مكانته بين أقرانه
فقدت الثقافة الإسلامية بوفاة الدكتور محمد إبراهيم الفيومي عالمًا مجتهدًا من أبرز الأزهريين الذين اشتغلوا بعلوم الفلسفة الإسلامية، وقد تعددت روافده العلمية والفكرية، درس في مصر وخارجها، كما مارس البحث العلمي والتعليم والتدريس على المنهجين القديم والحديث، وشارك بصفة دائبة في الاجتماعات والندوات واللقاءات والمناقشات والمؤتمرات، فكان على الدوام نموذجًا للعالم العامل هادئ الطبع، كثير الإنجاز، كما كان مخلصًا لعلمه، محبًا للناس.
وقد تمتع الدكتور محمد إبراهيم الفيومي بأخلاق نبيلة وخيرة حببت فيه كل مَنْ عرفوه، كما تمتع بقدر كبير من الفهم والقدرة على التأويل، والاستنباط، والاستشهاد، واستدعاء النظائر، وكان حفيًا بمجالس الأدب، وحلقات العلم، ومؤسسات العمل الخيري، وقد ربطته بكثير من أعلام الوطن علاقات الاحترام، والتبجيل، والتقدير، والصداقة، والحب في الله، كما وثقت الألفة الصادقة، والحميمية المخلصة من علاقاته بمَنْ عرفوه.
مؤلفاته
وقد أتيح للدكتور محمد إبراهيم الفيومي قبـل وفاته بسـنوات أن يسعد بأعظم أعماله، وهي موسوعة الفلسفة الإسلامية، وقد نشرت أكثر من مرة، وقد لخص في مجلـداتها السبعة تاريخ الفلسفة الإسـلامية على نحـو منهجي دقيق، فخصص مقدمتها للفرق الإسلامية، والجزء الأول للخوارج والمرجئة، والثاني للشيعة العربية والزيدية، والثالث للشعوبية والاثني عشرية، والرابع للمعتـزلة، والخامس للأشعرية، والسادس للماتريدية وعلم الكلام.
مؤلفاته ومذكراته
وبالإضافة إلي موسوعته فإن للدكتورمحمد إبراهيم الفيومي من المؤلفات: القلق الإنساني، وقضايا في الاجتماع الإسلامي، والإسلام واتجاهات الفكر المعاصر، وتاريخ الفكر الديني الجاهلي، وملاحظة علي المدرسة الفلسفية في الإسلام، ورسالة في الحوار الفكري بين الإسلام والحضارة، وتأملات في أزمة العقل العربي، والوجودية فلسفة الوهم الإنساني، ورسالة في الحوار الفكري بين العرب والحضارة، ومحاضرات في منهج الدين المقارن، والاستشراق رسالة استعمار: تطور الصراع الغربي مع الإسلام، وثنائية الإنسان وضرورة الدين في علم النفس المعاصر، والمسألة الإسلامية ومفهوم الوعي الخاطئ، واللقاءات التاريخية بين الإسلام والغرب، وأدب الحوار: مفاهيمه ومجالاته، والأحلاف العربية وفكرة التضامن العربي، وفي مناهج تحديد الفكر الديني، وتاريخ الفلسفة الإسلامية في المشرق، وتاريخ الفلسفة الإسلامية في المغرب والأندلس.
كما أتيح للدكتورمحمد إبراهيم الفيومي أن يكتب صفحات من ذكرياته في كتاب طبعه مرتين بعنوان أيامي.. حديث نفس مغتربة..
تراجمه المتميزة
وقد ألف الدكتور محمد إبراهيم الفيومي مجموعة من كتب التراجم والشخصيات عبر فيها عن إعجابه بعدد من أعلام الفقه الإسلامي، والفلسفة الإسلامية، والتصوف الإسلامي، فكتب عن الإمام الشافعي، والإمام الغزالي، والبوصيري، وابن عطاء الله السكندري، وابن باجة وفلسفة الاغتراب، والشيخ الأكبر ابن عربي، والحلاج.
بصماته في المواقع التي شغلها
ترك الدكتور محمد إبراهيم الفيومي بصمات ذات قيمة في كثير من المواقع التي شغلها في أمانة المجلس الأعلى للشئون الإسـلامية، وفي عمـادة كلـية الدراسـات العـربـية والإسـلامـية بالأزهر الشريف، وفي جامعة قطـر، وفي كل هذه المواقع كان عاملاً منجزًا، وقد جمع في اعتدال مشكور بين احترام النفس والتواضع، وبين الاعتراف بالحق والحرص على مجاملة الآخرين، كمـا جمع بين القدرة على الإدراك والرغبة في السـلام.
