الرئيسية / المكتبة الصحفية / عبد المنعم أبو العزم اول عالم مصري في التكنولوجيا

عبد المنعم أبو العزم اول عالم مصري في التكنولوجيا

كان الدكتور عبد المنعم أبو العزم عالمًا كبيرًا من طراز العلماء المعتزين بأنفسهم وبما حققوه للعلم وللوطن، وكان يعرف أن هذا الاعتزاز الذي يصل إلى حدود قصوى من الاعتداد كفيل بأن يكلفه كثيرًا من الجهد وبأن يحرمه من كثير من المكاسب، ولكنه لم يكن علي استعداد لأن يتخلى عن هذا الاعتداد أو الاعتزاز.

تكوينه العلمي

صادف الدكتور عبد المنعم أبو العزم منذ بداية شبابه فرصًا متميزة للتعليم والتدريب والتأهل العلمي واستغل هذه الفرص على نحو ممتاز حتى أصبح رمزًا من رموز النجاح المهني المبكر في العلوم والتكنولوجيا.

تدرج الدكتور عبد المنعم أبو العزم في بداية حياته في وظائف عديدة: كيميائيًا في مصانع النحاس المصرية بالإسكندرية 1944 ومعيدًا في علوم الإسكندرية 1944 ـ 1946 ومديرًا للمعمل في مصانع ياسين للزجاج 1946 ـ .1949  

وكان من حسن حظه أن اتجهت مصر إلى إنشاء مجلس فؤاد الأول للبحوث العلمية هو المركز القومي للبحوث الآن، وقد نال إحدى البعثات المخصصة لهذا المركز، وهكذا قدر له أن يكون من أوائل الذين تخصصوا في التكنولوجيا دراسة وعلمًا على مستوي رفيع أهَّله للحصول علي أعلي الشهادات العلمية في هذا المجال، وقد كان أول مصري يحصل على درجة الدكتوراه في العلوم D.S.C في التكنولوجيا.

كـان أبو العزم قـد تخـرج في كلية علوم القاهرة عام أربعة وأربعين 1944 وفي بعثته 1949 ــ 1954 نال درجة دكتوراه الفلسفة 1951 ودكتوراه العلوم في التكنولوجيا من كلية الهندسة في جامعة شيفلد بإنجلترا .1954

وبعد عودته عمل أستاذًا مساعدًا باحثًا بالمركز القومي للبحوث من 1954 وحتى 1964 حيث أصبح رئيسًا للقسم 1962 ــ 1968 ثم مديرًا لمعهد بحوث البناء 1968 وهو في السادسة والأربعين من عمره وقضي في هذا المنصب ثلاث سنوات أصبح بعدها وكيلاً لوزارة البحث العلمي 1971 وعند إنشاء أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا أصبح أحد النواب الأربعة لرئيسها، ثم رأس الأكاديمية1973 ــ 1979.

خدمته لوطنه

ومضى أبو العزم في خطوات وئيدة يقدم لبلاده خبراته ولمحات عبقريته الهادفة إلي تمكين الوطن من استغلال خاماته من الرمل المتميز في تطوير صناعة الزجاجات لتفي بحاجة المجتمع ولتقلل من الاعتماد علي الخارج، ولتفتح المجال أمام تحقيق فرص تصديرية، ويمثل فضله في هذا المجال نموذجًا للبحث العلمي الحقيقي الذي يستهدف تجنيب الوطن بعض الحاجة إلي الاستيراد، والحق أنه نجح في هذا الجانب فإليه يرجع الفضل في استخدام رمال المعادي في صناعة الزجاج المسطح ولمبات الإضاءة بالكيروسين كما استخدم رمال أبي زنيمة في صناعة زجاج القوارير وزجاج المائدة.

ومع أن المناخ العلمي الذي عاش فيه أبو العزم كان مناخ انغلاق اقتصادي وعلمي شبه تام إلا أنه ظل يحاول في حدود ما هو ممكن، وقد آثر أن يبقي في وطنه، وتقبل أن ينشغل بقضايا الترقي وعلاوات الراتب والدرجات المالية علي نحو ما كان غيره ينشغل، وضاع بعض جهده العلمي في تحقيق ذاته من أجل تحصيل ما هو حق له بالترقي الوظيفي، وهكذا انصرف من قيادة معمل الزجاج إلي قيادة مركز بحوث البناء إلي مناصب كثيرة من هذا القبيل، ولكنه ظل في الإطار البيروقراطي الذي قدر له أن يعمل من خلاله حتي أصبح ثاني رئيس لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا بعد نشأتها في .1971

رئاسته لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا

كان الدكتور عبد المنعم أبو العزم طيلة عمله كرئيس لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا وقبل توليه رئاستها وبعد خروجه من هذه الرئاسة متشبعًا ومتيمًا بفكرة سيطرة الأكاديمية على الحياة العلمية والبحثية في مصر وكان يري أن هذه الصيغة أنسب بكثير من وجود وزراء للبحث العلمي أو وزارة دولة للبحث العلمي، وكان يري الأكاديمية في موقع سابق أو متقدم على الجامعات، وكان الساسة الكبار يعرفون أن رأيه هذا منطقي وإن لم يكن عمليًا في الوقت الذي عمل فيه أبو العزم.

