فقدت مصر في المستشار عبد الرحمن فرج محسن نموذجًا من رجال الحضارة الأصلاء الذين جمعوا بين حب الوطن، وعشق المهنة، وبين الإخلاص للشعب، والتفاني في أداء الوظيفة، وبين سمو اللفظ، ورفعة السلوك، وبين استشراف الخير، والعمل لأجله، وبين الدفاع عن الحق، والإقناع به، وبين تقديس القيم الرفيعة وصيانتها، وحب الجماهير والعمل من أجلها.
منارة من العرفان
ظل المستشار عبد الرحمن فرج محسن رحمه الله، حتى وهو مريض، منارة من منارات العرفان والحب، يهرع المحبون إلى مجلسه ليغترفوا من خزائن محبته وفهمه، وليفيدوا من تجاريبه وخبراته، وليستمعوا إلى رأيه الذكي، وحكمه الصائب.
وقد كان قادرًا على أن يصل إلى الحقيقة مهما أحاطت بها القشور الروتينية المضللة، أو المرايا الإعلامية العاكسة، أو الأشواك الإنسانية المؤذية، أو التراكمات الورقية الكثيفة، وكان قادرًا على أن يمضي حكم القانون، وأن يصل من بين أحكام القانون المتعددة إلى أكثرها توافقا مع الأخلاق من ناحية، ومع المنطق من ناحية ثانية، ومع المصلحة من ناحية ثالثة، ومع الحقوق المكتسبة بل والحقوق المشروعة من ناحية رابعة.
وكان المستشار عبد الرحمن فرج رحمه الله يقوم بكل هذه الأدوار وهو هادئ النفس، خفيض الصوت، مطمئن النفس، غير مغتر بما أفاء الله به عليه من نعمة العقل، وحكمة الفؤاد، ونقاء الضمير، وصفاء الروح.
وقد اجتمعت له من هذه الخصال الأربع أقدار لا تجتمع إلا لموهوب حقيقي، ولا تجتمع إلا في إنسان رضي الله عنه، وأرضاه، ودعا له الناس بالمزيد في كل حين.
نخلة باسقة للحق يستظل بها عارفو فضله
كان المستشار عبد الرحمن فرج رحمه الله نخلة باسقة يفيء إليها عارفو فضله فيستظلون بظله الوارف، ويستمعون إلى حديثه العارف، ويستمتعون بحبه الجارف، ويلقي بعضهم بعضًا في رحابه فيتعرفون إلى رموز في الفضل والذكاء والألمعية، كما يجدون أيضًا رموزًا للإخلاص والطموح والوطنية، نعم فقد كان مجلسه أينما حل مثابة وأمنا، كان مجلسه كما كان شخصه مهوي الأفئدة، وملتقي الصفوة.
نجح هذا الرجل في كل ما تولي من مناصب في أن ينتصر للحق، وفي أن ينحاز للوطن ولأبناء شعبه، وكما كان في كهولته نموذجًا فذًا للقاضي العادل المنصف، وللمشرع الحكيم الذكي، فقد كان في شبابه نموذجًا لرجل النيابة الذكي الحصيف، ولرجل القانون المشتعل بالوطنية.
من الآباء المؤسسين لهيئة النيابة الإدارية
كان المستشار عبد الرحمن فرج من الآباء المؤسسين لهيئة النيابة الإدارية، وكان من رؤسائها الأفذاذ، وكان عميدًا لأسرتها التي بذلت من أجل هذا الوطن واقتصاده وأمنه وإدارته أفضالا لم تسجل بعد ولم توف حقها، ولم تلق ما يليق بها من الاعتراف والتقدير والتأصيل.
كان وعي المستشار عبد الرحمن فرج بتاريخ التشريع المعاصر مضرب الأمثلة في الإحاطة وحسن الفطنة ودقة الفهم، وكان وعيه بظروف شعبه وطبقاته المختلفة مبعث الفخر للذين يحبون هذا الوطن وأبنائه، ولا يتعالون عليهم بأفكار مبتورة من الواقع.
