الرئيسية / المكتبة الصحفية / محمود مرسي الفنان المفكر و الأستاذ المؤثر

محمود مرسي الفنان المفكر و الأستاذ المؤثر

 

أبدأ رثائي لمحمود مرسي بأن أشير إلى أن هذا الفنان العظيم ترك بريطانيا والإذاعة البريطانية الـ بي. بي. سي بكل مجده فيها عندما حدث العدوان الثلاثي على مصر في 29 أكتوبر 1956، أصرّ هو وزميله وصديق عمره الأستاذ الدكتور محمد زكي العشماوي ومعهما كثيرون من المخلصين، على أن يظهروا احتجاجهم في صورة يدفعون ثمنها من وظائفهم.. والواقع أنه ظل على هذا الأسلوب طيلة حياته.. فقد ظل يدفع الثمن من جهده ومن مجده على حد سواء.

شخصية جبارة صاحبة فكر ورأي

كان هذا الفنان العظيم شخصية جبارة عملاقة صاحبة فكر ورأي، وقد عبر عن رأيه وفكره من خلال أدواره التي لعبها باقتدار وانتقاها بإخلاص، وكان محمود مرسي واعيا كل الوعي لما كانت تجره عليه آراؤه الجريئة، لكنه كان أكبر من أن ينافق سياسة أو مجتمعا أو اتجاها من الاتجاهات.

كان بحكم تربيته الفاضلة وقيمه الرفيعة وثقافته الواسعة قادرا على أن يدرك حقيقة الدور الذي لابد لمثله أن يلعبه، وكان يعرف أنه ليس فردا في فريق المنشدين، وإنما هو قائد لأوركسترا في بعض الأحيان، وعازف منفرد بل متفرد في أحيان أخري، ولم تكن مصادفة أن يؤدي محمود مرسي دور الأستاذ عباس محمود العقاد في المسلسل الذي صور حياة ذلك العملاق وأذيع منذ ربع قرن، لكن أثره لا يزال باقيا في وجدان مَن استمتعوا بمشاهدته، وهو المسلسل الذي لم يُعرض إلا مرة واحدة.

كان ضميراً لمجتمعه

كان محمود مرسي يجيد التمثيل، كما كان يجيد التجسيد، كما كان يجيد التشخيص، وقلما اجتمعت لأحد من قنانينا هذه القدرات الكبار بالدرجة ذاتها من التجويد في كل واحدة منها.

كان إذا لعب دورًا محددًا أضاف إليه وأضفي عليه من عبقريته وأدائه حتى لا تكاد تتصور أن أحدا غيره يمكن له أن يؤدي الدور نفسه.

وكان إذا أراد التعبير عن قيمة من القيم التي تتمثل في بشرٍ من البشر فاق تصويره للقيمة كل ما تراه أعيننا في الواقع الحي.

وكان إذا أراد أن يتحدث بضمير الغائب حوّل الغائب إلى حاضر حتى لنكاد نحس أنه حاضر بالفعل أمام أعيننا جهارًا نهارًا.

وفي الأعوام الأخيرة استسهل أهل الفن أن يُضَمِنّوا الأعمال الفنية بعض مونولوجات طويلة يختصر بها التعبير عن معان يصعب تصويرها إلا في وقت ممتد، ولم يكن ممكنا لغير محمود مرسي أن يتقبل مثل هذه الفكرة ولا أن يؤديها على هذا النحو من الإتقان والتمكن والتألق.

كان محمود مرسي ضميرًا في مجتمعه الذي كان يئن في لحظات كثيرة وهو يبحث عن ضمير يعبر في عمل فني عن حياة لا تزال تنبض في وجدان شعب مؤمن بالله وبالوطن وبالحق وبالقيم العليا، ولهذا أدي محمود مرسي أدوارًا متعددة عمّقْت من إحساس الوطن والمواطنين بكل القيم الرفيعة والنبيلة.

إيمانه برسالة الفن في المجتمع

كان محمود مرسي وهو دارس الفلسفة وعاشقها واعيًا لحقيقة أن الغاية من الفن أرفع من أن تكون تصويرًا لفنان في موضع رفيع أو في صورة جميلة، لهذا تقبل أداء أدوار الشر التي تجلب له الكراهية مضاعفة لكنها في المقابل كانت كفيلة بأن تنجي المجتمع من الوقوع في أسر القوالب الخاطئة والمغلوطة في السلوك والسياسة.

وهكذا قدر لمحمود مرسي، من خلال أعماله وأدواره، أن يكون في طليعة الذين حذروا من مناخ الخوف حين اشتدت قبضة الدولة وأجهزة الشمولية في الستينيات، كما كان من الذين كشفوا بكل وضوح عن الأسباب الحقيقية والمتجاهلة لهزيمة 1967، كما كان من الذين نبهوا إلى سلوكيات الانفتاح الضارة، وإلى خطورة سيطرة الأخلاق الجديدة التي أفرزتها التحولات الاجتماعية، وإلى صعوبة تقبل أفكار بعض الجماعات الدينية.. وهكذا ظل محمود مرسي طيلة حياته الفنية الممتدة يعيش نبض المجتمع بعقل مفتوح سابق في فكره للواقع المُعاش، ويعبر عن نتاج هذا العقل من فكر وأداء، وكان تعبيره بأدائه أقوي من أي نصوص مكتوبه، وكان أثره أعمق في النفوس من كل ما أتيح لذوي التأثير أن يستغلوه من رسائل.