وكان الدكتور عبد المنعم أبو العزم يرى ضرورة أن تمتد مظلة الأكاديمية لتشمل كافة المؤسسات البحثية في مصر في قطاعات الخدمات كلها، ولم يكن ليقبل بأية محاولة لفصل المعاهد البحثية المتخصصة عن قطاع البحث العلمي تحت أي دعوي من الدعاوي، وظل يخوض معارك صعبة في هذا الميدان حتى كادت هذه المعارك تستنزف جهده وتستنفد طاقاته التي كان أولي بها أن توجه توجيهًا مركزًا ومكثفًا إلي العلم وحده؛ ولكن هكذا كانت الظروف وهكذا كان التطور الطبيعي للحركة العلمية والبحثية في مصر!

توليه منصب أمين شئون البحث العلمي

بعد خروجه من منصبه كرئيس للأكاديمية نقل بدرجته ــ درجة وزير ــ إلى المجالس القومية المتخصصة حيث تولي منصبًا موازيًا في قيمته المالية والإدارية لمنصبه في الأكاديمية وهو منصب أمين شئون البحث العلمي والتكنولوجيا 1979 ــ 1982 حتى بلغ الستين، واستمر عمله المنتظم والدؤوب في المجالس القومية المتخصصة منذ ذلك الحين وحتى وفاته.

مكانة بارزة في المجتمع

وقد تمكن أبو العزم من خلال رئاسته للأكاديمية أن يوجد لها مكانًا بارزًا في المجتمع وذلك بأن جلب قادة المجتمع بكافة طوائفه وهيئاته إلى الأكاديمية حيث أشرك المسئولين عن كافة القطاعات في المجالس النوعية المتعددة، كما أشركهم في وضع خطط مشروعات البحوث اللازمة لحل هذه المشكلات وتنفيذها ومتابعتها مما وضع أقدام المجتمع المصري علي الطريق الذي كان كفيلاً بالتوصل إلى الحد من الفاقد في القوي البشرية والإنتاج الزراعي والحيواني والموارد الطبيعية.

حاول عبد المنعم أبو العزم أن يعيد للمركز القومي للبحوث المسار الذي بدأه عليه مؤسسه الأول الدكتور أحمد زكي، وبذل جهدًا كبيرًا في إقناع المسئولين باختيار مدير للمركز يكون من العاملين بالبحث العلمي في مجالات التكنولوجيا وليس مجرد أستاذ جامعي باحث متميز، وقد نجح في استصدار القرار الخاص بتعيين الدكتور محمد كامل الذي كان عمدة المتخصصين في تكنولوجيا النسيج، والذي تولي رئاسة الأكاديمية بعد هذا.

انفتاحه على كافة الاتجاهات السياسية

ولكن سياسة أبو العزم هذه لم تكن قابلة للاستمرار بحكم هيكل الموارد البشرية المتاح في المركز القومي للبحوث ومعاهد البحوث في مصر، وهو هيكل واسع يحتوي أطيافًا مختلفة ذات تأهيلات متعددة وربما غير متجانسة، ولكن جهود أبو العزم أثمرت تدعيمًا بارزًا للأكاديمية ككيان وكفكرة، كما أسفرت عن تفعيل واسع النطاق للمجالس النوعية التي تضمها الأكاديمية وللجان القومية التي تتفرع منها.

عرف أبو العزم بالقدرة على الانفتاح المتوازن علي كافة الاتجاهات السياسية والفكرية والمهنية وكانت له علاقات صداقة واسعة بكثير من أرباب المهن وأصحاب القدرات الخاصة والمناصب العامة، وكان حريصًا علي الاستماع إلي آرائهم، ولكنه لم يكن يعطي للسماع أكثر من مكانته كوسيلة للتنوير واستطلاع الرأي والبحث عن الحلول والبدائل، ولم يكن من الذين يفسدون توجهاتهم الحاسمة بمحاولة التوفيق بينها وبين الآراء التي تبتغي الوجود أو يتهيأ لها هذا الوجود من باب المجاملة أو من باب إثبات الذات، وربما كان هذا الخلق الجاد بالذات بمثابة السبب الذي أدي إلي تفاقم كثير من النزاعات البيروقراطية والتنفيذية بين عبد المنعم أبو العزم وبين الآخرين، لكنه خرج من هذه النزاعات جميعًا وقد كسب نفسه.

