مكانته في المجتمع العلمي
فقد المجتمع العلمي المصري بوفاة الدكتور محمود مختار رمزا من رموزه الشامخة، وقممه السامقة، فقد ظل هذا الرجل يعطي من مواقع الأستاذية عطاء متصلا لا حدود له، ولم يكن لعطائه حد، ولم تكن لعطائه نهاية، فقد وجد من بين تلاميذه من واصلوا عطاءه ونهضوا بمدرسته واستمروا بها، ولا يزالون ينهضون بهذه المدرسة الفيزيقية التي مكنت مصر من أن تواكب التقدم التكنولوجي المذهل طيلة النصف الثاني من القرن العشرين بعقليات قادرة على الفهم والتأصيل والانتقاء.
تخصصه في الفيزيقا
ولولا هذه المدرسة الفيزيقية المصرية لتحولت مصر إلى شيء آخر لا يليق بتاريخها ولا حضارتها في عصر لعبت فيه علوم الفيزيقا الدور الأكبر في صياغة التقدم الهندسي والتكنولوجي الذي وظفته البشرية لخدمة الأغراض الطبية والزراعية والحربية، بل التجارية والمصرفية أيضا.
آثر الدكتور مختار الذي تخرج في أولي دفعات كلية العلوم في الجامعة المصرية 1929 أن يتخصص في الفيزيقا، التي هي الرياضة التطبيقية، على، حين تخصص زميله الذي تخرج أيضًا في الدفعة ذاتها الدكتور محمد مرسي أحمد في الرياضيات البحتة، وكان القسم لا يزال يجمع بين التخصصين بمسمي العلوم الفيزيقية والرياضية، وكانت بحوث الدكتور علي مصطفي مشرفة الأستاذ المصري الأول في هذا القسم، تغطي هذين التخصصين.
تأهله العلمي في المدرسة البريطانية
ابتعث الدكتور مختار إلي إنجلترا حيث حصل علي درجة الدكتوراه عام 1939 بعد عشر سنوات من تخرجه، وكان قد حصل علي درجة الماجستير في الفيزيقا عام 1935 ، ومنذ ذلك الحين ضرب الدكتور محمود مختار بسهم وافر في العلم، والبحث العلمي، والتدريس، والدراسات العليا، والاستشارات، والتطوير، والتأليف، والتعريب، ووضع المصطلحات، ومراجعة السياسات، وتطوير مناهج ومقررات التعليم العام، وتطوير طرق التدريس، والنشر العلمي، والجمعيات العلمية، وتنسيق التعاون مع النظراء في الخارج، وتمثيل بلاده في المؤتمرات الدولية، وفي المجالس النوعية العالمية.
رئاسته للجنة القومية للفيزيقا طيلة خمسين عاما
أدي محمود مختار هذا كله بأداء متميز مستمر، وبنجاح منقطع النظير، وبهامة عالية، وفي هدوء ليس له مثيل، وكان أكثر العلماء رضا وسعادة بما ينجز، كما كان أبعدهم عن طلب الشهرة، وإحداث الضجيج، فضلا عن رفع الصوت أو طلب التقدير، ومع هذا كله فقد أجمع زملاؤه ثم تلاميذه ثم تلاميذ تلاميذه ثم الجيل الرابع مـن تلاميـذه علي التسـليم له بالريادة والتقديم، وليس أدل على هـذا مـن أنه دون كل نظـرائه في فروع العلم الأخرى قد احتـفظ برئاسـة اللجنة القومية للفيزيقا طيلة خمسين عاما متصلة منذ توفي الدكتور مشرفة عام 1950 وحتي صمم هو علي التخلي عن هذه الرئاسة مع نهاية القرن العشرين .2000
كأنه حلقة ربطت بين أربعة أجيال
وهبه الله طول العمر 94 عاما وكأنما أراد له بهذا أن يكون حلقة رابطة بين أربعة أجيال من العلماء المصريين ومن الفيزيقيين المصريين الذين لم يبخلوا على بلادهم بكل ما يملكون من وقت، وذكاء، وجهد، حتى صارت الفيزيقا في خدمة العلم وتطبيقاته، والتطور العلمي وطفراته، وإني أكرر بكل وضوح أنه لولا وجود خريجي هذه المدرسة الفيزيقية ما أمكن لنا ـ على سبيل المثال ـ استيعاب الأجهزة الطبية الحديثة في الموجات فوق الصوتية، أو من أجهزة الإشعاع، أو من أجهزة البصريات والمناظير الضوئية.
كان وجوده وطول عمره من حسن حظ مصر
وقد كان من حسن الحظ أن المدرسة الفيزيقية المصرية تحلت بما تحلى به رائدها الدكتور محمود مختار من إنكار شديد للذات، وتفان لا حدود له في العمل، وإخلاص حقيقي للعلم وللحقيقة.