وطني مخلص لقيم الحرية والإنسانية

عاش محمود مرسي وطنية دافقة تعلي من قيم الاستقلال والحرية والإنسانية والرقي، وظل مخلصًا لهذه القيم، وما تمثله وما تتطلبه، ولم يكن حريصًا، بأية درجة، على استرضاء الاتجاهات السياسية المتعددة، ولا على إظهار انتمائه لهذا الاتجاه أو ذاك، ولا على الإفادة من التناقضات المذهبية بين هؤلاء وأولئك، ظل الوطن هو قلبه وعقله ووجدانه، ولهذا سيظل محمود مرسي في قلب الوطن وعقله ووجدانه.

بدأ محمود مرسي حياته في مدرسة أجنبية، وقادته فطرته السوية وتربيته الوطنية إلى مزيد من حب الوطن، ودرس الفلسفة فازداد حبا للمعرفة وغراما بالعلم في جميع صوره، وكان يفهم الفن على أنه علم في المقام الأول، ومن أجل هذا العلم سافر إلى باريس حيث درس وتعلم وصقل موهبته وتخرج، ووجد الفرصة أمامه على صعيد عالمي فعمل في لندن بعدما درس في باريس، وبعدما بدأ دراسته في مدرسة إيطالية. وهكذا كان محمود مرسي جامعًا لأطراف ثقافات عالمية عن عمق وعن تمرس.

من الإخراج إلى التمثيل

وكما بدأ محمود مرسي حياته الدراسية في مدرسة أجنبية فإنه بدأ حياته الفنية بالإخراج، وظل يعمل به حتى اكتشف أن عليه أيضًا أن يؤدي بدلاً من أن يوجه، وكأنه وجد نفسه على حين فجأة يعاني من أن أفكاره في تكوين الصورة لا تجد مَنْ ينفذها على نحو ما يحلم أو على نحو ما يشتهي، فآثر أن يقوم بالأمر بنفسه وأن يمثل، وهكذا بدأ محمود مرسي نشاطه في التمثيل ممثلاً عملاقًا متمكنًا قادرًا علي أن ينقل الخلجات، وأن يصور السكنات، وأن ينطق الإيماءات، وأن يحرك الجمادات، وكان مع هذا كله أستاذًا يحيط تلاميذه بحبه وحدبه وبتوجيهه قبل توبيخه، وبالمثل الذي يرسمه قبل الصورة التي يطلبها.

مارس الأستاذية الأكاديمية من دون استعلاء

هكذا مارس محمود مرسي الأستاذية الأكاديمية من دون استعلاء فأثر في أجيال كانت تفتقد مَنْ كانوا في قدره وقدرته، وبقي أثره أكثر من هذا في أعماله التي ستظل على مدي السنوات بمثابة نموذج للإبداع والتفوق والتجديد نستلهم منها عظمة الفنان، وصدق الوجدان، وقيم الإتقان.

وعلى المستوي الشخصي فقد كان تأثيره طاغيًا في أولئك الذين عاشروه كما كان تأثيره ممتدًا ومحفوفـًا في ذاكرة من اقتربوا منه، ومع أنه كان سريع الغضب فإنه كان لا يصدر في غضب إلا عن نفس تنشد الأفضل.

عاش حياته مع الفكر بعيداً عن الحياة

وقد عاش محمود مرسي حياته دون أن يغرق في الحياة وتبعاتها ومشكلاتها ولذاتها ومشاغلها وصراعاتها، فكان أكبر من الحياة، كما كانت حياته أكبر من الفناء، ولعل أحدًا من فناني عصره لم يعش حياة فكرية رفيعة القدر والمستوي على نحو ما عاش هذا الفنان العظيم.

كان الكتاب صديقه، وكان الفكر أقرب إليه من الحياة، وكان أصدقاؤه الأقربون ثلة من أهل الفكر والأدب الرفيع ارتبط بهم وأغناه حبهم حتى على البعد عن صخب الحياة الفنية والاجتماعية.

أقرانه المتميزون

كان أبعد الناس عن نجوم المجتمع، وعن رجال الأعمال، وعن الجمهور الذي تعود أن يحيط بأمثاله من أهل الفن، وقد رزق بحكم ثقافته الرفيعة بصداقة عدد من كبار مثقفينا من طراز الدكاترة محمد زكي العشماوي، وأحمد أبو زيد، وعبد الحميد صبرة، ومحمد مصطفي بدوي، ومصطفي صفوان، وإدوار الخراطK  وغيرهم من أفضل العقول التي أنجبتها مصر في العصر الحديث، ممن لا يعرف قدرهم الحقيقي إلا أمثال محمود مرسي، وممن لم يكن محمود مرسي قادرًا علي أن يعرف مَنْ هم أقل منهم، وهو الذي بدأ حياته في مدرسة من مدارس الحزب الوطني القديم مع رموز للوطنية من طراز مصطفى مرعي بك، وياقوت السهوي، ووالده العظيم مرسي بك محمود، الذي كان نقيبًا للمحامين في الإسكندرية.

رحمه الله رحمة واسعة، وعوضنا عنه، ونفعنا بما ترك من علم نافع تجلي في فن رفيع القدر، عميق الأثر، ذكي الأهداف والغايات، عطر السيرة والغاية.

[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي : تسعة عشر أستاذا وصديقا ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com