ارتبط أبو العزم بصداقة كثير من أعلام الجيل السابق عليه، وكان يعتز اعتزازًا شديدًا بأستاذه الدكتور أحمد زكي وقد أرسل إلى خطابًا مطولاً عقب قراءته لكتابي عنه، وقد وجدت أن من حق هذا الخطاب أن ينشر في الطبعة الثانية من كتابي عن أحمد زكي وقد فعلت.

علاقته بالمهندس أحمد هبده الشرباصي

وخارج نطاق مهنته وكليته وتخصصه ظل أبو العزم على علاقة بنوة شديد الولاء والوفاء بالمهندس أحمد عبده الشرباصي نائب رئيس الوزراء ووزير الري الأشهر. وقد كان دائم الملازمة له والاستماع إليه والإفادة من تجاربه في الحياة.

مسئولياته الوطنية

وقد تولي أبو العزم مسئوليات وطنية عديدة فكان عضوًا في مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة لتوحيد القياس والمعايرة، كما رأس مجلس إدارة شركة النجمة للزجاج. وعلي الرغم من أن أستاذيته لم تكن في الجامعة، وإنما في مركز البحوث فقد أشرف علي ثماني عشرة رسالة ماجستير وعشر رسائل دكتوراه.

كان أبو العزم يتمتع بذاكرة مدهشة، ربما يقع منها تحديد التاريخ بالضبط ولكنها لا تخطئ القرائن، وهكذا كنت أستطيع أن أدرك من رواياته كثيرًا جدًا من خلفيات السياسيات والتصرفات السياسية، وكان لا يعتمد إلا على بصره في التأكيد على صواب ما رآه، ولم يكن يعتمد كثيرًا على ما سمعه أو على ما رواه الآخرون من مشاهداتهم أو ما يصورونه على أنه كان من مشاهداتهم.

ذاكرته القوية

وكانت ذاكرة أبو العزم ذاكرة ترتيبية خصبة تبني على المعلومات التي حصلتها وألمت بها ولا تكتفي بها، وأذكر أني قصصت عليه ذات مرة قصة تتعلق بإحدى بنات أحد أساتذته غير المباشرين فإذا به يذهلني حين قال: إنها الابنة الثانية وأردف فذكر أن أستاذه رزق بولد ثم أربع بنات ثم ولدين آخرين… وهكذا كانت ذاكرته.

حرصه على دقة المعلومات

وكان أبو العزم من ناحية أخرى حريصًا على المعلومة، وأذكر أني في مناقشة معه انتصرت لرأي من الآراء معتمدًا على ما نشره أحد الأطراف في القضية التي كنا بصددها، ولم يكن قرأ ما نشره هذا العالم فإذا به يسألني عن مصدري لما أقول فلما أنهيت إليه أنه نشره في كتاب تعجب من أن يكون مثل هذا الكتاب قد فاته وسألني عن الناشر وبعد أقل من أربع وعشرين ساعة وجدته يتصل بي، ويشكرني أولاً ثم يسلم بوجهة نظري بناء على ما قرأ، ولم أعجب لهذا الإصرار علي العلم الذي دفع هذا الرجل إلي الذهاب من فوره لشراء الكتاب، وإلي قضاء الليل في قراءته، وإلي الاتصال في الصباح.. وهي كلها أخلاق علماء أصلاء.

وعلي الرغم من اعتزازه الشديد بنفسه فإني اكتشفت فيه في مرحلة متأخرة من حياته القدرة على بذل الجهد الصادق الدؤوب من أجل سعادة الآخرين، ولم أكن أتصور أن طبعه يجيز له أن يطلب من آخرين لا يعرفهم خدمة لأقارب أو معارف بعيدين، ولكني وجدته مهمومًا بأن يحقق ما يستطيع تحقيقه لمن طلب منه مد يد العون إليه.

والحقيقة أن مسعاه فيما طلبه في ذلك اليوم قد نجح على غير توقع مني، مما جعله يزداد ثقة في قدراتي المتواضعة على الأمر والنهي ولم يكن هذا إلا بفضل حسن النية، والله أعلم.

وقد مول عبد المنعم أبو العزم في أخريات حياته جائزة تمنح باسمه من خلال أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا لأحسن بحث في علم تكنولوجيا الزجاج.