عطاؤه في مجلس الشورى
كان المستشار عبد الرحمن فرج محسن في مجلس الشورى علمًا من الذين أكسبوا هذا المجلس احترامه ووفاره، وأسهموا في إنجازه، وفي صنع مكانته، وكان في وكالته للمجلس ومن قبل في رياسة اللجنة التشريعية فيه رمزًا من رموز التشريع الذكي الهادئ الذي يسهم في صنع التنمية، وفي تهذيب سلوك المؤسسات والجماعات في الوقت نفسه، كان أداؤه في هذا المجلس نموذجًا للعمل الهادئ المثمر، وللفكر النافذ القادر على استباق الواقع بذكاء الفهم وحسن التقدير.
نشأته وتكوينه العلمي
عاش عبد الرحمن فرج محسن حياته قمة وقيمة، محبا ومحبوبا، معطيا ومتفضلا، مترفعا ونزيها، ولست أذيع سرا إذا قلت إنه بنزاهته المفرطة اعتذر عن العمل في لجان فض المنازعات معللا اعتذاره بشغله لمنصبه التشريعي الرفيع في مجلس الشورى، ولست أذيع سرا آخر إذا قلت إنه كان يلح في أن يفسح مكانه في المجلس لغيره إذا طال به المرض الأخير، وعلى الرغم من وفاته فإن أحدا آخر في هذا الجيل لن يستطيع أن يشغل مكانه الأثير في قلوب كل مَنْ عرفوه.
ولد المستشار عبد الرحمن فرج محسن في قرية كفر مويس المتاخمة لمدينة بنها، والواقعة على بداية تفرع فرع بحر موسي من نهر النيل، وهو البحر الذي يمد منطقة محافظة الشرقية بالمياه العذبة، وكان والده عمدة هذه القرية، وتلقي تعليما مدنيا، وقد وجه كعادة الطموحين في جيله إلى إتمام الدراسة في كلية الحقوق، وتخرج في العشرين من عمره في جامعة الإسكندرية عام 1947 في دفعة من الدفعات الأولي التي تخرجت في كلية الحقوق الثانية.
وظائفه المبكرة
عمل المستشار عبد الرحمن فرج بعد تخرجه محاميا تم وقع عليه الاختيار ليعمل محققا في وزارة الشئون البلدية عند إنشائها، وسرعان ما أصبح مديرا للتحقيقات ببلدية القاهرة كلها 1954، ولما أنشئت النيابة الإدارية اختير عضوا فيها، وتدرج في وظائفها بنجاح واقتدار حتى أصبح رئيسا للهيئة كلها، وفي أثناء هذا نال درجة رئيس النيابة 1964، كما عمل مديرا عاما للشئون القانونية في الإصلاح الزراعي 1972.
رئاسته لهيئة النيابة الإدارية
تمتع المستشار عبد الرحمن فرج محسن بثقة رؤساء الهيئة المتعاقبين واعتمادهم على كفايته وحكمته، حتى أصبح هو نفسه رئيسا للهيئة في 1986 وحتى 1988، وبهذه الصفة كان عضوا في المجلس الأعلى للدراسات القضائية.
وفي أثناء ذلك اختير المستشار عبد الرحمن فرج محسن عضوا في كثير من اللجان القومية، فكان عضوا في اللجنة العليا للمحافظة على المال العام، وعضوا في لجنة الأحزاب السياسية، وقد وقع عليه الاختيار عضوا في مجلس الشورى 1989، فرئيسا للجنة التشريعية في المجلس، ثم وكيلا للمجلس.
انحيازه للحركة الوطنية
كان المستشار عبد الرحمن فرج محسن في بداية حياته ونهايتها منحازًا إلى الحركة الوطنية، وإلي روح الشباب، وإلى كل أمل في التقدم والرقي، والعمل من أجلهما.
تكريمه
نال المستشار عبد الرحمن فرج محسن كثيرا من التكريم والتقدير الرسمي، وحصل على وسام الجمهورية من الطبقة الأولي عند تقاعده 1988 أما التكريم الأهلي والشعبي الذي حظي به فلم يكن له حدود، ويكفي أن مجلسه كان أينما حل حافلا بالمريدين والمحبين والمتعلمين والناهلين من فضله وعلمه وحكمته، وكانت كلمته دائما مبعث تقدير واحترام، وكانت نصيحته دائما هي خير النصائح.
رحمه الله رحمة واسعه، وأسكنه فسيح جناته.
[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي : تسعة عشر أستاذا وصديقا ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]