كان طاهر اليد عف اللسان
أوتي الدكتور محمد إبراهيم الفيومي حظـوظـًا كبيرة من صفـاء النفس، وطموح العقـل، وطهارة اليد، وكـرم البذل، وعفة اللسان، وراحة البال، وشرف القصد، ورقي اللفظ، وحب التوفيق بين المتنازعين، كما كان حريصًا علي دوام الصداقة بين كل أصدقائه المشـتركين بعضهم وبعض، وعلي السعي في الخـير للآخرين، وكان يطـوي نفسه علي قدر من الآلام والأسي لما لم يكن غيره قادرًا علي ابتلاعه، وكان يجل العلم وأهله، كما كان يجل العلماء وماضيهـم، وكان يذكر بكل حب ما سمعه من أستاذ عن تلميـذه، وما سمعه من تلمـيذ عن أسـتاذه، وكان يصـور ما يرويه من حديث الإنصاف على أنه حديث الحقائق التي لا تقبـل الجـدل.
نعم الصديق حتى في مرضه
كان الدكتور محمد إبراهيم الفيومي بالنسبة لي صديقًا بكل ما تعنيه الكلمة، وكنت أتألم طيلة الشهور الأخيرة وأنا أرى قبس حياته ينسحب رويدًا رويدًا، وكان يجاهد المرض كي ينجز وكي يشترك في كل إنجاز قدر له أن يكون من المسئولين عنه.
كان صوته يخفت فتمده روحه بقدرات ترفع من نبراته، وكان وجهه يشحب فيمده قلبه بما يحفظ عليه نضرته التي عرف بها، وكان عقله يحاول بعض الغياب ليستريح فلا تلبث نفسه أن تمده بزاد يضفي على حضوره بعض وثبات العقل المتمرس على القول الفصل.
وهكذا ظل الدكتور محمد إبراهيم الفيومي يستعين على المرض القاسي بكل ما في الجسم المريض من قدرة على مقاومة المرض أو صورته، فكان يستعين بالروح على الصوت، وبالقلب على الوجه، وبالنفس علي العقل، وكان قبل كل شيء يستعين بالإيمان على القضاء، وباليقين على القدر.
كان يسألني عن تطور مرضه وهو أدري به، لكنه كان يرضي نفسه بالسؤال، وكان يلخص مضاعفات العلاج وهو مستسلم، لكنه كان يرى أن التجربة من حق الآخرين، وكان يتحدث عن قدرات التشخيص وهو يحمد الله على أن العلم وصل إليىما وصل إليه من إلمام بهذه الدقائق، وكأنما الدقائق ليست آلامًا وندوبًا تفتك به وبجهازه الهضمي.
وبعد.. فما أقساه على الإنسان من شعور حين يصلي صلاة الغائب على حبيب بينما هو يعيش في المدينة نفسها.
نشأته وتكوينه العلمي
ولد الدكتور محمد إبراهيم الفيومي 1938 في قرية أو ليلة مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية، والتحق بالتعليم الأولي وكتاب القرية، ثم درس بمعهد الزقازيق الديني، ونال منه الثانوية الأزهرية، والتحق بكلية أصول الدين جامعة الأزهر وتخرج فيها 1965 ، وبدأ حياته الوظيفية 1966 ـ 1967 مدرسا بوزارة التربية والتعليم ببورسعيد، ثم استقال، وتفرغ للدراسات العليا وتمكن من أن يحصل علي ماجستير الفلسفة الإسلامية 1968 ، وفي سنة 1970 عين باحثا في مجمع البحوث الإسلامية، ثم سافر إلي فرنسا عضوا في بعثة الأزهر لدراسة الفلسفة الإسلامية بالسوربون 1971 ـ 1973 ، وحصل علي دبلوم عال في الفلسفة الإسلامية، ثم حصل 1974 علي الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية من كلية أصول الدين. وقد عين مدرسا للفلسفة بكلية أصول الدين بالقاهرة 1974 ، وفي سنة 1978 أعير أستاذا مساعدا بكلية التربية في قطر، وهي الكلية التي تطورت إلى جامعة قطر، وفي الدوحة أسهم في إنشاء كلية الشريعة والدراسات الإسلامية.