وهكذا كان من حسن حظ مصر أن وجد فيها هذا الرائد العظيم لهذا العلم الذي هو أساس الهندسة، ومن ثم التكنولوجيا، والذي هو بمثابة المستودع الحقيقي لكل كلمات السر في كل تقدم علمي في الصوت، والضوء، والإشعاع، والتحول من حالة إلى حالة، ومن مادة إليىطاقة، ومن صورة من صور الطاقة إلى صورة أخرى.
وعلى الرغم من صعوبة هذا العلم وجفافه، وعلى الرغم من ارتفاع تكلفة بحوثه من الجهد والوقت، فقد هيأ الله للفيزيقيين المصريين نفوسا راضية جعلتهم يتقبلون فكرة استمرار البذل من أجل العلم، في الوقت الذي يحقق فيه نظراؤهم في التخصصات الأخرى خطوات أسرع في الكادر الوظيفي، أو المكسب المادي، أو الشهرة.. ولهذا فقد ظل الفيزيقيون يمثلون نمطا من أنماط الجنود المجهولين وما أكثرهم في صناعة الحضارة، وصياغة التقدم على أرض وطننا العربي الذي لم ينتبه حتى الآن إلى تكريم أمثال هؤلاء بما ينبغي أن ينالوه.
علمه
تمتع الدكتور محمود مختار بعلم غزير، وبإجادة لا متناهية لفنه، وبإلمام واسع الطيف بكل أساسيات علوم الفيزيقا، وكان شأنه في هذا شأن أبناء جيله من المجيدين المجتهدين المجدين، وبفضل هذه العقلية الحافظة تمكن هذا الرجل طيلة أكثر من ستين عاما أن يظل في مقدمة أساتذة وعلماء العالم في تخصصه بما أوتي من قدرة علي المشاركة في تخصصات الفيزيقا المتزايدة عاما بعد عام، ويكفي أن نشير إلي أنه أنشأ في مصر دراسة الفيزيقا الإشعاعية، كما أدخل دراسة علم فوق السمعيات، ووجه عنايته لدراسة السلم الموسيقي المصري الشرقي فأصل وقنن المقامات والأصوات الموسيقية، وجعل لهذه الأصوات علما يقيس أطوالها وأبعادها بعد أن كانت تقتصر علي النقل من أذن إلي أذن فحسب.
فضله في دخول مصر عصر الطاقة
ثم في مرحلة تالية كان للدكتور مختار فضل كبير في دخول مصر عصر الطاقة النووية، وقد اختير ضمن عدد محدود من العلماء الذين تولوا إنشاء مؤسسة الطاقة النووية ثم تطويرها وتسييرها، وقد كان بالإضافة إلى مناصبه الجامعية عضوا في مجلس إدارتها ولجانها العلمية.
وفي مرحلة تالية اهتم الدكتور مختار بعلم المعايرة، وتولي المشاركة في إنشاء المعهد القومي للمعايرة ورأس مجلس إدارته، وتبع هذا اهتمامات مدرسته الفيزيقا الحيوية وبغيرها من فروع العلم، وبالليزر وتطبيقاته.
وبالمواكبة لهذا الإنجاز الذي واكب تقدمات فروع علم الفيزيقا فقد تولي الدكتور مختار إنشاء الأقسام الفيزيقية في المركز القومي للبحوث، وقد تطورت بعض هذه الأقسام إلى معاهد بارزة وذات وجود دولي.
آثاره
ولولا قصور النظرة العامة والمجتمعية عن إدراك مدى ما يمكن للفيزيقا أن تحققه للمجتمع، لكان من الممكن وبسهولة ومن حسن الحظ أن هذا حتى الآن لا يزال ممكنا أن تحقق الفيزيقا لمصر قدرا هائلا من الثروة المادية، وهو الأمر الذي لا يزال بعيدا عن الاقتناع العام حتى في مجال البرمجيات وتطبيقاتها، ومع هذا فإن المؤسسات الخاصة والفردية في مصر قد أفادت قدر ما تستطيع من علم وجهود الفيزيقيين المصريين، وإن كان هذا على مجالات ضيقة في التطوير المرحلي أو التالي لبعض الأجهزة أو التطبيقات، وقد بقي أن تصبح الروح روحا عامة تعلي من قدر العلم الفيزيقي وتعطيه الفرصة لإسهام أكبر في الحياة والتنمية والثروة.
إسهامه في تأليف المراجع الفيزيقية العربية
كان الدكتور محمود مختار عالما من العلماء المكتملين تكوينا وأداء، وقد وصل منذ مرحلة مبكرة إلى إدراك حقيقة وأهمية التواصل مع المجتمع من خلال اللغة، وقد أسهم بتأليف المراجع الفيزيقية العربية، وقاده هذا بالطبع إلى وضع المصطلحات العلمية وصياغة الأساليب.
