فقدت مصر في الدكتور إسماعيل صبري عبد الله سياسيا بارزا واقتصاديا قديرا، وواحدًا من زعماء اليسار الوطني النبلاء الذين تحملوا كثيرا من أجل فكرهم وظلوا محافظين على توجهاتهم الوطنية التي اعتقدوا في جدواها وفي ضرورتها، بل في حتميتها في بعض الأحيان.
حياة طويلة ومثمرة
عاش إسـماعيل صـبري عبد الله حيـاة طويلة مثمرة لم يقدر له فيها أن يعيش داخل أسوار الجامعة، لكن الجامعة مع هذا عاشت داخله هو، فقد حريته طيلة سنوات لكنه لم يفقد نفسه ولا رأيه، فقد كثيرا من وجاهة المناصب بعد ما أوتي كثيرا منها، لكنه ظل محافظـا على احترامـه لنفسه، وعلى تقـديره لماضيه، وقد ظل ينظر إلى الحياة المائجة من حوله نظرة الواثق من قدرته على استشراف المستقبل.
وفي حزب التجمع ظل إسماعيل صبري رمزا للشموخ والتعالي وإنكار الذات، مع مشاركة إيجابية لا تنقطع، وتواصل لا يفتر، وحماس يتألق مع الزمن ليصل في جوهره إلى أرقي درجات الولاء والانتماء.
فكر يساري جديد يناسب العصر
وحين أتت الرياح الدولية بما لا تشتهي نفسه بدأ يصوغ تصورات جديدة لفكر يساري جديد يستطيع أن يعيش في العصر الجديد، وبقدر ما كان موفقا في طرح تصوراته بقدر ما كان حالما بأن تجد هذه التصورات طريقها إلى أرض الواقع لكنه مع هذا التوفيق في العرض والأمل في التغيير كان قادرا على التوافق النفسي، وكان قادرا كذلك على الهروب من اليأس، وعلى مجافاة الإحباط، وقد ظلت ابتسامته الصافية تعبيرا عن أملين: أمل تحقق وإن لم يتواصل، وأمل آخر بات يقدر أنه من الصعب أن يدركه على أرض الواقع.
كانت شخصية إسماعيل صبري الطاغية وقدراته المتميزة ترشحه على الدوام لموقع متقدم في كل محيط يعمل فيه، وكانت أجهزة الأمن السياسي لا تتصور له مكانا إلا على رأس التنظيم الشيوعي السري، ومن أطرف ما يمكن أنه عين في 1954 مع زميله الدكتور محمد مراد غالب مستشارين لرئيس مجلس الوزراء الرئيس عبد الناصر نفسه قبل أن يصبح رئيسا للشئون الاقتصادية والسياسية، وفي اليوم التالي مباشرة قبض عليه وأودع السجن.
دوره في المؤسسة الاقتصادية
ومن الإنصاف أن نشير إلى دور شبه مجهول لهذا الرجل في المؤسسة الاقتصادية، وهي أهم مؤسسة اقتصادية أوجدتها الثورة، وإن لم تحافظ عليها.. كالعادة ، حيث عمل كساعد أيمن لرئيسها المهندس صدقي سليمان رئيس الوزراء فيما بعد ، واستطاع أن يوظف معارفه الاقتصادية وخبراته الفكرية في خدمة فكرة تحول الاقتصاد المصري إلي المؤسسات العامة، وربما كان النجاح الذي أحرزه هذان الرجلان في بدء التجربة بمثابة كاشف قوي لأسباب ما وصلت إليه نتائج التجربة المؤسفة فيما بعد، ذلك أن اختيار القيادات الإدارية للقطاع العام في المراحل التالية لم يكن قادرا علي أن يصل إلي مثل هذا المستوي المتميز الأول الذي كان مبشرًا بأمل كبير سرعان ما تبخر، وهكذا كان هذان الرجلان هما المواجهة التي سوغت القبول بفكرة إدارة الدولة للمال إدارة ناجحة قبل أن تتحول هذه الإدارة إلي ما تحولت إليه من عبء ونزيف.
نشأته ومناصبه العلمية
ولد الدكتور إسماعيل صبري عبد الله عام أربعة وعشرين 1924، وتلقي تعليما مدنيا متميزا حتى حصل على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة 1946 بدرجة امتياز، وكان أول الدفعة، ونال من فوره بعثة كلية الحقوق جامعة الإسكندرية إلى فرنسا حيث حصل على درجة الدكتوراه 1951 بأعلى تقدير مع تهنئة هيئة المناقشة، ونشرت الرسالة في دار نشر فرنسية.