ثم انتدب 1982 قائما بعمل عميد لكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بالقاهرة، ثم حصل 1984 على درجة أستاذية الفلسفة الإسلامية وأصبح عميدا لكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين في جامعة الأزهر.
اشتراكه في مشروع جامعة السلطان قابوس
وفي العام التالي 1985 أعير الدكتور محمد إبراهيم الفيومي للمشاركة في مشروع إنشاء جامعة السلطان قابوس حيث عمل في كلية التربية والعلوم الإسلامية، وبقي في عمان حتى عام1991، حيث عاد إلي وطنه فعمل رئيسا لقسم أصول الدين في كلية الدراسات الإسلامية والعربية جامعة الأزهر، بعدها انتدب أمينا عاما للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية 1993 ـ 1994 ، كما انتدب مرة ثانية أمينا عاما للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية 1996 لكنه استقال.
ومنذ 1996 انتدب الدكتور محمد إبراهيم الفيومي للتدريس في معهد الدراسات الإسلامية للدراسات العليا لإلقاء محاضرات في الدين المقارن، ثم اختير عضوا بمجلس إدارة جمعية الدراسات الإسلامية التي يتبعها معهد الدراسات الإسلامية 2000
اختير الدكتور الفيومي عضوا بالمجالس القومية المتخصصة، والمجلس القومي للتعليم، ومقرراً لشعبة التعليم الأزهري، كما اختير عضوا بمجمع البحوث الإسلامية 2000 وتوج حياته العلمية والأكاديمية باختياره عضوا بمجمع اللغة العربية 2003.
رمز من رموز التآلف والمحبة
وفي كل هذه المواقع كان الدكتور محمد إبراهيم الفيومي عاملاً بجد، مجتهدًا بعلم، مقترحا بذكاء… كما كان رمزًا من رموز التوفيق والمحبة والتآلف والعمل المثمر القائم على تقدير الآخرين ودفعهم بالحب إلي التعاون المثمر، كان حريصا على التقريب بين المتخاصمين أو المختلفين وكان يتحمل ما لا طاقة لبشر به من أجل أن يسود الحب والوئام… وكلنا يذكر له مواقف مضيئة في هذا الميدان.. نذكرها فنترحم عليه وعلى سلوكه النادر وعلى لسانه الذاكر أيضًا.
مشاركته في الأنشطة العلمية
وقد شارك الدكتور محمد إبراهيم الفيومي في عدد كبير من المؤتمرات والأنشطة العلمية، فكان عضوا في مؤتمر السيرة والسنّة في قطر 1980، كما كان عضوا في اللجنة العليا لمؤتمر السيرة والسنّة ممثلا لجامعة الأزهر 1984، وشارك في ندوة مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام عن الشباب والتطرف الديني وتطبيق الشريعة الإسلامية 1985، وتولي الأمانة العامة للمؤتمر العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية 1994، كما كان عضوا في المؤتمر الخامس لوزراء الأوقاف والشئون الإسلامية 1994 ، وعضوا في لجنة برئاسة الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر تولت وضع بروتوكول بين جامعة الأزهر وجامعة هوارد ـ واشنطن 1995 ، وكان عضوا في لجنة برئاسة شيخ الأزهر تولت وضع مشروع مركز إسلامي بألمانيا 1995،
وشارك الدكتور محمد إبراهيم الفيومي في ندوة الأديان والتسامح التي نظمتها اليونسكو بالتعاون مع الجمعية الوطنية بإستنبول 1995، كما اختير عضوا في اللجنة التحضيرية لمؤتمر حقوق الإنسان الذي دعت إليه الكنيسة الإنجيلية في الإسكندرية 1998، وفي مؤتمر الجمعية الفلسفية الأفرواسيوية 20 ديسمبر 1998 الذي عقد بالجامعة العربية، وفي مؤتمر القدس مدينة الأديان الثلاثة الذي عقد بلندن مارس 2003 برعاية المركز الشيعي الإسلامي بلندن، وقد شارك في مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية الذي عقد بالقاهرة أبريل 2004 ببحث عن الإسلام والحضارة، كما شارك في مؤتمر مجمع اللغة العربية الذي عقد في القاهرة مارس 2003 ببحث عن اللغة العربية في أدوار تحديثها .
[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي : تسعة عشر أستاذا وصديقا ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]