اتخاذ القرار من أي نوع أو طراز ،
ولم يكن هذا وحده بكاف لتحقيق ما حقق من نجاح لولا أنه في المقابل وفي المواكب قد تغلب علي كل المعارضات المتوقعة لخططه بإنفاذ العلاج علي نحو متدرج، وبالصبر علي الثمار حتي تؤتي أكلها فيكون هذا الإثمار الحقيقي والمبكر في حد ذاته أكبر معين علي إقناع القوي السياسية من شعبة بقبول سياساته وإصلاحاته.
قيادة الفريق
كان الدكتور عاطف صدقي موفقا إلي حد بعيد في اختيار معاونيه ، وقد ساعده علي هذا ثلاثة أمور:
- أولها: أنه لم يعرف عنه فيما قبل وصوله إلي رئاسة الوزارة تكوين طوائف متملقين من حوله ولهذا وفق في تجنب التورط في كثيرين ممن كانت ترشحهم الأضواء للتساقط المبكر علي مائدته.
- وثانيها: أنه لم يكن من أنصار الآراء العمومية في الشخصيات ولا الأفكار سابقة التجهيز عن رجال العمل العام ولايزال هذا الخلق يميزه حتي الآن.
- وثالثها: أنه كان يقدم التفكير في الوظيفة علي التفكير في الشخص، وليس سراً أن بعض اختياراته جاءت نتيجة استيفاء مَنْ اختير لمواصفات محددة سلفا وضعها لمن تحتاجه الوظيفة، بل يمكن القول بأن كل الذين عملوا معه من دون معرفة سابقة جاءوا بهذه الطريقة .
الاختيارات الصائبة
ومع هذا كله فإن عاطف صدقي قد استثمر معلوماته الوظيفية السابقة كلها في الإفادة من كل مَنْ عرفهم في مواقع تتناسب مع مؤهلاتهم وكفايتهم، وبعض وزرائه مروا بالوزارة المهمة مرور النسيم دون أية مشكلة أو بروز مقلق أو استثناء مؤرق، وخرجوا منها علي نحو ما كانوا فيها وما كانوا قبلها وهم من أبعد الناس علي الأضواء والضجيج ، ولكنهم مع هذا أنجزوا ما لم ينجزه أسلافهم ولا خلفاؤهم ، وما كان لهم أن يعملوا وزراء ناجحين ولا أن يقبلوا هذا العمل من أساسه لو لم يكن عاطف صدقي هو رئيس الوزراء .
الخطط والتصورات والحلول
ولعل أحد الأمثلة الناجحة في تقييم جوهر شخصية عاطف صدقي وإدراك سموها يكمن في تأمل علاقته بالأرقام، فهو يحترم الأرقام ويعول عليها كأداة لوضع الخطط والتصورات والحلول ومجابهة المشكلات والطموحات، ولم يكن يعول عليها لإظهار قدرته الظاهرية علي الاستيعاب، ولا لإظهار قدرته علي المزايدة علي أحلام الجماهير واستخدام الأرقام بتعسف يفوق طاقاتها علي التحمل..
كأني أريد أن أقول إن الدكتور عاطف صدقي كان يوظف الأرقام لما خلقت له ولم يكن يوظفها في الفخر أو الخداع، ومن ناحية أخري فإنه ظل معنيا بالأرقام المهمة ذات المعني ، التي يترتب علي معرفتها والإلمام بها التحول الهادئ إلي مسار أكثر صوابا، ولم يكن معنيا بالأرقام الكثيرة المملة التي تبدو وكأنها تنفي تهمة التقصير أو مغبة الجهل.
وفي اختصار شديد فإن الدكتور عاطف صدقي كان يشركنا في الاستمتاع بلغة الأرقام، ولم يكن كغيره يخدعنا بها أو يمن علينا بمعرفته بها.
تقبل النقد
وقد جمع الدكتور عاطف صدقي إلي تفوقه الأكاديمي ونجاحه السياسي رحابة صدر لا حدود لها ، فكان أكثر الناس ترحيبا بالنقد وتقبلا له ، ولم تدفعه اقتناعاته إلي التقليل من شأن منتقديه، بل كان يتلمس لهم العذر لأنه كان يعرف ما لا يعرفون ، ويدرك ما لا يدركون ، ويملك ما لا يملكون، ويُسأل عما لا يسألون عنه ، وكانت رحابة صدره خلقا طبيعيا ذاتيا كالتنفس يمارسه دون ادعاء ودون انتظار للحصول علي الثناء عليه .