بعد عودته من البعثة عمل بتدريس الاقتصاد بجامعة الإسكندرية .1951
مناصبه السياسية
اختير الدكتور إسماعيل صبري عبد الله مستشارا للشئون الاقتصادية والمالية لرئيس الوزراء 1954، وكان رئيس الوزراء هو جمال عبد الناصر نفسه، لكنه سرعان ما اعتقل، وعين بعد الإفراج عنه مديرا للإدارة الاقتصادية بالمؤسسة الاقتصادية عند إنشائها يناير 1957، ثم أضيفت إليه مسئولية الإشراف على قطاع البنوك والتأمين التابع للمؤسسة، كما عين رئيسًا للتحرير مسئولاً عن النشر الثقافي في دار المعارف .1965
عضويته في مجلس الوزراء في عهد السادات
وفي 14 مايو 1971 اختير عضوًا في مجلس الوزراء نائبًا لوزير التخطيط في وزارة الدكتور فوزي الثالثة، واحتفظ بهذا المنصب في وزارة الدكتور فوزي الرابعة سبتمبر 1971، ثم أصبح وزير دولة للتخطيط يناير 1972 في وزارة عزيز صدقي، واحتفظ بهذا المنصب في وزارة الرئيس السادات الأولي، وفي كل هذه الوزارات الأربع كان الدكتور السيد جاب الله السيد يشغل منصب وزير التخطيط، فكأنما كان لهذه الوزارة التي يعتبرها البعض هامشية عضوان في مجلس الوزراء، ثم أصبح الدكتور إسماعيل صبري وزيرًا للتخطيط أبريل 1974 في وزارة الرئيس السادات الثانية، واحتفظ بالمنصب في وزارة الدكتور حجازي الأولي سبتمبر 1974، ورأس اللجنة الوزارية للإنتاج والشئون الاقتصادية، بعد أن أصبح بمثابة أقدم الوزراء الاقتصاديين بعد رئيس الوزراء الدكتور حجازي نفسه.
عودته لمعهد التخطيط القومي
وعند تشكيل وزارة ممدوح سالم الأولى عاد إلي العمل مديرًا لمعهد التخطيط القومي 1975، لكنه ترك المناصب الحكومية بسبب صدور قرار جمهوري أكتوبر 1977 بنقله بدرجته إلى وزارة الحكم المحلي، وقد طعن على هذا القرار أمام القضاء الإداري وحكم مجلس الدولة ببطلان هذا القرار، وكان يروي أنه لم يطالب بتنفيذ الحكم مكتفيًا بصدوره، إذ أنه قرر العمل كخبير تنمية مستقل.
إسهاماته الدولية وتعاونه مع الأمم المتحدة
وقد دعي الدكتور إسماعيل صبري عبد الله لإدارة مشروعات بحثية مهمة، ولعضوية بعض الهيئات الأكاديمية، وقد اختير بصفته الشخصية 1976 عضوا في لجنة العشرين التي كونها المجلس الاقتصادي والاجتماعي لجامعة الدول العربية وكلف بإعداد تصور لاستراتيجية العمل الاقتصادي العربي المشترك، كذلك اختارته الأمم المتحدة عضوًا في لجنة من 15 خبيرًا دوليًا رأسها مالكولم فريزر رئيس وزراء أستراليا السابق لدراسة أزمة المواد الأولية الإفريقية 1988 ـ 1990، وصدر عنها تقرير نشر بالإنجليزية، كما انتخب رئيسا لجمعية التنمية الدولية، وهي منظمة غير حكومية 1982 ـ 1985، وبقي بعد ذلك عضوا في مجلس إدارة الجمعية حتي 1994.
وانتخب لعضوية مجلس إدارة معهد الأمم المتحدة لدراسات التنمية الاجتماعية في جنيف 1984 ـ1990 ، واختير منسقًا لإدارة دراسة حول أنساق التنمية وأساليب الحياة البديلة، في منطقة غربي آسيا وذلك باختيار لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لغربي آسيا الاسكوا، وبرنامج الأمم المتحدة لشئون البيئة، وكان عضوا في اللجنة التنفيذية للمؤسسة الدولية من أجل تنمية بديلة بسويسرا، وعضوا في جمعية الدراسات المستقبلية الدولية الفرنسية، وعضوا في اللجنة التوجيهية لمجلتها العلمية.
رئاسته لمنتدى العالم الثالث
وعمل الدكتور إسماعيل صبري عبد الله في فترات مختلفة من حياته كعضو في اللجان الأكاديمية لكل من معهد التنمية والتخطيط في إفريقيا ومقره داكار، والمعهد العربي للتخطيط بالكويت، ومعهد دراسات التنمية بجامعة جنيف، ومعهد الدراسات القانونية للتنمية بجامعة باريس.
