هو أكثر من يستحق هذا الوصف
نعم.. كان الدكتور محمود محفوظ هو الطبيب المفكر، لم يكن أحد من الأطباء الذين عاصرناهم يستحق هذا الوصف بأكثر من محمود محفوظ ؛ كان شخصية نادرة في جيله وربما تكون مستحيلة الوجود في الأجيال التالية ؛ بدأ حياته في أحضان الأحرار الدستوريين وعائلاتهم الشهيرة وأدركه الشباب وهو أقرب الناس إلي زوج خالته و حميه أحمد نجيب الهلالي الوزير الوفدي ثم رئيس الوزراء المستقل الذي رفع شعار التطهير قبل التحرير؛ ولحقت به ثورة 1952 وهو لا يزال في شبابه وتعايش بذكاء مع عهد عبد الناصر وانطلق بحماس إلى النجومية العالمية جداً في عهد السادات واحتفظ بها عن ثقة وباقتدار طيلة عهد مبارك .
شارك في أكبر عدد ممكن من المشروعات الرائدة على مستوي الوطن وعلى مستوى العالم وكان رائدنا جميعا إلى كثير من الاتجاهات الفكرية الجديدة في عالم الفكر والتعاون الدولي والعمل من أجل السلام.
واحد من أقدر ثلاثة عرب على الصياغة العلمية
تميز الدكتور محمود محفوظ بالتجويد في قراءته وفهمه وفي عرض ما يقرأ؛ حتى لقد كان واحدا من أفضل ثلاثة في مصر يجيدون الصياغة العلمية؛ وقد كانت بصمته على تقارير لجنة الخدمات في مجلس الشورى بصمة مفكر سياسي من طراز برتراند رسل؛ وكانت قفشاته في أحاديثه العامة والخاصة من طبقة لمحات برنارد شو الذكية؛ وكان في تطلعه إلى مستقبل مثمر وعادل لوطنه صورة من أبراهام لنكولن؛ وكان في دأبه ومثابرته صورة لونستون تشرشل.
كان قادرا على الانفتاح الفكري
كان الدكتور محمود محفوظ قادرا على الانفتاح على كل فكرة جديدة؛ وكان قادرا على الانتصار لكل توجه جديد يقتنع به وكان يسارع بتجنيد الإمكانات؛ كان يحسن الاختيار بين الآلات والأجهزة وبين الاتجاهات والسياسات وبين الشخصيات كذلك؛ ما من شخصية عظيمة في محيطنا الحالي إلا مرت بمحمود محفوظ أو عرفت محمود محفوظ أو غرفت من فضله أو غرقت في محبته.
كان صديقا لتلاميذه وأبا في نفس الوقت
كان الدكتور محمود محفوظ صديقا لتلاميذه بكل ما تعنيه الصداقة من حب وعطف؛ وكان أبا بكل ما تعطيه الأبوة من توجيه ولهفة كان متواضعا عن ثقة؛ معتدا بنفسه عن حب؛ كريماً بغير حدود؛ ناقدا عن علم؛ وقد كان خير حكم في كل الأمور بنزاهة وعدل كما كان مقوما لكل اعوجاج بلطف وذكاء.
كان إيمان الدكتور محمود محفوظ بالله وبعدله بلا حدود أذكر أني جزعت من تصرفات بعض السياسيين الفاسدين فقال لا تجزع وانظر إلى مصير فلان فإنهم إلى مصيره قادمون؛ وعبرت له عن خوفي على صحته من إفراطه في التدخين في أزمة من الأزمات فضحك وقال إن الاحصاءات لم تثبت فارقا كبيرا في العمر وطول البقاء بين المدخنين وغيرهم وإنما هو فارق صغير وإنه متنازل عن هذا الفارق.
واحد من الذين أثروا بإيجابية في التربية والتعليم العالي
تعدت أفضال الدكتور محمود محفوظ في مجال عمله ومجال فكره ومجال نشاطه؛ ولا زلت عند رأيي من أنه واحد من أهم أربعة أفراد أثروا في التربية والتعليم العالي في حقبة الثورة.. هو صاحب الفضل الأوفى في انتشار مدارس التمريض في كل مكان كما أنه صاحب الفضل العميق في وجود الجامعات الخاصة كما أنه صاحب الفضل الحقيقي في وجود الوحدات ذات الطابع الخاص في قصر العيني ثم في الجامعات ككل.
كان صاحب الباب الثاني للقصر العيني
وصل من تقدير تلاميذه له أنهم قالوا إن للقصر العيني بابين؛ بابا رئيسيا وبابًا لمحمود محفوظ، يقصدون مركزه المتميز لعلاج الأورام الذي لا يزال بفضل أبنائه منارة علم وعلاج وإدارة معا متفوقا على كل المستشفيات الخاصة والاستثمارية والدولية والتي تحظي بكل النفوذ بفضل مواقع أصحابها.. لكن محمود محفوظ ومدرسته يتفوقون بالمنهج وبالإخلاص والدأب والذكاء والحضور والبعد عن التفاهة والأنانية والذاتية.
فات نجمة سيناء أن تتحلى باسمه
كان واحدا من الذين فات نجمة سيناء أن تتحلي بصدورهم تقديرا للجهد الذي بذلوه من أجل حرب أكتوبر وهو جهد نادر لا يتاح إلا لأمثاله وأمثال عبد العزيز حجازي مد الله في عمره وغيرهما ممن سبقوا إلي رحاب الله.
وخلاصة ما أقول في الدكتور محمود محفوظ أنه كان مخلصًا في صداقته؛ شريفا في عداوته؛ مثالا في وطنيته؛ نادرا في عقليته؛ معجزة في نشاطه.
ولست أبالغ إذا قلت إن كل من عرفوه يفتقدون فيه اليوم جزءا من نفوسهم.
رحمه الله ورحمة واسعة، وعوضنا عن غيابه
[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي : تسعة عشر أستاذا وصديقا ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]