وجهده في هذا المجال وحده يرفع اسمه عاليا، وللدكتور مختار أكثر من ثلاثين كتابا مؤلفا ومترجما في الفيزيقا بفروعها وتطبيقاتها المختلفة: الفيزيقا النظرية، والأيونات والإشعاعات المؤينة، والإلكترونيات، والصوتيات، وأشباه الموصلات، والذرّة، والفيزيقا الذرية، والفيزيقا النووية، وفيزياء الجوامد، فضلا عن كتبه المرجعية في علم الفيزيقا وهي: أصول علم الطبيعة في خمسة أجزاء، وأساس علم الطبيعة في خمسة أجزاء، ويمكن القول إنه كتب الفيزيقا كلها علي ثلاثة مستويات مختلفة: مستوي طلاب الفيزيقا المتخصصين والأكاديميين، والثاني هو مستوي طلاب العلم المبتدئين ومن هؤلاء أمثالنا من طلاب الطب الذين كانوا يدرسون الفيزيقا في السنة الإعدادية قبل إلغائها، والثالث هو مستوي القارئ العادي المشغوف بالثقافة العلمية.
حضوره الدولي
بالإضافة إلى هذا كله كان للدكتور مختار منذ مرحلة مبكرة حضور دولي معقول، لا هو مكثف ومكلف، ولا هو هامشي، وكان عضوا في الاتحاد الدولي للفيزيقا، واللجنة الدولية لتعليم الفيزيقا، واللجنة الدولية للصوتيات، والمجلس الدولي للاتحادات العلمية.
وكانت للدكتور مختار اهتمامات رائدة بالنشر العلمي، وقد رأس تحرير المجلة الفيزيقية المصرية، كما رأس تحرير المجلة المصرية للعلوم الرياضية والتطبيقية قرابة أربعين عاما، وكذلك مجلة بحوث النظائر والإشعاع على مدي خمسة عشر عاما.
إسهاماته العلمية مكنته من عدة مناصب
وقد مكنته إسهاماته العلمية أن يظل في موقع الصدارة بين زملائه منذ مراحل مبكرة من حياته، فقد كان عميدا لكلية العلوم جامعة القاهرة، وكان من قبل هذا وكيلا للكلية، كما كان رئيسا لعدد كبير من الجمعيات والمجامع العلمية، وهو ـ على سبيل المثال ـ قد ظل في سنواته الأخيرة بمثابة أقدم أعضاء مجمع اللغة العربية، إذ نال هذه العضوية عام أربعة وسبعين مع أستاذنا الدكتور محمد يوسف حسن مدّ الله في عمره، كما كان عضوا بارزا في المجمع العلمي المصري، والأكاديمية المصرية للعلوم، والمجمع المصري للثقافة العلمية، وجمعيات علمية أخري.
انتاج غزير وجودة فائقة
وقد تميز في كل هذه العضويات بإنتاج غزير على مستوى فائق من الجودة والأصالة، ويكفي في هذا الصدد أن نشير إلى إخراجه معجم الفيزيقا النووية في الاحتفال الخمسيني بمجمع اللغة العربية، كما يكفي أن نشير إلى جهده وهو في هذه السن المتقدمة من أجل تزويد المجمع اللغوي بشبكات الكمبيوتر واتصالاته بشبكات المعلومات، كما يكفي ثالثا أن نشير إلى قيامه بتحقيق كتاب تنقيح المناظر لكمال الدين الفارسي.
كل هذا يكفي للدلالة علي فضل هذا الرجل، لكن هناك بعد هذا وقبله صورة لا تنساها مخيلتي حين حضرت مناقشة بين اثنين من كبار أطبائنا وقد تعدي كلاهما السبعين، فإذا بأحدهما يدعم رأيه بأنه درس الفيزيقا علي يد محمود مختار، وإذا بالآخر يرد عليه ولا تنس أن لي أيضا هذا الفضل.
الجانب الإنساني
بقي جانب لا أخالني منصفا إذا أنا تجاوزت الإشارة إليه، وهو اهتمام هذا العالم الكبير بالجانب الإنساني في العلم بكل معني ممكن لهذا الجانب الإنساني، سواء في أخلاقيات العلم أو في الجوانب المتصلة بتطبيقاته؛ وقد كان مختار منتبها إلى هذا منذ مرحلة مبكرة وقبل نشأة تخصص أخلاقيات العلوم، وهو صاحب الفضل في اقتراح ووضع القوانين الخاصة بوقاية العاملين في مجال الإشعاع من أخطار التعرض لها، كما أنه صاحب الفضل في إنشاء أول مدرسة للبحوث الإشعاعية والوقاية من أخطارها.
[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي : تسعة عشر أستاذا وصديقا ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]