في هدوء شديد رحل عن عالمنا واحد من أعظم وزراء الاقتصاد المصريين الذين عملوا في هدوء وتواضع ومارسوا المسئولية بأمانة وثقة وتقدير لروح المسئولية.
نشأة سوية وتدرج في العلم والمناصب
كان الدكتور يسري مصطفي واحدًا من أبرز هؤلاء إن لم يكن أكثرهم على الإطلاق استحقاقًا لهذا الوصف، فقد عمل وزيرًا للاقتصاد قرابة سبع سنوات نوفمبر 1986 ـ أكتوبر 1993 ظل فيها بعيدًا تمامًا عن الأضواء وعن التصريحات الوردية وعن الأخطاء الضخمة التي مارسها كثير ممن تولوا وظيفته. وقد ساعدته مقوماته الشخصية وأخلاقه الراقية الأمينة على النجاح منقطع النظير، كما ساعده على هذا إيمان عميق بالله وبالوطن وبالعلم وبالأداء، وكان في سلوكه الشخصي أقرب إلى السلف الصالح تمسكا تامًا بأهداب الفضيلة وبأخلاق المدينة الفاضلة من عدل وأمانة ونزاهة ودقة وبعد عن الهوى.
نشأ نشأة سوية وعاش حياة سوية وتدرج في العلم والمناصب فكان في كل درجة أرفع يرتفع بسلوكه وأدائه ويلزم نفسه الجادة دون أن يبحث عن تقدير أو تصفيق.
ولهذا كله حفر لنفسه في التاريخ الاقتصادي المصري مكانة لم يستطع أحد من أسلافه ولا من خلفائه أن يصل إليها على الرغم أنه أقلهم جميعًا شهرة، وعلى الرغم من أنه كان أقلهم إفادة من موقعه، وعلى الرغم من أنه قضي حياته الوزارية ولم يحس أحد من الجماهير ولا من الصفوة أنه قد اعتلي الكرسي أو استغل السلطة أو مارس الحكم أو استمتع بالوجاهة.
توليه وزارة الاقتصاد
كان يسري مصطفي حقوقيا متميزًا تمكن من أن يمارس الوظيفة والعلم في طريقين متوازيين، وقد وصل في الوظيفة إلي أقصي ما كان يمكن لمثله أن يصل إليه حيث أصبح نائبًا لرئيس الجهاز المركزي للمحاسبات في سن مبكرة نسبيا كما أتم في الوقت ذاته دراساته العليا وحصل في مرحلة مبكرة على درجة الدكتوراه في المالية العامة والاقتصاد من كلية الحقوق.
وكان يسري مصطفي واحدًا من أبرز الذين اختارهم الدكتور عاطف صدقي ليشاركوه المسئولية الوزارية، وقد عمل وزيرا للاقتصاد والتجارة الخارجية طيلة فترة وزارتي الدكتور عاطف صدقي الأولي والثانية، فأسهم مساهمة فاعلة في إعداد وتطبيق وتنفيذ ومتابعة برامج الإصلاح الاقتصادي، ووظف معارفه القانونية والاقتصادية، وخبراته الحكومية والإدارية، والرقابية في وضع وتعديل التشريعات الاقتصادية المميزة التي تمكنت مصر بها من أن تقود عملية الإصلاح الاقتصادي في أناة ونجاح، حتي جاء بعض خلفائه من بعده فعبث بغير رحمة بالإنجاز الكبير الذي حققته فترة عاطف صدقي التي حافظت علي سعر الصرف وعلي استقرار الموازنة العامة للدولة وعلي انضباط ميزان المدفوعات.
وعلي الرغم من بعده عن الرطانة الأكاديمية وعزوفه عن اللمعان الحكومي والوزاري وانصرافه عن حضور المؤتمرات وتدشين الحفلات وافتتاح المؤسسات ورئاسة الندوات فإنه قدم لوطنه عملاً كبيرًا لا يزال ما تبقي منه لحسن الحظ كبيرًا، وكبيرًا جدًا، وهذا هو شأن كل إصلاح حقيقي يتفرغ له أصحابه، ويبدعون فيه من أجل وطنهم ويتقنون أداءه بما ينعكس بالإيجاب على اقتصاد الوطن ورخاء المواطنين.