انتخب الدكتور إسماعيل صبري عبد الله رئيسا لمنتدى العالم الثالث 1978 الـذي تأسـس في القاهـرة بجهـد شـارك هـو نفـسـه فـيـه، وأدار بالاشـتراك مع د. إبراهيم سعد الدين المشروع البحثي المستقبلات العربية البديلة الذي تعاقد على إجرائه منتدى العالم الثالث، مكتب الشرق الأوسط مع جامعة الأمم المتحد 1981 ـ1986، وقد نشر من أعمال هذا المشروع 15 كتابا بالعربية، وكتابًا ترجم إلى الإنجليزية ونشر في لندن بعنوان صور المستقبل العربي.
كذلك فقد أدار المشروع البحثي المصري مصر 2020 بالاشتراك مع د. إبراهيم سعد الدين، ود. إبراهيم العيسوي، وقد نفذه منتدى العالم الثالث بالتعاون مع عدد من الجهات الممولة من بينها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، وبنك الاستثمار القومي، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي.
إسهاماته وعضوياته المشرفة
وقد دعاه مكتب اليونيسيف الإقليمي بالاشتراك مع الأمانة العامة لجامعة الدول العربية في أثناء الإعداد لمؤتمر الأمم المتحدة حول الطفولة للإسهام بورقة بعنوان الخدمات الأساسية للطفل العربي، وقد وزعتها اليونيسيف على نطاق واسع، وصدرت الترجمة العربية في العدد الخامس من أوراق منتدى العالم الثالث 1979.
الخطة الزرقاء لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة
كذلك تولي الدكتور إسماعيل صبري عبد الله مسئولية تنسيق وإعداد دراسة كاملة عن قضية البيئة والتنمية في دول حوض البحر الأبيض المتوسط أطلق عليها اسم الخطة الزرقاء لبرنامج الأمم المتحدة لشئون البيئة 1980 ـ .1985
وقد اختاره الرئيس الراحل جوليوس نيريري عضوًا في لجنة الجنوب التي شكلها بناء على توصية من مؤتمر قمة عدم الانحياز في هراري وضمت 23 عضوا من أبرز الشخصيات الفكرية والتنفيذية في القارات الثلاث، واستمر عملها ثلاث سنوات 1987 ـ 1990 ، وصدر عنها تقرير التحدي للجنوب الذي ترجم إلى العربية.
وعلي المستوي القومي اختير الدكتور إسماعيل صبري عبد الله نائبا لرئيس الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والتشريع والإحصاء 1972 ـ 1994، وعضوا في المجمع العلمي المصري، وكان أول رئيس لمجلس إدارة الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية.
تكريمه
نال الدكتور إسماعيل صبري كثيرًا من التكريم وحصل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية1986 ، وكان مرشحا لجائزة مبارك في العلوم الاجتماعية أكثر من مرة، غير أنه لم ينلها، ويذكر له أنه كان بصفته الشخصية عضوًا في المجلس الأعلى للثقافة، لكنه استقال من عضوية هذا المجلس احتجاجًا على منح المجلس جوائز الدولة التقديرية لثلاثة من أقطاب العمل التنفيذي بينما كانوا لايزالون يشغلون مناصبهم العليا، ومن الطريف أن ثلاثتهم قد منحوا في ذلك العام جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية.
مؤلفاته
وعلى الرغم من أن طابع الدكتور إسماعيل صبري عبد الله الغالب في تأليفه كان طابع الارتباط بالندوات وبالمؤتمرات إلا أنه ترك مجموعة أخري من الكتب: دروس في الاقتصاد السياسي، وفي مواجهة إسرائيل، وتنظيم القطاع العام.. الأسس النظرية وأهم القضايا التطبيقية، ومحاضـرات في الاقتصـاد: أ تمهيد لدراسة مبادئ علم الاقتصاد، ب مدخل لدراسة الاقتصاد الاشتراكي، وكتابات سياسية 1965 ـ 1970، ونحو نظام اقتصادي عالمي جديد… دراسة قضايا التنمية والتحرر الاقتصادي والعلاقات الدولية، وفي التنمية العربية، ومصر الني نريدها، ووحدة الأمة العربية: المصير والمسيرة، ومصر 2020: وثيقة المشروع البحثي، وقضايا أساسية في السياسة الاقتصادية، وتوصيف الأوضاع العالمية المعاصرة.. أوراق مصر 2020 رقم 3، يناير 1999
[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي : تسعة عشر أستاذا وصديقا ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]