كانت له رؤية نافذة

كانت في أبو العزم نزعة تأملية ناقدة، وكانت نظرته إلى الحياة واسعة تلم بأطرافها، ولكنها لا تحرم نفسها من أرض الواقع، ولهذا كنت أعجب على سبيل المثال من حديثه عن إيثار البعض لوظيفة على أخري بسبب فارق في المرتب لا يتعدى الجنيهات، فإذا به هو نفسه كان يفعل هذا في بداية حياته.

وكنت أعجب من أن يفسر بعض الصراعات الجامعية على نحو مادي بحت، ولكنه فيما يبدو كان أقرب إلى الصواب مني، بل لا أعدو الحقيقة إذا قلت: إنه كان على الصواب، بينما كنت أتوهم أوضاعًا أخرى متخيلة وظروفًا أخري حاكمة.

تفسيرات ذكية لسلوكيات الإعلام

وكانت عند عبد المنعم أبو العزم تفسيرات ذكية لكثير من سلوكيات الأعلام والمشاهير الذين عاصرهم ولست أنسي أنه هو الذي فتح عيني على المدى الذي وصلت إليه عقد النقص في تحكمها في تصرفات بعض مشاهير الصحفيين الذين عاش أبو العزم عصرهم.

وكانت له رؤية ناقدة ونظرة نافذة إلى طبيعة وحقيقة كثير من الشخصيات التي اكتسبت صورة مخالفة للحقيقة، وكم من صديق قديم فرط فيه أبو العزم حين أدرك أن التفريط أولي وأجدي من الاستمرار في الصداقة، وكم من خصم قديم عاد أبو العزم إلى أحضانه حين أدرك أنه أخطأ التقييم فيما مضي، وظني أنه كان بمثابة النموذج الواقعي للإيمان بقول الشاعر: رب يوم بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه.

وربما يفسر لنا هذا موقفه من خلفائه من رؤساء الأكاديمية المتعاقبين ومرءوسيه من رؤساء المراكز البحثية.

كان عبد المنعم أبو العزم من المؤمنين بضرورة توفير حدود العفاف وليس الكفاف فحسب للعلماء والباحثين، وقد ظل ينادي بهذا المعني لا في الاجتماعات والتوصيات فحسب، ولكنه كان ينتهز كل فرصة ليقنع صاحب كل سلطة بأن يأخذ خطوة ما في هذا الاتجاه.

التكريم والتقدير

نال عبد المنعم أبو العزم كثيرًا من التقدير طيلة حياته الممتدة، وقد انتخب زميلاً لمعهد علم الفيزياء البريطاني في لندن 1956 وزميلاً لجمعية تكنولوجيا الزجاج البريطانية 1963.

وفي مصر انتخب الدكتور أبو العزم عضوًا في المجمع العلمي المصري وفي الأكاديمية المصرية للعلوم، ورأس اللجنة القومية للكيمياء العلمية والتطبيقية.

وعلي المستوى القومي فإنه سبق بعض أساتذته وزملائه السابقين في الحصول على جائزة الدولة التقديرية في العلوم، وقد حصل عليها سنة 1984 بعد أربعين عامًا من تخرجه وبعد ثلاثين عامًا من حصوله على دكتوراه العلوم.

وعند وفاته لم يكن أقدم منه في الحصول على جائزة الدولة التقديرية إلا الدكاترة محمود حافظ إبراهيم، ومصطفي كمال حلمي، وزميل دفعته محمد عبد الفتاح القصاص.

كان عبد المنعم أبو العزم قارئًا نهمًا، وكان يعجب بالمدرسة الإنجليزية في البحث، وفي الكتابة، وفي التدريس وظل على علاقة قوية بالعقل الإنجليزي حتى أواخر حياته.

كان أباً باراً وزوجاً وفيا

وعلى المستوى الإنساني كان هذا الرجل أبًا بارًا، وزوجًا وفيًا، وقد تأثرت حياته إلى حد بعيد بعد رحيل زوجته، ولكنه كان من الصابرين المحتسبين، وكانت شخصيته مزيجًا من جد لا نهاية له، ودعابة لا يدرك أحد عمقها، كما كانت مزيجًا من جد ونجاح، وسبق وتفوق، وأمل وعمل، ورغبة وفوز.

وكان الدكتور عبد المنعم أبو العزم بالنسبة لي صديقًا فقدت بصداقته جزءًا من نفسي، ولم أكد أدرى أن فراقه صعب على هذا النحو.

 

[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي : تسعة عشر أستاذا وصديقا ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com