مكانته في تاريخ وطنه
كان الشـيخ محمـد خاطـر واحـدًا من فقهاء الشريعة المعدودين في جيله، وقد مارس العمـل الفقهي علي جميع مستوياته سواء في منصب الإفتاء، وفيما قبله، وفيما بعده، وقد برزت مواهبه وقدراته منذ كان طالبًا في الأزهر وتخـرج فـي كلية الشريعة متفوقًا علي أقرانه، وعمل في القضاء الشرعي، وأثبت ذاته وعلمه وكفايته، فلما أصيب رجـال القضـاء الشرعي بمحنتهم الوظيفية الرهيبة حين ضموا إلى سلك القضاء المدني مع تأخير أقدمياتهم وترقياتهـم إلي حدود قاربت العشرين عامًا مـن مجمـوع سنوات الخـدمة الـذي لم يكن يتجـاوز أربعين عاما، لما حدث هـذا التوجـه الذي لا يمكن وصفه إلا بأنه كان نوعًا من أنواع المحنة نجح الشيخ محمد خاطر بكفاءة شخصية منقطعة النظير أن يتخطى الحواجز والمصاعب وأن ينافس رجال القضاء المـدني في عملهـم وأن يثبت تفـوقه وأن يحصل علي ترقيات متوالية أهلته، وهو القاضي الشرعي، لأن يصبح مستشارًا في محكمة النقض قبل أن يتولى منصب الإفتاء.
بحوثه القضائية والتشريعية
بل إن محمد خاطر كان مبرزًا أيضًا في البحوث القضائية والتشريعية وقد وجد في نفسه كفاءة لأن يشارك في بحوث ومؤتمرات الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع وأن ينشر بحوثه في مجلتها العريقة مصر المعاصرة.
بسطة في الجسم والعلم والعمر
رزق الشـيخ محمد خاطـر بسطة في الجسم، وفي العلم، وفي العمر أيضًا، وفي الـذرية التي أنعـم الله بها عليه، وفي الرزق كذلك، وكان رحمه الله ذاكرًا لكل هذه النعم شاكرًا ربه عليها كلها، وقد كان أداؤه السياسي والقضائي والتنفيذي والديني على مستوي ما أنعم الله به عليه، وكان شديدًا في الحق، صريحًا في قوله، مترفعًا عن الدنايا، بعيدًا عن الدنيا كلما اقتربت منه، كان طموحًا إلى ما ينبغي له أن يطمح إليه، ومتعففًا في ذات الوقت عما لا ينبغي له أن يرضي به.
توليه منصب الإفتاء
تولي الشيخ محمد خاطر منصب الإفتاء في السبعينيات 1970 ـ 1978 فتميز أداؤه بالفهم وبالحرص علي مكانة علماء الدين، وقد خلف في منصبه مجموعة من المفتين الذين عانوا من سلطة الدولة وسلطانها ونفوذها لكنه حين تولي الإفتاء رُزق في الوقت ذاته مواكبةً من مناخ جديد كان حريصا علي الإعلاء من قيمة المؤسسات، أو علي التظاهر بهذه الروح علي الأقل، وهكذا قُدر له أن يعيد إلي المنصب في شخصه قوة كان المنصب قد افتقدها منذ عهد الشيخ عبد المجيد سليم المفتي الأشهر، ومع أن الشيخ محمد خاطر لم يكن بحكم ظروف عصره قادرًا علي أن يُسمع صوته علي نحو ما فعل الشيخ عبد المجيد سليم في عصر الليبرالية إلا أنه وظف المواقف السلبية توظيفًا ذكيًا كان كفيلاً بأن يحسم المعارك في صفه، وفي صف رؤيته الإسلامية المستنيرة الأفق، والقادرة على الحفاظ للمجتمع الإسلامي علي توجهه نحو المثل العليا والترابط الاجتماعي.
وقد كانت النتيجة الطبيعية لممارساته وأدائه المتميز أن عاد إلى منصب الإفتاء رونقه ومكانته ومهابته، وليس من شك في أنه كان للشيخ محمد خاطر بشخصيته وشخصه فضل في هذا كله.