وهكذا فإنه لم يفاخر أبدا بسعة صدره ولا برحابة فكره، كما أنه لم يفاخر برجاحة عقله أو صواب منطقه، وظلت ثقته في نفسه تعبر عن نفسها يوما بعد يوم بالصورة الأبلج و الأبلغ من التعبير، وهي أن تكون الثقة في النفس حقيقة وطبيعة ، وخلقاً ، وسمة وملمحا دون حاجة إلي إثبات أو برهنة أو دليل أو طنطنة أو شقشقة أو سفسطة.
التواضع
وقد تميز عاطف صدقي طيلة مسيرة حياته بالتواضع، وكان تواضعه يزداد كلما ارتفع مقامه، وارتفعت درجته، كما كان تواضعه صادقاً ومحببا إلي النفس لأنه ظل علي الدوام خاليا من الاصطناع متجرداً عن القصد، فهو متواضع لأنه يحب التواضع ويعيشه، لا لأنه يحب أو يتمني أن يقال عنه متواضع، أو ليتغلب بهذا التواضع علي رغبات دفينة بالتعاظم أو التسلط.
حبه للخير أبرز صفاته
أما صفاته البارزة التي لم تختف عن الناس بحقيقتها الكاملة فثلاث: حبه للخير، واحترامه للغير، وذاكرة فولاذية ، فأما حبه للخير فكان لا حدود له ، ولم يقف في طريق إنسان كائنا من كان ما دامت رغبته مشروعة أو ما كانت حاجته قائمة، ولم يتعسف في تفسير أي نص قانوني من أجل الحد من مصالح مرؤوسيه أو مواطنيه، بل كان علي النقيض أميل لخدمة أكبر عدد ممكن من الشعب مادام هذا ممكنا أو جائزا أو محتملا ، وكان يستعين بسلطته التنفيذية والأبوية علي توفير التمويل حين يكون التوسع في منح المزايا مكلفا.
احترامه للغير
أما احترامه للغير فقد لا يتبدى إلا إذا تأملنا بعمق وتعمق علاقته بأقرانه ونظرائه ومعاصريه من الساسة والعلماء والأكاديميين به، وهي علاقة حسنة في مجموعها جميعا، ولكن الفضل في هذا الحسن يعود إليه بأكثر ما يعود إلي أقرانه ، ويكفي أنه يحظى بقبول فائق في رئاسته المستمرة للجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع ، وفي رئاسته للجنة قطاع الدراسات الاقتصادية في المجلس الأعلى للجامعات، وفي غير هذا من مواقع العلم والتعليم والبحث.
ذاكرته الفولاذية
وأما ذاكرته الفولاذية فمدهشة لمن يعرفونه ويحاورونه، وهي ذاكرة قادرة علي الانتقاء لأنها لا تنشغل بتوافه الأمور، ولا بمثالب البشر، ولكنها تنبه إلي ما في شخوصهم من مزايا، وما في جواهرهم من فائدة ، وما في إنجازاتهم من قيمة ، وهو قادر علي أن يثني علي مَنْ يبدو مجهولا تماماً بموقف مشرف وقفه ذات يوم ثم نسيه التاريخ، كما أنه في الوقت ذاته قادر علي أن يجد في أولئك الذين يعرفون على أنهم إخوان الشيطان بعض ملامح المهارة التي لابد من استثمارها لمصلحة المجتمع المصري المعاصر.
هذا الفصل
نشر هذا الفصل من كتاب ” سلطة النبوغ الخصيب ” : دار الروضة ، 2019 و نشر قبل هذا كمقال على هيئة مقال مطول في جريدة الأخبار تحت عنوان الدكتور عاطف صدقي والجائزة الكبرى بمناسبة حصوله علي أعلى الجوائز المصرية ، جائزة مبارك للعلوم الاجتماعية ‘ التي تسمى الآن جائزة النيل.