استقرار الاقتصاد في عهده
في عهد يسري مصطفي وبمعونة رئيس الوزراء العظيم الدكتور عاطف صدقي وضعت التشريعات الذكية لسوق المال ولتحرير أسعار الصرف ولضبط أداء البنك المركزي والبنوك العامة في مصر، وتأسست الإدارة التنفيذية التي تولت إنفاذ هذه التشريعات علي نحو كفيل بتحقيق طفرة هادئة في النظام الاقتصادي المختلط أو المضطرب الذي شاءت ظروفنا التاريخية أن نأخذ به مازجين مرة بعد أخرى بين مذاهب اقتصادية متنافرة، وعاشت مصر السنوات التي تولى أمور اقتصادها فيها هذا الرجل العظيم في استقرار مالي ونقدي لم تنعم به من قبل ولا من بعد طيلة السنوات الخمسين من عهد الثورة.. ومع أن سياسة الحكومة التي كان يسري مصطفي عضوا فيها كانت أبرز أسباب هذا النجاح إلا أن إدارته المتميزة ومهارته ودأبه وإصراره وجديته ومواصلته العمل بالليل والنهار دون أن يضيع وقته في المظهريات، كانت من أهم أسباب هذا النجاح أيضًا ….
نموذج فذ للشخصية النادرة
ومع أن هـذا ممـا يسـهل إدراكـه علـي الـذين يتأملون التاريخ المعاصر إلا أني أحب أن ألفت النظر إلى سبب ثالث يتعلق باستقامة شخصية متناهية، وأمانة وعدالة، وبُعد عن المحسوبية والاستثناءات قلَّ أن تتكرر في زمننا هذا بكل ما فيه من علاقات ومصالح متشابكة.. وقد كان يسري مصطفي نموذجًا فذًّا لهذه الشخصية النادرة والتي لا تزال رغم ندرتها موجودة في مجتمعنا المصري الذي نعيشه.
كان نموذجا للوطني الناجح
ومن اللافت للنظر أن الساسة المصريين من ذوي القدرة على الكتابة قد تغافلوا الحديث عن هذا النموذج الوطني الناجح الذي يدل دلالة قطعية على أن روح القاضي العادل النزيه المترفع عن الحياة كفيلة بأن تنجز حتى في مجال كمجال وزارة الاقتصاد بما يحيط بالمسئولية عنها من علاقات وتأثيرات وسلطات وضرورة الاحتكاك بالبشر العاديين سواء أكانوا شخصيات عادية أم شخصيات اعتبارية.
ومع أن نموذج يسري مصطفي نموذج نادر إلا أنه ليس مستحيل الوجود، ومع أن نجاحه أيضًا كان نادرًا إلا أنه قابل للتكرار، وليس اكتشاف أمثاله وتوليتهم مقاليد الأمور بالأمر الصعب على كل ذي بصيرة يريد لهذا الوطن ما يستحقه من اقتصاد حر ومتحرر من أهواء المصالح الضيقة الكفيلة بتدمير أعظم اقتصاد في العالم.
خبرته من موقف إنساني
لم ألتق بهذا الرجل العظيم إلا لقاء عابرًا أكد لي ما كنت أعرف من قدراته الفذة وتواضعه الرهيب، ولكني خَبَّرتُه في موقف الإنساني كان يتعلق بأقرب الناس إليه وكان يكفيه أن يؤشر فيستجاب لطلبه، ولكنه أبي أن يفعل هذا، وغلف الطلب بكل ما يمكن من مبررات الحق والاستحقاق ولم أعجب لسلوكه هذا، ولا أردت أن أسجل اكتشافي لما فعل، لأني أدركت أنه كان في كل أدائه ينطلق من طبع نما وترقي في مدارج المسئولية والعدالة والحق وحب الوطن، ولم أكن حتي عرفته وعرفت هذا الأداء قد فقدت الأمل في أن أجد مثله علي الرغم من كل الضجيج الذي يحيط بحياتنا العامة التي فهمت الوجودية علي أن تكون موجودًا بصوتك فحسب حتي لو تكلمت بالخطأ أو مارست الخطأ أو دافعت عن الخطأ أو حاولت انتزاع نسبة الصواب إلي نفسك مع أنك لا تمارس إلا الخط.
أما يسري مصطفي فقد عاش ومات ولم يفعل إلا الصواب بقدر ما يمكن للبشر أن يدرك الصواب ويصرح به ويمارسه ويدافع عنه.. أقول قولي هذا وأستغفر الله من أن أكون ممن يزكون علي الله أحدًا. والله ورسولهُ أعلم.
[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي : تسعة عشر أستاذا وصديقا ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]