تضحيته بالمناصب الرسمية
عاصر الشيخ محمد خاطر وهو في منصب الإفتاء الطفرة الاقتصادية التي أصابتها البلدان العربية والإسلامية، وكان بحكم فهمه الفقهي مدركًا لدور المال في التنمية الاجتماعية قبل الاقتصادية كما كان مدركا للدور الذي يتطلب نشأة مؤسسات اقتصادية جديدة بل نشأة فقه جديد يتعامل مع أسواق النقد ومع التجارة العالمية بأسلوب يستمد مقوماته من شريعة الإسلام، وتراثه الفقهي العريق في المشاركة والمزارعة وما إليها من الصور الفقهية التي تحكم آليات الموازنة والتعاون بين أهم موردين من موارد التنمية وهما الأيدي العاملة ذات الكفاءة، والمال القادر علي التمويل..
وقد وجد الشيخ خاطر أن من واجبه الشرعي أن يتصدى بالبحث والدرس للآليات الاقتصادية التي استحدثها الغرب ليهذب من سطوة المال بما شرعه الإسلام وتوصل إليه فقهاء المسلمين على مدي العصور المتتالية، وهكذا توصل الشيخ محمد خاطر إلي إرساء مفهوم الرقابة الشرعية في البنوك، وإلى توليد فكرة المعاملات الإسلامية وهي فكرة تفوق في ذكائها وقابليتها للتطبيق كل محاولات التشكيك أو التلفيق..
مفهوم الرقابة الشرعية على أعمال المصارف
ومن حسن الحظ أن الشيخ محمد خاطر قد آثر لنفسه قرب نهاية السبعينيات أن يضحي بالمناصب الرسمية وبالطموحات المشروعة إلى المناصب الدينية العليا وأن يلتفت إلى إرساء هذا المفهوم في العمل الاقتصادي الإسلامي من خلال مؤسسات مصرفية عالمية مكنت له ولأفكاره، وأثبتت وستظل تثبت مدي صواب رؤيته، وذكائه في أن يضيف إلى الفقه الإسلامي بابًا في فقه المعاملات يكفل للإسلام ما يستحقه من مكانة في النظريات الاقتصادية العالمية ويحقق له ما يتطلبه من مرونة وقدرة على توجيه التنمية من أجل صالح الشعوب الإسلامية.
كان عالما عاملا
وخلاصة القول فيه أنه كان عالما عاملاً ذكيا رضيا أبيا وفيًا جمع الذكاء الخارق إلى الذاكرة الفولاذية، وحسن المعشر إلى سمو الالتزام، وقد أتيح لي أن أعرفه في رحلة طيران، وأن أواصل هذه المعرفة بعد ذلك لأستمتع بكل ما كان في عطائه من ذكاء وفهم.
وخلاصة القول في سيرة حياته أنه ولد عام 1913 في السادس من أغسطس في المطرية محافظة الدقهلية، وتخرج في كلية الشريعة 1939 ثم نال الشهادة العالمية مع الإجازة في القضاء الشرعي 1941 وتدرج في مناصب القضاء الشرعي حتى ضم هذا القضاء مع القضاء المدني، فتدرج في مناصب القضاء حتى درجة مستشار في محكمة النقض.
وقد كانت للشيخ خاطر مؤلفات قيمة منها: أحكام الدعوي، المعاملات في الشريعة الإسلامية أحكام الحدود والقصاص والتعزيرات، أحكام الأسرة، تاريخ القضاء في الإسلام، جهاد في رفع بلوي الربا، الفقه الإسلامي والمعاملات المعاصرة.
وقد نال كثيرًا من التكريم من كثير من دول العالم الإسلامي وبخاصة مصر والسعودية والأردن والسنغال.
رحمه الله رحمة واسعة وعوضنا عنه خيرًا.
[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي : تسعة عشر أستاذا وصديقا ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]